يتناول المقال فرص سوريا بالنجاح ولماذا أراهن عليها وأتحمس لها وأهاجم كل من يتعدى عليها بالباطل، ويلخص أسباب قوة وفرص سوريا تحت عناوين ثلاث…
الأسباب الواقعية
- احتكار القوة العسكرية
عملت الثورة ومنذ انتصارها على جعل السلاح بيدها حصراً، وغنمت من معاركها مع النظام عدداً لا بأس به من السلاح الثقيل.. خلال 11 يوماً التي استمرت فيها عمليات التحرير غنمت ردع العدوان ما يقارب 500 مدرعة من النظام، ثم سيطرت على باقي السلاح بالكامل بعد التحرير، صحيح أنه في مجمله خردة لا يصلح لمواجهة أي عدو خارجي، لكنه في المواجهة الداخلية يضع الثورة ودولتها كمحتكر وحيد لأسباب القوة.
- ضعف وغياب الخصوم الحقيقين
مثل كل الثورات في العالم ومثل كل الحروب، نتج عن الثورة السورية عشرات الفصائل الكبيرة والمتوسطة، وربما مئات الفصائل الصغيرة، بلغ تعداد المقاتلين في صفوف الثورة في بعض الأوقات ما يقترب من 200 ألف مقاتل، كانوا منضوين تحت (كوكتيل) مختلف ومتخالف من الرايات، وعلى عكس غالب الثورات والحروب، هذه الفصائل اقتتلت وتناحرت فيما بينها وذبحت بعضها قبل إسقاط الأسد، ومن المفارقات أني كنت أعيب ذلك عليهم أنهم اقتتلوا قبل إسقاط الطاغية، لكن حكمة الله كانت تخطط باتجاه آخر.
هذا الاقتتال فعلياً أدى لإفناء سواد الفصائل، وتحولها لمجرد فتات هنا وهناك، ولم يبق إلا رأس واحد استمر منذ اليوم الأول للثورة حتى التحرير، وهو الجولاني…
لقد استفرد الرجل بالساحة قبل أن تتحرر سوريا، فعندما تحررت على يديه، لم يستطع ولن يستطيع أحد أن ينافسه، تحاول الأطراف الخارجية بكل قوتها، لكن فعلياً لا يوجد أحد في الساحة سوى الجولاني…. لا منافس حقيقي للرجل، ولا يبدو أنه سيكون هناك منافس خلال العقد القادم
- السيطرة المطلقة على الحواضر المدنية الكبرى
سيطرت الثورة على كل المدن الكبرى في سوريا، وتمدد نفوذها لكل بقعة استراتيجية في البلاد، ولم يبق خارج سلطتها سوى السويداء جنوبا، وهي جيب محصور بين صحراء البادية والاردن بتعداد سكان قليل جدا ولا يملك أي مقومات للحياة، ثم شمال شرق سوريا حيث قسد، وهي لا تعد منطقة استراتيجية لا من حيث عدد السكان ولا الجغرافيا ولا الموارد . وكون قسد ورقة حمراء تركية يجعل مسألة مواجهتها أهون من السويداء. رغم أنها أقدر منها للمفارقة!!
حلب دمشق حمص حماة إدلب ودرعا تمثل ثقل سوريا الأكبر وكلها تدين بالولاء اليوم للدولة الجديدة، وهناك سيطرة شبه مطلقة على الساحل حيث يتواجد العلوية بعد كسر شوكتهم بالكامل مرتين، مرة في التحرير ومرة في لجم محاولة الانقلاب الفاشلة، وليس لهم إلا جيوب متخفية في الغابات ويتعرضون لمطاردة الدولة بكل عنف.
- بناء دولة عميقة موالية للثورة
رغم أن الشرع تحدث كثيراً عن استيعاب الجميع وكل التيارات والطوائف إلى آخره من هذه الديباجة السياسية الإعلامية، إلا أنه حرص بالشكل الرئيس على السيطرة بشكل كامل 100% على الوزارات السيادية التي تعنى بالقوة العسكرية والأمنية ورسم السياسات الخارجية، وهي الدفاع الداخلية الخارجية بالإضافة لمنصب رئيس الجمهورية ،وشكل عبرهم دولة عميقة من الصفر موالية للنظام الجديد وتمثل يده الضاربة، وعين قيادات المجاهدين والمهاجرين المقربين منه والذين كانوا سابقاً قيادات الهيئة على رأس كل تلك الأجهزة، ووضع كل جنوده المجاهدين فيها، أما باقي الوزارات، فرغم أنها فعليا موالية له ورجالاته ينتشرون فيها، إلا أنه سمح لباقي التيارات بقيادة بعضها كنوع من الاحتواء السياسي.
- الحليف التركي
وهذه تعتبر ربما أهم وأقوى أوراق سوريا الجديدة، فتركيا اليوم تشكل حليف استراتيجي عسكري سياسي واقتصادي لتركيا، الشركات والمؤسسات التركية المدنية والاقتصادية التي تتغلغل في الدولة الجديدة، ثم بداية الخطوات العسكرية في تقوية الجيش الجديد وتسليحه وتدريبه، تؤكد الدور التركي الإيجابي القوي في تثبيت ودعم الشرع في الحكم. وتمثل تركيا التحدي الأبرز أمام العدو الإسرائيلي والذي يعد عاملاً أساسياً في فرملة الاندفاع الصهيوني سياسياً، وسيتطور مع الوقت عسكرياً مع تدريب الجيش السوري وتسليحه مع الاتفاقيات الموقعة المتتابعة.
الأسباب التحليلية
- شخصية الجولاني / الشرع
هذا رجل فريد من نوعه في كل التيارات الإسلامية، وهو يملك درجة عالية جداً من المكر والدهاء، والقدرة على التلاعب بالخصوم، والقدرة على تفتيت مواقفهم، لديه صبر استراتيجي حقيقي، ولا يملك أي غضاضة في التراجع عشرات الخطوات للخلف، لأنه يحسب انعطافة في خطوة ما لا يدركها خصومه، كما أنك فعليا لا تعرف ماذا يدور برأسه حقيقة، ويملك القدرة على مفاجأة الجميع. وهو قناص فرص ماهر بشكل لا يصدق يجعل البعض يظن أنه عميل ويتحرك بأوامر من الخارج !! هو لاعب شطرنج ماهر.
هذه الشخصية طوال الـ 14 سنة من الثورة ومن مسار تنقلاته وما يدعى أنها تحولاته.. والحقيقة أنني لا أعتبرها تحولات وأضعها ضمن مكره… هذه الشخصية هي الأفضل لقيادة سوريا وسط تناقضات المحيط الفجة، وتجاربه السابقة في التنقل من عقبة إلى أخرى بنجاح وصولاً إلى إسقاط الأسد تقول أنه الأمثل لقيادة البلاد.
جدير بالذكر أن الجولاني عندما عاد لسوريا من العراق كان معه بضعة رجال (7 أو 9) وعدة بنادق وتمويل محدود شهرياً ربما يصلح لإدارة شركة صغيرة… نجح بهذا من أن يبني جيشاً يواليه لمدة 14 سنة ثم استطاع تحرير سوريا من حكم النصيرية !
- تناقضات القوى العالمية
في سوريا عدة دول متناقضة بينها خلافات وصراعات وفي نفس الوقت لها مصالح في سوريا، الروس بالدرجة الأولى في مواجهة المعسكر الغربي، ولهذا السبب تحديداً حافظ الشرع على القواعد الروسية في سوريا.
الدولة الجديدة تستخدم الروس كورقة ضغط ضد الغرب، وتستخدم الغرب كورقة ضغط ضد الروس، وتلاعب الطرفين في محاولة الحصول على مكاسب من الطرفين، واستطاعت الدولة خلال التسع شهور تحقيق نجاحات في هذا الصدد.
والصين تراقب من بعيد، لكني لا استبعد أن نرى وفدا صينيا في مرحلة قريبة في دمشق، أو وفداً سورياً في بكين، والعنوان الاستثمار..وإن كانت المكاسب السياسية الصينية حاضرة في العقل الأمريكي
هذا التناقض يخلق فرصاً للدولة السورية بوجود شخص مثل الجولاني لمحاولة رفع المكاسب وتقليل الخسائر قدر الأمكان.
- انشغال الخصوم الخارجيين
خصوم الدولة السورية الجديدة خارجياً هم (المحور) / الأمريكان/ الروس/ الصهاينة..
المحور تلقى ضربات قاصمة من الصهاينة في الفترة الأخيرة تعرض فيها لتقليم أظافر هائل، ثم جاء تحرير سوريا ليقصم ظهره، لا أقول أن المحور انتهى…لكنه اليوم خسر كل ما فعله خلال 20 سنة في أقل من سنتين، وايران تحاول اعادة البناء من جديد، وفي نفس الوقت تحاول تحييد الصهاينة وإبعاد نفسها عن فوهة المدفع، وفي تقديري أن ايران نجحت في ذلك لحد بعيد، لكنها متأذية بشدة، وفي ظل هذه الأوضاع، من المستبعد أن تنشغل بسوريا.
الأمريكان بقيادة ترامب لا يريدون خوض حروب، حتى مشهد قصف ايران المسرحي يؤكد ذلك، ترامب يريد الانكفاء على الداخل والانشغال بالاقتصاد، وغير آبه بالمرة بالقتال في الخارج.
الروس أدركوا أنهم خسروا في سوريا، لكن سلوك الحكام الجدد يفتح للروس آفاق الاستفادة من سوريا دون الاضطرار لخوض صراع عسكري من جديد، خصوصاً مع انشغالها الشبه كامل بحرب أوكرانيا التي لا يبدو لها نهاية.
يبقى العدو الأخطر وهم الصهاينة، ومن تقديرات الله أن العدو مستنزف بشدة من الطوفان في حرب اقتربت من السنتين، حرب تجعل الصهاينة يتصرفون كالبلطجي الجريح الذي يستخدم طيرانه بكل قوة، لكنه فعلياً يتجنب الاشتباك البري لأنه ليس في أفضل حالاته والحرب مازالت مستعرة في غزة.
ومع غياب بيدق داخلي قوي ينافس الشرع، فأي عدو خارجي يحتاج تدخلاً عسكرياً مباشراً بقواته لإسقاط الدولة الجديدة، ووفق المعطيات الحالية، هذا مستبعد الوقوع.
أما العرب وأوروبا، فمما أراه أن الشرع يستغلهم ويستخدمهم أكثر بكثير مما يظنون أنهم يستغلوه… هو يستخدمهم كبيادق لملاعبة الأعداء الأساسيين.
الأسباب الرغائبية والنفسية (إن صحت التسمية)
- سوريا ثمرة الطوفان
لقد خلق الطوفان فرصة مثالية جداً لسوريا لتتحرر، لا أقول أن الطوفان حرر سوريا… مجاهدي سوريا طوال 14 سنة هم من قاد وخطط ونفذ… إنما كان للطوفان على سوريا فضلان: الفضل الأول أنه نتج عنه تحييد المحور وفتح الطريق أمام سوريا لتتحرر، والفضل الثاني أنه استنزف العدو الصهيوني وآلياته وجنوده وأدخله في فترة إنهاك شديدة، انهاك لولاه لرأينا الميركافا في قلب دمشق ثاني يوم التحرير.
هذا الربط بين الطوفان وسوريا يجعلني أتحمس لسوريا باعتبارها النتيجة المرادة من الخطة الإلهية للطوفان، أنا أرى سوريا نتيجة دماء ممتدة بدأت من درعا منذ 14 سنة، ولم تتوقف منذ سنتين في غزة…
وأنا لا أستسيغ ولا أقبل أن يكون ثمن هذه الدماء لا شيء…هذا تقدير الله سبحانه وتعالى وخطته التي أزعم أنها كذلك….سوريا تسير بقدرة الله الذي هيأ لها كل الأسباب المذكورة أعلاه… فهي تسير حتماً لخير.
- سوريا فرصتنا الأخيرة
سوريا هي آخر قلاع الربيع العربي، بعد أن حوله انقلاب مصر إلى شتاء نووي، الحقيقة نحن لا نملك رفاهية التشكيك في سوريا ومهاجمتها، لأنها فرصتنا الأخيرة، لو سقطت سوريا الآن سنسقط جميعاً لعقود قادمة دون أمل بقيام قريب، ولا أرى هذا سوى كابوس لا أقبل حتى تخيله… فهذا الذي يشكك ويخون ويحقر سوريا، يريدنا أن ننضم له لنعيش كابوساً أسوداً لنصف قرن آخر على الأقل، وباعتقادي أن الأمة تجاوزت فعلاً القاع الذي سقطت فيه في القرن الماضي، ولن نسقط فيه مرة أخرى، ليخرج علينا بعد الحمقى ليقولوا : ألم نقل لكم !!..
لا..لست مازوخياً… سأتمسك بآخر فرصة لنا حتى تغرغر الروح.
المصدر
صفحة الأستاذ أيمن وادي، على منصة ميتا بتصرف يسير.
اقرأ أيضا
أقلوا على الفاتحين اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا