للعبادة والتوكل ثمرات ولوازم؛ فالعابد المتوكل مستسلم لربه، قابل لشرعه، سليم السلوك، مقدام ثابت القلب.

مقدمة

العبادة والتوكل لهما لوازمهما ومقتضياتهما وما تثمرانه في النفس والحياة من آثار عظيمة القدر والنفع في الدنيا والآخرة .

فإن لم تظهر هذه الآثار واللوازم فإن هناك دخلا وانحرافا في فهم أو تطبيق هذين الأصلين العظيمين؛ فالعبرة بما يظهر من الآثار لعبادة الله عز وجل والتوكل عليه، وليست مجرد قول القائل بلسانه: “آمنت بالله”، و”أنبت إلى الله”، و”توكلت على الله”؛ فالعبرة بالحقائق لا بالصور، وبالاستسلام والإذعان لا بالقول باللسان فحسب.

من آثار ولوازم العبادة والتوكل

الدخول في السلم كافة

العبودية لله عز وجل تقتضي الدخول في السلم كافة، وإنفاق العمر كله في عبادة الله عز وجل، لا يخرج العبد فيها عن وصف العبودية لحظة واحدة من لحظات العمر؛ وهذا يقتضي أن تكون جميع حركات العبد وسكناته منبثقة من العبودية لله سبحانه والاستسلام لشرعه؛ فهو عبد مطيع لربه في مسجده، وفي بيته ومدرسته، وفي متجره، وفي عمله، وفي حكمه وتحاكمه، وفي حبه وبغضه، وعطائه ومنعه.. وبهذا يتحقق وصف العبودية التامة لله عز وجل، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163].

وبهذا الفهم والتطبيق تختفي تلك الصور المنحرفة لفهم العبادة وتطبيقها المنحرف أيضا مثل أن تحصر العبادة في المسجد أو في شعائر التعبد فقط، ولا دخل لها بعد ذلك في شئون الحياة.

الحكم بشرع الله والتحاكم إليه وحده ورفض ما سواه

إن من لوازم العبودية الصادقة لله عز وجل محبة شرعه وحكمه وبغض ورفض ما يضاده؛ حيث يمتنع ادعاء محبة الله عز وجل ومحبة ما يكرهه أوترك ما يحبه، كما يمتنع ادعاء محبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومتابعته مع ترك سنته والحكم بشريعته.

إذن فالعبودية لله سبحانه تقتضي محبة شرعه والحكم به والتسليم له ورفض ما سواه من أحكام البشر الجاهلة الجائرة الفاسدة المفسدة، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:15].

العزة والشرف والتحرر الحقيقي

إن العزة وكمال الشرف، والحرية الكاملة من عبودية البشر؛ لا تكون إلا في تحقيق العبادة لله عز وجل والاستعانة به وحده. وعلى العكس من ذلك فإن الذلة والمهانة والرق الحقيقي هو في الابتعاد عن عبادة الله تعالی وطاعته؛ لأن أي مكلف يرفض الدخول في عبادة الله عز وجل، فلابد أن يدخل في عبودية غيره من المخاليق الضعفاء. ومعلوم ما في استعباد المخلوق لمخلوق مثله من الذلة والرق والظلم والفساد. وهذه سنة الله عز وجل في عباده .

والإنسان لا يبلغ كماله الحقيقي وشرفه الأعلى إلا في العبودية لله وحده والرفض الكامل لعبودية ما سواه، وهذا الكمال البشري هو الذي وصل إليه أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي خاطبه ربه سبحانه في أعلى مقاماته التي وصل إليها: مقام تلقي الوحي، ومقام الإسراء، خاطبه فيهما بوصف العبودية؛ لأنها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يصل إليها الإنسان .

قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا﴾ [الكهف: 1]، وقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1].

يقول سید قطب رحمه الله تعالی:

“إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية، وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم البعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة؛ سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع… فكلها عبودية، وبعضها مثل بعض؛ تخضع الرقاب لغير الله، بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله.

والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين..! لابد للناس من دينونة، والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة..!

إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط ، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ، ويندرجون في عالم البهيمة: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾ [محمد: 12]، ولا يخسر الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة..

وهذا يقودنا إلى قيمة “توحيد العبادة والدينونة” في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد في صورة من صور الدينونة ، سواء في صورة حاکمية التشريع ، أو في صورة حاکمية الأعراف والتقاليد ، أو في صورة حاکمية الاعتقاد والتصور..”. (1في ظلال القرآن (3/ 1939، 1940))

[للمزيد: المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحراف المفهوم]

سلامة السلوك والتزام أوامر الله سبحانه وترك معاصيه ودوام مراقبته

وهذا من أعظم ثمار العبادة وآثارها، وإلا فما قيمة عبادة لا تثمر طاعة المعبود واجتناب معاصيه، ومحبة محابه وبغض ما يبغضه..؟!

وإن التساهل في التزام ما يحبه الله عز وجل من الأخلاق الفاضلة وترك مساوئها يؤول في نهاية الأمر إلى خلل في عبادة الله سبحانه وتوحيده. وإلى هذا نبه العلماء الربانيون وحذروا؛ يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالی:

“إن عبودية الله تقتضي إشغال جميع الجوارح والأحاسيس في طاعة الله وامتثال أمره؛ لينحصر الاتجاه إليه سبحانه وتعالى في كل ما ركَّبه في جسم الإنسان، كما تقتضي كفها وصيانتها عن الانشغال بما لا يرضي الله من كل محرم ومکروه، وعن الانهماك في المباحات المشغلة”. (2صفوة المفاهيم والآثار (1/ 162))

ولا شيء يضبط السلوك ويأْطر النفس على محاسن الأخلاق وترك سیئها مثل عبادة الله عز وجل، والخوف منه سبحانه، ورجاء ثوابه ومراقبته في كل حين، وإذا لم يوجد هذا الشعور فإنه لا تنفع أي محاولة مهما كانت في تهذيب سلوك الناس.

الإقدام والشجاعة، والثبات على الحق، والطمانينة

الصادق مع الله عز وجل في عبادته واستعانته به سبحانه لا تراه إلا رابط الجأش شجاع القلب ثابتا على مبدئه مستهينا بالباطل وأهله، وكيف لا وهو يأوي إلى ربه القوي العزيز رب كل شيء ومليكه، يعبده ويستعينه، ويفوض أمره كله إليه .

ولمّا كانت العبادة لا تقوم ولا تُقبل إلا بالإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يمكننا القول بأن الثبات والطمأنينة وقوة العزيمة وإبطال كيد الكائدين لا بد له من أمور ثلاثة:

1- إخلاص الأمر الله عز وجل.

۲- أن يكون العمل حقا مشروعا متبعا فيه الرسول  صلى الله عليه وسلم.

٣- الاستعانة بالله عز وجل في ذلك والتوكل عليه والتبرؤ من الحول والقوة، والخلوص من العُجب والكبر، والحذر من الاغترار بالنفس والأتباع .

وعن هذا الأثر العظيم للعبادة والاستعانة يحدثنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى؛ فيقول:

“إذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا، وكان قيامه بالله؛ والله لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرَجا ومخرجا، وإنما يؤتَى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد.

فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول.

وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنیوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه. فهذا لم تُضمن له النُصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نُصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر.

والصبر منصور أبدا، فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة.

وإذا قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوَّته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه، بَريّا من الحول والقوة إلا به؛ فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك .

ونكتة المسألة: أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤیَّد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء”. (3أعلام الموقعین (2/ 178))

خاتمة

لن يجد العبد طعم الحرية ولا استقامة الحال ولا القوة على العمل إلا من خلال تجريد العبادة والتوكل على رب العالمين. فما أعظم الآثار وأطيبها.

………………………..

الهوامش:

  1. في ظلال القرآن (3/ 1939، 1940).
  2. صفوة المفاهيم والآثار (1/ 162).
  3. أعلام الموقعین (2/ 178).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة