بيت العنكبوت 1

العنكبوت: مؤنت عَنكَب، والجمع: عَنْكبُوتات، وعَنْاكِبُ، وعَناكِيبُ.

عَنكبوت: (الحيوان) دويْبَّة من رتبة العنكبيّات، نوع من المفصليّات البريّة يلتحم رأسها بصدرها، وبأسفل بطنها أعضاء للتَّنفس ومجموعة المغازل، لها أربعة أزواج من الأرجل تنسج نسيجًا رقيقًا مهلهلاً تصيد به طعامَها، والغالب عليها التَّأنيث: كناية عن الضَّعف والوهن.

لماذا بيت العنكبوت؟

لأنه بيت لا يقي من حر ولا من برد، وهو عبارة عن خيوط متشابكة تهزها الرياح وتخترقها الأمطار وتتلاشى بأدنى ملامسة، ناهيك على أنه يعتبر مصيدة للزائرين وفخّاً للمارين العابرين..

بيت لا سقف له ولا أساس، ولا أعمدة له ولا جدران، تحس كأنه به وبدونه سيان.

لذا بيت كهذا الوهن أقرب إليه في كل وقت وهو في كل لحظة معرض للخراب، والعنكبوت يعلم هذا ويدركه وليس متفاجئ منه لأنه قد يشيد بيتا آخر بنفس مواصفات الوهن في أي لحظة شأن المشاريع الفاسدة تنشأ من الوهم لتحقق غاية فاسدة ثم تتعرض للخراب.

تأويل المفسرين: صورة الضعف وسوء الاختيار

في سياق الآية الكريمة ندرك لماذا مثل الله تعالى ببيت العنكبوت، وما هي الصورة الممثلة لها ببيت العنكبوت ؟

نقرأ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:٤٢] .

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: مثل الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم، وقبح رواياتهم، وسوء اختيارهم لأنفسهم، (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) في ضعفها، وقلة احتيالها لنفسها، (اتَّخَذَتْ بَيْتًا) لنفسها، كيما يُكِنهَا، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نـزل بهم أمر الله، وحلّ بهم سخطه أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا، ولم يدفعوا عنهم ما أحلّ الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم.

وقال الإمام السعدي في تفسيره لهذه الآية: ” هذا مثل ضربه اللّه، لمن عبد معه غيره، يقصد به التعزز والتَّقَوِّي، والنفع; وأن الأمر بخلاف مقصوده، فإن مثله; كمثل العنكبوت; اتخذت بيتا، يقيها من الحر، والبرد، والآفات.

”وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ“ أي: أضعفها وأوهاها ”لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ“.

فالعنكبوت من الحيوانات الضعيفة وبيتها من أضعف البيوت فما ازدادت باتخاذه إلا ضعفا.

العبرة بالعاقبة: اتكال المشرك على وليّه كاتكال العنكبوت على بيتها

كذلك هؤلاء الذين يتخذون من دونه أولياء فقراء عاجزون من جميع الوجوه.

وحين اتخذوا الأولياء من دونه يتعززون بهم ويستنصرونهم ازدادوا ضعفا إلى ضعفهم ووهنا إلى وهنهم.

فإن اتكلوا عليهم في كثير من مصالحهم وألقوها عليهم تخلوا هم عنها على أن أولئك سيقومون بها.

فخذلوهم فلم يحصلوا منهم على طائل ولا أنالوهم من معونتهم أقل نائل فلو كانوا يعلمون حقيقة العلم حالهم وحال من اتخذوهم لم يتخذوهم ولتبرأوا منهم ولتولوا الرب القادر الرحيم الذي إذا تولاه عبده وتوكل عليه كفاه مئونة دينه ودنياه وازداد قوة إلى قوته في قلبه وبدنه وحاله وأعماله.

ولما بين نهاية ضعف آلهة المشركين ارتقى من هذا إلى ما هو أبلغ منه وأنها ليست بشيء بل هي مجرد أسماء سموها وظنون اعتقدوها.

وحقيقة هذا الوهن يدركه العنكبوت نفسه لأن العنكبوت يمكث في بيته الذي يزاول فيه جميع أنشطته الحياتية‏،‏ وقد يتخذ له عشا أو مخبأ غير البيت يرتبط به بخيط يعرف باسم خيط المصيدة‏.‏ ويهرب إلي هذا المخبأ في حالات الخطر‏. حتى هو نفسه لا يجد الأمان في بيته.

دلالة التأنيث: الإعجاز العلمي في “اتَّخَذَتْ بَيْتًا”

نأتي لمعنى آخر في الآية الكريمة والتي تعتبر في غاية الدقة وهي قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا}.

أولا: أسند الله تعالى البناء للمفرد العنكبوت بخلاف ما تحدث الله عن النحل والنمل بصيغة الجمع وذالك لأنهم يعيشون في مجتمعات مجتمعة متناسقة متعاونة، بينما العنكبوت تعيش بمفردها في هذا البيت إلا في حالات استثنائية لحظة التزاوج وتفقيص البيض فيكون معها الزوج.

ثانيا: قال تعالى: { اتخذت بيتاً } اتخذت بتاء التأنيث بعد أن ذكر العنكبوت فهي إشارة واضحة إلي أن الذي يقوم ببناء البيت أساساً هي أنثي العنكبوت‏،، وعلى ذلك فإن مهمة بناء بيت العنكبوت هي مهمة تضطلع بها إناث العناكب التي تحمل في جسدها غدد إفراز المادة الحريرية التي ينسج منها بيت العنكبوت‏.‏ وإن اشترك الذكر في بعض الأوقات بالمساعدة في عمليات التشييد‏ أو الترميم‏ أو التوسعة‏، فإن العملية تبقي عملية أنثوية محضة‏، ومن خلال معلومات عن حياة العناكب نعلم أن الأنثى تكون دائما أكبر حجما من الذكر وهي أكثر منه إفرازا لخيوط الشبكة، ومن هنا كان الإعجاز العلمي في قول الحق تبارك وتعالى:‏ { اتخذت بيتا‏} وليس خطأ قرآنيا كما يزعم كثير من المستشرقين ومن خبثت نفوسهم.

التفسير اللغوي: ما هو الوهن؟

(الوَهَن: ضعف يلحق القلب، والضَّعف مطلقًا اختلال القوَّة الجسمية)

قال الفيروزآبادي: (الوَهْن والوَهَن- مُحرَّكة- الضَّعف في العَمَل، وقيل: الضَّعف مِن حيثُ الخَلْق والخُلُق

قال أبو هلال العسكري في الفرق بين الوهن والضعف:

إنَّ الضَّعف ضدُّ القوَّة، وهو مِن فعل الله تعالى، كما أنَّ القوَّة مِن فعل الله، تقول: خلقه الله ضعيفًا، أو خلقه قويًّا. وفي القرآن: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النَّساء: 28

والوَهَن: هو أن يفعل الإنسان فِعْل الضَّعيف، تقول: وَهَن في الأمر يَهِن وَهْنًا. وهو وَاهِن إذا أخذ فيه أخذ الضَّعيف، ومنه قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ) [آل عمران: 139].

أي: لا تفعلوا أفعال الضُّعفاء وأنتم أقوياء على ما تطلبونه بتذليل الله إيَّاه لكم.

ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّه لا يُقَال: خلقه الله واهِنًا، كما يقال: خلقه الله ضعيفًا، وقد يُسْتَعمل الضَّعف مكان الوَهَن مجازًا في مثل قوله تعالى: (وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ). [آل عمران: 146].

أي: لم يفعلوا فعل الضَّعيف. ويجوز أن يقال: إنَّ الوَهَن هو انكسار الجسد بالخوف ونحوه، والضَّعف نقصان القوَّة، وأما الاستكانة فقيل: هي إظهار الضَّعف، قال الله تعالى: (وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ) أي: لم يضعفوا بنقصان القوَّة ولا استكانوا بإظهار الضَّعف عند المقاومة..

ثم إن هذا الوهن الحاصل في بيت العنكبوت وهن مادي ومعنوي:

أولا: الوهن المادي: أقوى الخيوط تُنتج أوهن البيوت

بيت العنكبوت من الناحية المادية البحتة أضعف بيت على الإطلاق‏، لأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك‏ مع بعضها البعض تاركة مسافات بينية كبيرة في أغلب الأحيان‏، ولذلك فهي لا تقي حرارة شمس‏، ولا زمهرير برد‏، ولا تحدث ظلاً كافياً‏، ولا تقي من مطر هاطل‏، ولا من رياح عاصفة‏، ولا من أخطار المهاجمين‏، وذلك على الرغم من الإعجاز في بنائها.

وعلى الرغم ما أثبته العلم من قوة هاته الخيوط ومتانتها فإنها لا تستطيع أن تقيم بيتا آمنا قويا إذ يحتاج ذلك لأساس قوي وأعمدة ثابتة وجدران صلبة داعمة فإن انتفى هؤلاء فلا معنى ذلك أن تكون الخيوط قوية.

قال الدكتور محمد الفار أستاذ ورئيس شعبة الكيمياء الحيوية بعلوم المنصورة في مقال له نشر في جريدة الأهرام:

“والعجيب أن من هذه الخيوط‏ (‏القوية‏)‏ تصنع بيوت العنكبوت‏ (الضعيفة)‏ الواهية والواهنة‏.‏ وإلى هذا يشير المولى عز وجل في قوله تعالى:

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

الوهن في بيت العنكبوت وليس في الخيوط: فقوله تعالى ( وإن أوهن البيوت ) فيه إشارة صريحة إلى أن الوهن والضعف في بيت العنكبوت وليس في خيوط العنكبوت وهي إشارة دقيقة جداً….

لأن خيط العنكبوت ليس أوهن الخيوط، بل على العكس هو من أقواها نسبياً

ثانيا: الوهن المعنوي: بيت محروم من المودة والرحمة

أن بيت العنكبوت من الناحية المعنوية هو أوهن بيت على الإطلاق لأنه بيت محروم من معاني المودة والرحمة التي يقوم على أساسها كل بيت سعيد‏،‏ وذلك لأن الأنثي في بعض أنواع العنكبوت تقضي على ذكرها بمجرد إتمام عملية الإخصاب وذلك بقتله وافتراس جسده لأنها أكبر حجما وأكثر شراسة منه‏،‏ وفي بعض الحالات تلتهم الأنثي صغارها دون أدني رحمة‏،‏ وفي بعض الأنواع تموت الأنثي بعد إتمام إخصاب بيضها الذي عادة ما تحتضنه في كيس من الحرير‏،‏ وعندما يفقس البيض تخرج العناكب‏ فتجد نفسها في مكان شديد الازدحام بالأفراد داخل كيس البيض‏،‏ فيبدأ الإخوة الأشقاء في الاقتتال من أجل الطعام أو من أجل المكان أو من أجلهما معا فيقتل الأخ أخاه وأخته‏،‏ وتقتل الأخت أختها وأخاها حتي تنتهي المعركة ببقاء عدد قليل من العناكب التي تنسلخ من جلدها‏،‏ وتمزق جدار كيس البيض لتخرج الواحدة تلو الأخرى‏،‏ والواحد تلو الآخر بذكريات تعيسه‏،‏ لينتشر الجميع في البيئة المحيطة وتبدأ كل أنثي في بناء بيتها‏،‏ ويهلك في الطريق إلي ذلك من يهلك من هذه العنيكبات‏.‏ ويكرر من ينجو منها نفس المأساة التي تجعل من بيت العنكبوت أكثر البيوت شراسة ووحشية‏،‏ وانعداما لأواصر القربى‏،‏ ومن هنا ضرب الله تعالى به المثل في الوهن والضعف لافتقاره إلي أبسط معاني التراحم بين الزوج وزوجه‏،‏ والأم وصغارها‏،‏ والأخ وشقيقه وشقيقته‏،‏ والأخت وأختها وأخيها‏.!

قام أحد العلماء بدراسة طبيعة البيت العنكبوتي من الداخل فوجد أن الذكر بعد أن يقوم بتلقيح الأنثى تقوم الأنثى بافتراسه وتتغذى على لحمه طيلة فترة الحضانة للبيض وبعد أن يفقس البيض تتغذى اليرقات على أضعفها ثم بعد أن يقوى ويشتد عود ما تبقى من الصغار تقوم بأكل أمها لأنها أصبحت أضعف الموجود ثم يلقح الذكر الأنثى ثم تقوم بأكله وهكذا دواليك..

ومن هنا فإن الضعف في بيت العنكبوت في ضعف الترابط الأسري بين أعضائه وعلى الرغم أن الله زود العنكبوت بخيوط متينة وقوية إلا أنها لم تستطع أن تؤسس بها بيتا قويا متماسكا آمناً شكل هؤلاء المشركين رغم ما زودهم الله تعالى وانعم عليهم بالعقل والفكر والنظر والرسل والكتب ومع ذالك اتخذوا آلهة يعبدونها أشبه ما تكون ببيت العنكبوت في الوهن والضعف.

في ظلال سورة العنكبوت: الابتلاء طريقٌ والتمسُّك بالله مخرج

تحدثت سورة العنكبوت عن الابتلاءات والفتن التي تعترض المؤمن في سيره إلى الله تعالى وهي فتن مادية ومعنوية، وبهذا افتتحت السورة لتعلم المؤمن أن الطريق محفوفة بالعقوبات والفتن لذا قال تعالى في افتتاح السورة الكريمة:

{ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1].

ولتعلمه أن الخروج من هذه الفتن هو التعلق بالله تعالى الإله الحق والتمسك بهديه ونهجه فهو ملاذ آمن وهذه عبرة وموعظة ورسالة للعاقلين المتفكرين، وضرب الله المثل بهذه المعبودات من دون الله ببيت العنكبوت لعل المثل وهذه الصورة التصويرية تخز فكرهم فيتفكروا ويتخذوا طريق الحق والصواب، وهي رسالة لكل مؤمن أن يتمسك بالعروة الوثقى والتي فيها يجد خلاصه وأمانه وحرزه ونجاته، تلك العبادات والطاعات والمجاهدات التي تقيم صلب المومن وتشد عضده وتقوي عزمه وتنور طريقه حتى لا يصاب بالوهن والضعف والفتور، وأصعب الوهن ما حل بالقلب فيصرفه عن الله تعالى فيصبح خرابا في غاية الضعف والوهن فهو كبيت العنكبوت في وهنه وهزالته والله المستعان.

المصدر

منار الإسلام، عبد البارئ الحساني.

اقرأ أيضا

بيت العنكبوت

أهمية العقيدة الإسلامية .. لا يرجون عبد إلا ربه

سُنَّة معيّة الله مع المؤمنين

ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين

التعليقات غير متاحة