لا بد أن تقترن مع التربية الإيمانية من التربية الحركية، من قيادة واضحة مهابة توحد الكلمة، والتواصل بين المسلمين والتربية وعدم الركود.

مقدمة

الجانب الحركي أحد دعائم الدعوة إلى الله؛ حيث تتفاوت ظروف الدعوة وتتغير المؤثرات من حولها، مما يستوجب حركة منظمة مدروسة تواكب هذه المتغيرات، وتسهم في تحقيق أهداف الدعوة، وحمايتها من محنة الأعداء، ولهذا قال ابن كثير في قوله  تعالى:

﴿وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ (يونس: 87) الآية:

“يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصه منهم» (1تفسير ابن كثير4 /289).

فهذه الأسباب المادية الحركية تقوم بدورها في إسناد الدعوة وحمايتها بإذن الله.

وهي تمثل المكوِّن الثاني في بناء الدعوة إذا اعتبرنا أنَّ التربية الإيمانية هي المكوِّن الأول.

معالم الحركة في مرحلة الاستضعاف والشدائد

وفي هذه القصة نلمس عدداً من معالم الحركة في مرحلة الاستضعاف والخوف، وفي زمن الشدائد والخطوب، وهي:

أولاًقيادة واضحة

قيادة يرجع إليها الجميع، بشكل مباشر أو غير مباشر، تكون مهمتها الرئيسية في هذه المرحلة الحفاظ على وحدة الهدف وصحة المسار. وهذا يقتضي طريقة منهجية في تعاطي التوجيهات، ربما يعتبرها البعض بدهية لا تحتاج إلى تنبيه، وهي كذلك في حال الرخاء والتمكين، أمَّا في حال الاستضعاف والخوف والخطوب فهي بحاجة إلى تنبيه، لِما يصيب العقولَ حينئذٍ من التشتت وفقْد التركيز والحيرة والاضطراب.

الآيات الكريمات تبين موقع نبي الله “موسى” عليه السلام في هذه الحال؛ فمنه صدرت التوجيهات ودار الحوار بينه وبين قومه، وفي آيات أُخر أشار القرآن إلى رجوع القوم إليه وشكواهم للحال في حضرته: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 129)

و”تشتت المرجعية” لدى أهل الدعوة في مرحلة الاستضعاف والشدائد من الأخطاء التي قد تصيب الدعوة في مقتل، والتفرق والتنازع طريق الفشل:

﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُواوَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (الأنفال: 46).

وإن تعدد القيادات عملياً على الميدان مؤذنٌ بالتنازع مؤدٍّ إلى الفشل، وهذا الأمر بحاجة إلى وصية الله تعالى فيه وهي الصبر على توحيد القيادة وتوحيد الهدف، ولذلك أردف القرآن الكريم التحذير من “التنازع” بـ “الأمر بالصبر” لكون ذلك شاقاً على النفوس، فإن النفس يشق عليها أن تنزل عن رأيها وحجتها وجماعتها وحزبها، فجاء القرآن ليأمر بالصبر على الاجتماع تحت كلمة واحدة وهدف واحد.

وإذا كان فيمن سبق يرجع الناس إلى أنبيائهم، فإنه يتوجب علينا الرجوع إلى ورثة الأنبياء من العلماء العاملين الذين جمع الله فيهم علم الشريعة والبصيرة بالواقع، فإنهم الأقدر على التوجيه السديد، والأجدر على تحمل أعباء القيادة، وإنَّ علينا الرجوع إليهم لا سيّما في مدلهمات الأمور ووقت الشدائد والخطوب؛ حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها:

﴿وَإذَاجَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْـخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلَّاقَلِيلًا﴾ (النساء: 83).

فتأمل هذا التنبيه الرباني؛ قال البغوي رحمه الله في الذين يستنبطونه:

“هم العلماء”. (2تفسير البغوي1 /567)

أمَّا ابن زيد فيرى أنهم قيادات المسلمين في الحرب، والحرب فيها من الشدائد والخطوب ما هو معلوم، يقول:

“الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم، الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب، أباطلٌ فيبطلونه أو حقٌ فيحقونه. قال: وهذا في الحرب”. (3تفسير الطبري5 /183)

ثانياً: تنظيم أماكن الإقامة والسكن

وذلك بحسب الهدف والخطة والاحتياج، قال الله تعالى:

﴿وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ (يونس: 87)، قال السعدي رحمه الله:

“حين اشتد الأمر على قومهما من فرعون وقومه، وحرصوا على فتنتهم عن دينهم”. (4تفسير السعدي1 /728)

فأراد الله لهم خطةً تكون سبباً في نجاتهم من هذه الفتنة والأذى، فأوحى سبحانه إلى “موسى” أن يتخذ لقومه بيوتاً غير بيوتهم التي كانوا يسكنونها، فيستخفوا فيها ويأووا إليها.

ولم تكن هذه البيوت فقط بغرض الفرار من فتنة فرعون، بل هي تُوفر بيئة جيدة للتربية على الدين، حيث البعد عن مواطن الرقابة الفرعونية المترصدة لأهل الإيمان.

كما توفر جوّاً صحياً نقياً من ملوِّثات الجاهلية الفرعونية؛ لأن أهل هذه البيوت في عزلة مباينة عن فرعون وقومه، وهي تمثل كذلك بيئة صالحة لتربية الأقربين والذراري على دين الله.. وفوائد أُخر من هذه البيوت.

ثالثاًإقامة الصلاة في هذه البيوت

بعد أن أصبحت صلاتهم في المساجد والكنائس مستحيلة، لمنع فرعون لهم من ذلك وتخريبها، فتكون هذه البيوت مجمعاً مباركاً لأهل الدعوة يقيمون فيها صلاتهم، ويتدارسون فيها أحكام دينهم. قال الله تعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (يونس: 87).

تماماً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين اتّخذ دار الأرقم بجوار جبل الصفا، اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سراً، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وليؤدي المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقّوا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهم في أمن وسلام؛ وليدخل من يدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة. (5الرحيق المختوم، وللاستزادة عن تاريخ دار الأرقم يراجع الطبقات 3 /224 وسير أعلام النبلاء 479)

رابعاًالاستمرار وعدم التوقف عن الدعوة والتربية

وإن اختلفت المسارات بحسب الظروف، وهذا الثبات هو مفتاح النصر والظفر والنجاة، فحين دعا موسى ربه تعالى ربط الله تعالى إجابته لدعائه بالاستمرار والثبات، فقال تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا﴾  (يونس: 89)

والاستقامة ـ في أحد معانيها ـ هي الثبات على طريق الدعوة والاستمرار في تبليغ الرسالة، قال الفرّاء وغيره:

“أمر بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه من دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان، إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة”. (6تفسير القرطبي8 /240)

فالتوقف عن الدعوة والتربية أو الضعف بسبب الشدائد والخطوب لا يؤديان إلا إلى انتكاسة الميدان وهزيمةٍ أمام فرعون وملئه، وهذا ما ينبغي لأهل الدعوة والتربية أن يحذروه.

خامساًالركود وعدم الاستجابة للمؤثرات غير الموضوعية

كالاستفزازات. ومن ذلك الصبر والتأني وعدم الاستعجال؛ فإنَّ أكثر ما يعيق تقدم الحركات الدعوية هو سرعة استجابتها للإثارة التي يصنعها خصومها.

والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال. (7مفاتيح الغيب6 /130) قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يونس: 89) أي: لا تسلكان طريق الذين يجهلون حقيقة وعْدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعدي لا خُلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون، وعذابي واقع به وبقومه. (8تفسير الطبري11 /161)

قال الشوكاني:

“والمعنى: النهي لهما عن سلوكِ طريقةِ منْ لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح تعجيلاً وتأجيلاً”. (9فتح القدير2 /598)

وقد يتأخر وعد الله لحكمة يريدها كما تأخر هنا، قال ابن جريج:

“يقولون: إنَّ فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة !”. (10تفسير الطبري11 /161)

سادساًالتفاؤل والاستبشار بنصر الله القريب

﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155)، قال القرطبي:

