يجمع أهل السنة بين القيام بالحق ورحمة الخلق. ولا تضيق قلوبهم عن القيام بالعبادات. ومن ضاق قلبه ظن أن عبودية ما تمنع أخرى؛ فيشقّون على الخلق أو يضعفون عن القيام بالحق.

مقدمة

الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه؛ أما بعد

يقول الله عز وجل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ (الذاريات:56-58)

ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الأنعام: 162-163)

في هاتين الآيتين الكريمتين أوضح بيان وأجلى بلاغ في بيان الحكمة من خلق الجن والإنس، وأنها عبادة الله عز و جل ظاهرا وباطنا، والبراءة والخلوص من الشرك بجميع أشكاله وصوره.

وفي آية الذاريات توسط خلق الإنس والجن بين أداتي النفي والاستثناء، وهذه الحال من أقوى صيغ الحصر؛ أي إن الله عز وجل قد حصر الحكمة من خلق الإنس والجن في عبادته فقط، ولا يقبل منهم شيئا آخر سوى ذلك، وإذا ضممنا هذه الآية إلى آية الأنعام وجدنا آية الأنعام تُفصّل هذه العبودية الواردة في سورة الذاريات بشكل جلي؛ إذ المطلوب من العبد ـ منذ أن يبلغ سن التكليف ـ أن يقصد بجميع أنشطة حياته التعبد لله عزو جل؛ النسك والصلاة، والمحيا والممات، وكل تقلبات العبد يجب أن تكون لله وفي الله وبالله؛ إن أعطى فلله، وإن منع فلله، وإن والى أحداً فلله، وإن عادى وخاصم ففي الله وبالله، لا يذبح، ولا ينذر، ولا يركع، ولا يسجد، إلا لله وحده، ولا يحكم إلا بشرع الله، ولا يتحاكم إلا إليه ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ (سورة يوسف: 40) وأن يكون عبداً لله تعالى في جميع أحواله وآنه؛ في منعه وعطائه، وغضبه ورضاه، وشدته ورخائه، وفقره وغناه.

سعة مجال العبودية

وأحسب أن بيان معنى العبادة وشمولها لجميع حركات العبد وسكناته قد كُتب فيه كثيراً قديماً، وحديثاً؛ كما في كتابات شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن العبادة وتعريفها، وله كتاب مستقل في ذلك هو كتاب “العبودية”. وممن كتب في واقعنا المعاصر عن العبادة بمفهومها الشامل: “سيّد قطب” و”محمد قطب” رحمهما الله تعالى.

تعدد العبوديات وسعة القلوب لها

وأخلص من هذه المقدمة إلى بيان حالة من الحالات التي قد يغيب فيها التعبد لله عز وجل؛ إذ تختلط فيه  مقاصد التعبد بحظ النفس والحمية لها؛ ألا وهي حالات الخصومة مع المخالف لأدلة الكتاب والسنة، والإنكار عليه في ذلك، مثل ما نراه اليوم من السقطات والانحرافات الصادرة من بعض المنتسبين للعلم والدعوة وغيرهم؛ حيث يسيطر على الموقف منها التعبد لله عز وجل بإنكارها والتشنيع على فاعلها وتحذير الناس منها فقط، بينما هناك عبوديات أخرى في هذه الحال يجب على العبد المخلص لربه سبحانه التعبد لله عز و جل بها، لكنها تغيب في جوّ الانفعال والإنكار، والمطلوب ألا تطغى عبودية على أخرى وأن لا تغيّبها؛ بل إن على العبد الموفق المستسلم لربه الراجي لمرضاته أن يقوم في كل حال بما يناسبها وما تقتضيه من العبوديات، وأن لا تلغي بعض العبوديات  عبوديات أخرى.

وهذا النظر مستفاد من تعليق ابن القيم ـ رحمه الله ـ على بكاء النبي صلى الله عليه وسلم عند وفاة ابنه إبراهيم؛ وذلك في تعليقه على رضاه التام بقضاء الله تعالى؛ حيث قال:

“جواز البكاء على الميت بالعين:

وقد ذكر في مناقب الفضيل بن عياض أنه ضحك يوم مات ابنه عليّ، فسُئل عن ذلك فقال: إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه. وهدْيُ الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل وأفضل، وأنه جمع بين الرضى بقضاء ربه تعالى ورحمة الطفل؛ فإنه لما قال سعد بن عبادة ما هذا يارسول الله؟! قال: هذه رحمة؛ وإنما يرحم الله من عباده الرحماء. والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين فلم يتسع للرضا بقضاء الرب وبكاء الرحمة للولد. هذا جواب شيخنا سمعته منه”. (1تحفة الودود بأحكام المولود ص106)

إذاً فهناك عبوديات ينبغي على العبد أن يتعبد بها لله تعالى وهو يرى السقطات والمخالفات الصريحة من بعض أهل العلم أو من غيرهم، ويمكن التعرف على تلك العبوديات في ضوء ما سطرته يد الإمام ابن القيم رحمه الله في نونيته الرائعة الشهيرة، عن عقيدة الفرقة الناجية، وهو يحدد النظر الصحيح الذي ينبغي النظر به إلى أهل البدع المخالفين لطريق أهل الاستقامة، وما هي العبوديات التي ينبغي أن تكون حاضرة في مثل هذه الأحوال:

قال رحمه الله تعالى:

فانظر بعين الحكم وارحمهم بها      إذ لا تُرَد مشيئة الرحمان

وانظر بعين الأمر واحملهم على     أحكامه فهما إذا نظَران

واجعل لقلبك مقلتين كلاهما       من خشيةالرحمان باكيتان

  لو شاء ربك كنت أيضا مثلهم     فالقلب بين أصابع الرحمان

والمقصود بعين الحكم هنا عين القدر، وأما عين الأمر فهي عين الشرع.

العبوديات الواجب الجمع بينها

وفي ضوء هذين النظرين نستطيع أن نتعرف على بعض العبوديات التي ينبغي أن تكون حاضرة في ذهن العبد المسلم وهو ينتقد أو ينكر كلام ومواقف المخالفين لطريق الاستقامة. سواء كانوا من أهل العلم، أو من أهل البدع، أو من أهل العصيان.

عبودية الموالاة والمعاداة في الله

وهذه العبودية تقتضي إنكار المخالفات التي تصدر من أي فرد أو طائفة وبيان انحرافها، وحمل قائلها على الطريق المستقيم، كما تقتضي البراءة من هذه المخالفات؛ فإن كانت المخالفات صادرة من كافر أو منافق نفاقا اعتقاديا فإن الواجب في حقهم البراءة المطلقة منهم أو نزع الولاء المطلق لهم، وإن كانت هذه الانحرافات صادرة من مسلم من أهل القبلة فإنه يُتبرأ منه بقدر ما صدر عنه من هذه الانحرافات، ويُبذل له الولاء العام الواجب لكل مسلم؛ أي إنهم لا يوالَوْن بإطلاق ولا يُتبرأ منهم بإطلاق، ولكن لهم مطلق الولاء ومطلق البراء.

عبودية الرحمة بالمخالف والشفقة عليه

ينبغي أن لا تنسينا عبودية البراءة من المنكر وفاعله، وحمله على الحق، عبودية الرحمة والشفقة عليه مما يترتب على مخالفته من المفاسد الدنيوية والأخروية، بل ينبغي رحمته والسعي لنصحه بترك ما هو عليه، وإنقاذه من سخط الله وعذابه، والدعاء له بالهداية.

عبودية العدل والإنصاف معه

بأن لا تتكلم عنه إلا بعلم وعدل، وأن نحْذر من الكلام بظلم أو جهل، وإذا كان للمخالف لطريق أهل الاستقامة سابقة وبلاء حسناً وحسنات كثيرة؛ فمن العدل والإنصاف أن لا نبخسه حقه، وأن لا تنسينا عثرتُه حسناتِه ومواقفه التي يحبها الله عز وجل، بل ينبغي أن تكون حاضرة، لعل عثرته أن تنغمس في بحرها.

عبودية الخوف على القلب من الزيغ والانحراف والحذر من العجب

وذلك بأن لا يؤدي نقد العبد للمخالف وإنكاره عليه إلى أن يعجب بنفسه ويشعر بالتعالي عليه، بل يجب أن تكون عبودية الخوف من الله عز و جل حاضرة في هذا المقام؛ وذلك لأن القلوب بين أصابع الرحمن، والهداية إلى الحق فضل من الله ومنّة.

وحضور هذه العبودية في هذا المقام يجعل العبد يُطامن من نفسه ولا يشعر بالتعالي على الناس، ويخاف من زيغ القلب؛ إذ لو شاء الله عز وجل لجعله مثلهم وقد يكون للمخالف خبيئة من أعمال صالحة ظاهرة وباطنة يفوق بها من نقَده وأنكر عليه، ولا تظهر إلا حين تبلى السرائر.

عبودية الرجاء للمخالف وعدم اليأس من توبته وقبول الله لها والعبرة بالخواتيم

فلا تنسينا عبودية الإنكار على المخالف وبيان ضلالته الرجاء له بتوبة الله عز و جل عليه وتكفير سيئاته إذا كان من أهل القِبلة؛ وذلك بأن يوفقه الله عز وجل للتوبة والرجوع عن مخالفته، أو تكون له حسنات كثيرة تمحوها، أو يُقدّر الله عليه من المكاره والمصائب ما يكفّر الله بها عنه، أو بغيرها من المكفرات.

والتعبد لله عز وجل بهذه العبودية وهذا المقام يجعل العبد لا ييأس من توبة المخالفين، ولا يتألى على الله عز وجل؛ ولا سيما حين تكبر المخالفات ويُصر أهلها عليها، فلا يُيئسهم من رحمة الله أو أن الله لا يغفر لهم، ويناسب أن نذكر هنا الحديث المرعب في وعيد من يُيئّس الناس من رحمة الله؛ فعن جندب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّث أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: «من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك». (2رواه مسلم)

عبودية الحمد والشكر لله عز وجل ومحبته

وذلك حين يجد العبد نفسه قد سلّمه الله من تلك الانحرافات التي وقع فيها غيره وعافاه منها، فينبعث داعي الحب لله تعالى وحمده والثناء عليه وشكره على هذه المعافاة، لأنها محض توفيقه وامتنانه، ولو وكله عز وجل إلى نفسه لهلك وضل، وهذا الشعور يبعث في نفسه اللجوء إلى الله عز وجل والتضرع بين يديه في طلب الهداية والثبات عليها حتى الممات.

خاتمة

وبعد، فهذه عبوديات يمنّ الله بها على من يشاء من عباده، بأن يجعله متعبدا لربه بها جميعا، وأن لا تشغله عبودية عن عبودية أخرى.

نسأل الله عز و جل أن يجعلنا من عباده المتقين، سِلْما لأوليائه حربا على أعدائه عبيدا له في كل حال وآن، في الغيب والشهادة، والفقر والغنى، والغضب والرضا، والمنع والعطاء، والشدة والرخاء. وفي نسكنا ومحيانا ومماتنا لا شريك له وبذلك أمرنا ونحن من المسلمين.. والحمدلله رب العالمين.

…………………………….

هوامش:

  1. تحفة الودود بأحكام المولود ص106.
  2. رواه مسلم.

اقرأ أيضا:

0 0 votes
Article Rating

التعليقات غير متاحة