إن من أهمية مراحل الصراع مع الباطل وما يواجه أولياء الله عز وجل فيها: ظهور بعض العبوديات الشريفة التي يحبها الله عز وجل والتي لا تظهر بجلاء إلا في مراحل الصراع مع الباطل وأهله.

المحتويات

عناية القرآن بالحديث عن مراحل الصراع والابتلاء

إن المتأمل في تاريخ الصراع بين الحق والباطل الذي اقتضته حكمة الله عز وجل وعلمه، والذي قاده أنبياء الله عز وجل ورسله وهم يدعون أقوامهم إلى التوحيد ونبذ الشرك.

إن المتأمل في ذلك ليلفت نظره شيأً عجيبا يستحق أن يتأمله المجاهدون والدعاة المقتدون بهدي أنبياء الله ورسله (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90] وأن يترسموا خطى هذا المنهج وهم يواجهون الباطل وأهله ويتعرضون للمعاناة والأذى والإعراض من قبل أعدائهم إن هذا الشيء اللافت العجيب هو أن الله عز وجل وهو يقص علينا خبر أنبيائه مع أعدائه ليطيل الحديث عن مراحل الصراع والابتلاء ويطيل ذلك في مواطن ويختصره في مواطن أخرى وينوع ويصرف القصص في سور القرآن الكريم مبينا فيها ما قام به أنبياؤه ورسله من الصدع بالحق والبدء بالدعوة إلى التوحيد وبيان ضلال الشرك وتهافته وما ترتب على ذلك من تصدي المشركين لأنبيائهم والسخرية منهم وتهديدهم بالقتل أو السجن أو الإخراج من ديارهم وقد فعلوا ذلك ببغيهم ثم بين لنا سبحانه صبر أنبيائه على ذلك كله واستغاثتهم بالله عز وجل والتسليم لحكمه وبين الله عز وجل كثير من العبوديات التي قام بها أنبياؤه وهم يبلغون رسالاته ويكاد يكون الحديث عن دعوة الأنبياء لأقوامهم منصباً على مراحل هذا الصراع وما فيه من المعاناة والابتلاءات والمحن والصبر حتى أتاهم نصر الله عز وجل قال سبحانه: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34] واللافت في هذه القصص العظيمة أنها انتهت عند نجاة المرسلين وأتباعهم وتمكينهم، وهلاك أعدائهم من المشركين، ولم يذكر الله عز وجل من حالهم بعد هلاك أعدائهم ونجاتهم، لم يذكر الله عز وجل لنا شيئا عن مرحلة التمكين لأنبيائه وأوليائه، هذا هو اللافت في قصص الأنبياء في القرآن الكريم.

أهمية المراحل التي تسبق التمكين

ولعلنا نخرج بدرس عظيم من هذا ألا وهو: أن المراحل التي تسبق التمكين للمؤمنين، هي المراحل الذهبية التي يختبر فيها الله تعالى أولياؤه، ويهيئهم لجنة عرضها السموات والأرض، كما يهيئهم بها لحمل راية الحق بعد التمكين لهم والمحافظة عليها، فلله عز وجل عبوديات على عباده في جميع أحوالهم التي يتنقلون فيها، فيستخرج الله عز وجل من عباده هذه العبوديات المتنوعة التي يحبها الله عز وجل ويفرح بها ويثيب عليها الثواب العظيم، فكما أن لله عز وجل عبوديات في مراحل التمكين والرخاء والعطاء، فله سبحانه من العبادات الشريفة التي يحبها سبحانه في مراحل الاستضعاف والشدة والعسر والابتلاء ما قد تكون أحب إلى الله سبحانه مما سواها، ولذلك طال الحديث في القرآن الكريم عن مراحل الصراع، وصرف الله عز وجل فيها من الآيات والدروس والمعاناة مما يدل على أهمية هذه المرحلة، ومحبة الله عز وجل لما يظهر على أوليائه من العبوديات له سبحانه فيها، ولكونها مادة اختبار لحقيقة الإيمان في النفوس، وأن الصبر والثبات فيها والثواب عليها أعظم من أي وقت آخر قال سبحانه: (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد:10] وبالتالي فلا يجوز أن يستهان بمراحل الصراع والمعاناة والابتلاءات التي تسبق مرحلة التمكين، أو أن أمرها قد طال، أو أن الجهود والتضحيات وما يبذل فيها من الأنفس والأموال لم ير لها أثرا، كل هذا من المفاهيم الخاطئة التي يوسوس بها الشيطان وأولياؤه للتثبيط والتخذيل والتيئيس بل إن الحقيقة تؤكد أن هذه المرحلة وما يبذل فيها من التضحيات والصبر ومراغمة الأعداء لمن أحب الأحوال إلى الله عز وجل، وأن من جاهد فيها وبذل وصبر وقاتل أو قتل لمن أحب عباد الله إليه سبحانه، ولو لم ير ثمار جهاده من التمكين والغلبة كما سبق بيانه في الآية السابقة .

عبوديات يحبها الله تظهر في مراحل الصراع مع الباطل وأهله

وللتدليل على أهمية مراحل الصراع مع الباطل وما يواجه أولياء الله عز وجل فيها من المعاناة والابتلاءات ومحبة الله عز وجل لها أذكر فيما يلي بعض العبوديات الشريفة التي يحبها الله عز وجل والتي لا تظهر بجلاء إلا في مراحل الصراع مع الباطل وأهله:

العبودية الأولى: عبودية الموالاة والمعاداة في الله عز وجل

الولاء والبراء هو صلب عقيدة التوحيد، ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله، ومما يذكيها ويقويها ويبرزها صراع الحق مع الباطل حيث تبرز هذه العبودية بصورة جلية في مراحل الصراع وتتحول الدراسة الذهنية المجردة إلى واقع وحال ملموسة يشعر فيها المسلم بالولاء لله عز وجل ولدينه وللمؤمنين والحمية لذلك كما يشعر بحقيقة العداء والبراءة من الشرك وأهله، وليس أدل على ذلك من رؤية من قام بنصرة هذا الدين وجهاد أعدائه حيث نرى أن عبودية الولاء والمعاداة لديه واضحة قوية وهي منطلقه في أحكامه وموازينه ومواقفه، ويقابل ذلك أولئك القاعدون عن نصرة هذا الدين الذين لا هم لهم إلا هذه الدنيا ومتاعها الزائل حيث نجد الضعف الشديد في هذه العبودية وهشاشتها عندهم الأمر الذي يجعلهم يقعون في معاداة أولياء الله وموالاة أعداء الله لأدنى رغبة أو رهبة.

العبودية الثانية: عبودية الصبر وانتظار الفرج

إن من أعظم العبوديات التي يحبها الله عز وجل في أحوال المعاناة التي يواجهها أهل الحق في معركتهم مع الباطل وأهله عبودية الصبر وعدم الضعف والاستكانة، وإن مما يقوي الصبر شعور المسلم في معركته مع الباطل بأنه على الحق وأن ما يقوم به محبوب إلى الله عز وجل وكذلك أن يكون صبره لله تعالى وابتغاء مرضاته وجنته  وكذلك أن يكون ًصبره بالله قال سبحانه: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) [المدثر:7] وقال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّه) [النحل:127]. وقد أوصى موسى عليه الصلاة والسلام أتباعه من المؤمنين حينما هددهم فرعون بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم وإيذائهم بصنوف الأذى بالصبر والاستعانة بالله عز وجل قال سبحانه: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) [الأعراف:128]. وقد مدح الله سبحانه أولياءه الذين يجاهدون الباطل وأهله بقوله: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:146] وليس الصبر محصورا في منع النفس من الجزع والضعف والاستكانة فحسب وإنما يدخل فيه أيضا ضبط النفس و منعها من الاستعجال والتهور واستخدام القوة والمواجهة المسلحة مع الباطل قبل أوانها.

العبودية الثالثة: عبودية الاستعانة والتوكل على الله عز وجل

وهذه من العبوديات الشريفة التي يحبها الله عز وجل وينصر عليها  والتي لا تبلغ ذروتها إلا في مراحل الصراع مع الباطل وتسلطه وإيذائه لأصحاب الحق مما ينجم عن ذلك ركون المؤمنين إلى ربهم واستعانتهم به وحده وعدم تعلقهم بالأسباب مع فعلهم لما يمكن منها وقد مر بنا قول موسى عليه الصلاة والسلام لقومه وهم يعانون من أذى فرعون وقومه لهم قال سبحانه: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) [الأعراف:128]. وكذلك قوله تعالى: (وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) [يونس:84]. وفي الأثر الصحيح: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حينما ألقي في النار، وقالها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حينما قيل لهم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)1(1) أخرجه البخاري..

العبودية الرابعة: عبودية التضرع لله والافتقار إليه ودعائه واللجوء إليه وحده والتوسل إليه سبحانه بالأعمال الصالحة

وهذه فرع عن العبودية السابقة لأنها استعانة بالله عز وجل، وسؤاله النصر والتثبيت والصبر منه سبحانه. ولا يخفى أن هذه العبودية تبرز أكثر ما يكون في أحوال الابتلاءات والصراع مع الباطل كما هو شأن النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أدعيته لربه وهو يشكو إليه فقره وضعفه ويستمطر نصره وتأييده ويقوم بين يدي ربه ساجدا وقائما كما كان منه ذلك يوم بدر والأحزاب.

العبودية الخامسة: ظهور آثار أسماء الله عز وجل والتعبد لله عز وجل بها

إنه في أحوال الصراع مع الباطل والمعاناة التي تحصل لأولياء الله عز وجل من جراء ذلك تظهر آثار أسماء الله الحسنى ومعانيها ويذوق المؤمنون طعم التعبد لله تعالى بها ولا سيما أسماءه سبحانه الرحمن الرحيم العليم الحكيم اللطيف البر الرؤوف القوي العزيز القاهر العظيم القدير حيث تظهر لأولياء الله آثار رحمة الله تعالى وألطافه الخفية وقوته وعزته وحكمته، وما خفي من الآثار عن عباده أكثر.

العبودية السادسة: عبودية حسن الظن بالله تعالى والاستبشار واليقين بوعده

وهذه عبودية شريفة لا يذوقها إلا الخلص من عباد الله تعالى. إذ أنه في أحوال تسلط الباطل وامتحانه لأهل الحق تدور في النفوس خواطر يسعى الشيطان لإذكائها من الظنون السيئة بوعد الله تعالى أو اليأس والإحباط ولكن الله تعالى يثبت من يشاء من عباده ويمن عليهم بهذه العبودية العظيمة الشريفة المرضية عنده سبحانه وذلك بأن يقذف في قلوب أوليائه الاستبشار وحسن الظن به سبحانه واليقين بوعده وهم في أشد حالات الضيق والغم والقرح، قال سبحانه عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يواجهون حصار المشركين لهم في غزوة الخندق وقد جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وبلغت القلوب الحناجر قال سبحانه عنهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22]. وإحسان الظن بالله تعالى نافع للعبد في أحواله وتقلباتها كلها ولا سيما في أحوال المصائب والمكروهات فهو البلسم وباعث الطمأنينة والسكينة في قلب المؤمن ذلك أنه حينما يحسن العبد الظن بربه ويوقن أن ربه سبحانه أرحم منه بنفسه وأعلم منه بمصلحته وأقدر منه ومن غيره على تحقيقها فإن هذا اليقين يبعث على تفويض العبد أموره لربه ليقضي فيه ما يراه سبحانه رحمة به لا ما يراه العبد ويتمناه ويقترحه . وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام وهما يعانيان وقومهما من الأذى والاضطهاد من فرعون وملئه بقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87] فجاءت البشارة من الله عزوجل للمؤمنين وهم في أحلك الظروف وأشدها.

العبودية السابعة: عبودية التسليم

وهذه العبودية أصل العبودية السابقة وهي مقتضى معرفة الله تعالى ومعرفة أسمائه الحسنى. وتسليم العبد لربه يشمل تسليمه لأحكامه الشرعية فلا يعارضها بشهوة ولا شبهة، وتسليمه لأخباره فلا يعارضها بشبهة، وتسليمه لأقداره فلا يعترض عليها، وهذا لا يعارض مدافعة أقدار الله تعالى التي يمكن مدافعتها بأقداره سبحانه فإن نفع الله بها وإلا فإن عبودية التسليم تقتضي الرضى بحكم الله تعالى وقضائه واليقين أن لله تعالى الحكمة البالغة التي قد لا تبلغها العقول و تقصر عنها قال تعالى: (وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب:22].

العبودية الثامنة: عبودية محبة الله تعالى

إنه عندما تتحقق العبوديات السابقة من معرفة الله تعالى والتعبد له بأسمائه الحسنى وحسن الظن به سبحانه والتضرع إليه والاستعانة به والصبر من أجله فإن هذه العبوديات تزرع محبة الله تعالى في القلب والأنس به والشوق إليه وهذه تقودنا إلى العبودية التالية.

العبودية التاسعة: عبودية الحمد لله

إن كل ما يقضيه سبحانه في ملكه من الأقضية الشرعية والكونية لمما يحمد عليه سبحانه وتعالى لأنه سبحانه لا يقضي إلا ما يقتضيه علمه المحيط بكل شيء وحكمته البالغة لكل شيء وأن كل ما يقضيه على عباده المؤمنين فإن في أعطافه الرحمة وقد سبقت كلمته سبحانه أن رحمته سبقت غضبه. ولذلك نجد في القرآن الكريم وفي الأذكار الشرعية ارتباط الملك بالحمد كثيرا فله سبحانه الملك كله وله الحمد كله لأن كل ما يقضيه سبحانه في ملكه يحمد عليه ويثنى عليه سواء علمنا الحكمة من ذلك أم لم نعلم قال تعالى: (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

العبودية العاشرة: عبودية المراغمة

وهذه العبودية من العبوديات التي يحبها الله تعالى حيث يقيض بعض أعدائه من شياطين الإنس والجن ويسلطهم على أوليائه لحكم عظيمة سبق ذكر بعضها ومنها حتى تظهر هذه العبودية ألا وهي مراغمة أعداء الله من شياطين الإنس والجن وجهادهم وإغاظتهم بأهل الحق وثباتهم قال تعالى: (وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة:120] وبين سبحانه أن اجتماع المؤمنين وتآلفهم وقوتهم وظهورهم أمام الكفار في صف واحد متآلف لمما يغيظ الكفار ويراغمهم قال سبحانه: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [الفتح:29].

العبودية الحادية عشر: عبودية المحاسبة والتوبة من الذنوب

إن في تسليط الكفار على المؤمنين وإيذاؤهم لهم وصراعهم معهم تنبيها لهم ليراجعوا أنفسهم ويتفقدوا أحوالهم الباطنة والظاهرة فقد يكون من أسباب هذا التسليط ذنوب اقترفها بعض المؤمنين فيكون في هذه الابتلاءات تكفيرا لهم عن هذه الذنوب وتنبيها لهم على خطر الذنوب والمسارعة في التوبة منها فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة قال تعالى عن الربانيين الذين أصابهم القتل ولم يضعفوا ولم يستكينوا: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147] فرجعوا إلى أنفسهم واستغفروا من ذنوبهم لعلمهم بأن ما أصابهم إنما كان بما كسبت أيديهم.

العبودية الثانية عشر: عبودية احتساب الأجر عند الله تعالى وطلب رضاه وجنته

وهذه عبودية عظيمة قد يغفل عنها بعض المجاهدين في صراعهم مع الباطل. فطلب مرضاة الله وجنته لمن أعظم العبوديات والأسباب في الثبات وفي مواصلة الدعوة والجهاد ولو لم تظهر أي ثمرة قريبة بل قد يموت المؤمن وهو في حالة من البلاء وتسلط الأعداء لكن حسبه أنه أرضى الله عز وجل بعمله وأن الله سيوفيه أجره كاملا يوم القيامة إذا كان مخلصا متبعا.

العبودية الثالثة عشر: عبودية بذل المال والنفس في سبيل الله تعالى

وفي ذلك يقول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة:111] ومن ذلك حصول الشهادة في سبيل الله تعالى وما يترتب عليها من الأجر العظيم والفوز الكبير في الآخرة. وهذه النعمة اصطفاء من الله عز وجل لبعض أوليائه وهي تكون غالبا في فترات الصراع ومقارعة الأعداء قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:140].

انتظام الجهاد لجميع الأحوال والعبادات الشريفة

وأختم بكلام نفيس لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى يبين فيه أن من أراد بلوغ ذروة مثل هذه العبوديات فليبحث عنها في الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام قال رحمه الله تعالى: (ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة؛ ففيه سنام المحبة، كما في قوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) [المائدة: من الآية 54] وفيه سنام التوكل وسنام الصبر؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ ولهذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل: 41- 42].

وقال تعالى: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].

وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا، وفيه أيضاُ حقيقة الإخلاص.)2(2) [مجموع الفتاوى ج 28/441]..

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أنصار دينه الذين (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) والحمد لله رب العالمين .

الهوامش

(1) أخرجه البخاري.

(2) [مجموع الفتاوى ج 28/441].

اقرأ أيضا

ويسألونك لماذا البلاء..؟

أحوال الناس في التعامل مع البلاء

إلى أهل البلاء؛ شبهة وجوابها .. لابن القيم

 

التعليقات غير متاحة