“بشّر بني إسرائيل بأنَّ الله سيُظهرهم على عدوهم”. (11تفسير القرطبي8 /238)

وقال السعدي:

“بالنصر والتأييد وإظهار دينهم، فإن مع العسر يسراً، إنَّ مع العسر يسراً. وحين اشتدَّ الكرب وضاق الأمر؛ فرَّجه الله ووسعه”. (12تفسير السعدي2 /728)

لا شك أنَّ ذلك يخالف المنطق المادّي، الذي يصوِّر لك المعركة بالحسابات المادية: العدة والجند والعتاد والواقع، لكن التفاؤل والاستبشار ينبعان من شيء غير مادي، ينبعان من عقيدةٍ راسخة، ينبعان من اليقين بوعد الله تعالى وكلماته التي قال فيها:

﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْـمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمُ الْـمَنصُورُونَ وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ (الصافات: 171 – 173)، ولهذا ربط اليقين بالصبر وعدم الاستعجال وعدم الاستجابة لأفعال الخصوم، فقال سبحانه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾  (الروم: 60)، قال ابن جرير الطبري:

“فاصبر يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلّغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم والظفر بهم وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبَّاعك في الأرض: حق”. (13تفسير الطبري21 /58)

وهنا تنبيه مهم للغاية؛ فالصبر وعدم الاستعجال، والتفاؤل والاستبشار.. كلها لا تعني أن يكون المسلم جامداً سلبياً لا يتحرك في الدعوة إلى الله تعالى ينتظر الأقدار، فإن ذلك مخالف للأمر بالاستقامة في الآيات، وهذا القعود السلبي هو من شأن المتصوفة الذين يرون حرمات الله تنتهك ودينه يمتهن دون أن يكون لهم خطة عمل تناوئ ذلك، ودون تحرك جاد ولو كان بطيئاً.

والتاريخ مسوَّدٌ بمثل هذه الخطيئة التي وقع فيها من تلوّثوا بالتصوف، ومما يؤسف له ما ذكره المؤرخ “الجبرتي” في تاريخه يصف مثل هذه الحالة حين غزا الفرنسيون مصر، فيقول:

“وقد كانت العلماء عند توجه “مراد بك” تجتمع بالأزهر كل يوم، ويقرؤون البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء “الأحمدية” و”الرفاعية” و”البراهمة” و”القادرية” و”السعدية” وغيرهم من الطوائف وأرباب الأشاير، ويعملون لهم مجالس بالأزهر، وكذلك أطفال المكاتب، ويذكرون الاسم اللطيف وغيره من الأسماء”. (14عجائب الآثار 2 /185)

أهكذا تكون خطة الدفاع عن أرض الإسلام وحمايتها من الغزاة الصليبيين؟! أم هكذا تواجَه الشدائد والخطوب؟!

خاتمة .. الدرس الكبير

على أية حال؛ فإن الأزمان الشديدة على أهل الإيمان والظروف التي تعترضهم في طريق دعوتهم موجبةٌ لأعمالٍ وأحوالٍ تناسب هذه الظروف والأزمان، وإنَّ على أهل الإيمان أنْ يعلموا أنَّ عليهم في هذه الظروف واجبات إيمانية وواجبات حركية، يستنبطون معالمها من الوحي الهادي:

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾  (آل عمران: 146 ـ 148).

………………………………………

الهوامش:

  1. تفسير ابن كثير4 /289.
  2. تفسير البغوي1 /567.
  3. تفسير الطبري5 /183.
  4. تفسير السعدي1 /728.
  5. الرحيق المختوم، وللاستزادة عن تاريخ دار الأرقم يراجع الطبقات 3 /224 وسير أعلام النبلاء 479.
  6. تفسير القرطبي8 /240.
  7. مفاتيح الغيب6 /130.
  8. تفسير الطبري11 /161.
  9. فتح القدير2 /598.
  10. تفسير الطبري11 /161.
  11. تفسير القرطبي8 /238.
  12. تفسير السعدي2 /728.
  13. تفسير الطبري21 /58.
  14. عجائب الآثار 2 /185.

راجع:

  • مجلة البيان العدد  350 شــوال  1437هـ، يـولـيـو  2016م.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة