ظلم النفس: الهبوط بها إلى مستنقعات الذنوب والفواحش، وتلطيخها بقذر الرذائل والخطايا، فكيف تهون على المرء نفسه فيلقيها في مواطن سخط الله؟!

ظلم النفس بمعاص دون الشرك وليس للعباد فيها حق

وهذا النوع من الظلم هو ما يقع فيه العبد من الذنوب التي ثبت بالدليل الشرعي أنها مخالفة لما أمر الله تعالى به أو ما نهى عنه، فيما دون الشرك الأكبر وفيما بين العبد وربه وليس فيها للخلق تعلق. ويعد هذا النوع من الظلم أهون أنواع الظلم فيما لو مات منها بلا توبة ، حيث إن الظلم الأعظم الذي هو الشرك بالله لا يغفر إلا بتوبة قبل الموت، ومظالم العبد لابد في التوبة منها أن ترد الحقوق إلى أهلها قبل الموت، بينما هذا النوع من الظلم إن كان من الصغائر فإنها تكفرها الصلاة والصيام والمصائب ما اجتنبت الكبائر.

أما الكبائر فصاحبها تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عذبه وأدخله الجنة بعد ذلك، وإن شاء غفر له ودخل الجنة بلا عذاب. وهذا لا يعني الاستهانة بهذا النوع من ظلم النفس؛ فصاحبه على خطر لو مات بلا توبة منه؛ فما يدري العاصي هل يغفر الله له ذنبه أو يدخله النار مع الداخلين، وقد تجتمع على قلبه حتى تؤدي به إلى سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالی .

ومعصية الله عز وجل إما أن تكون بترك واجب أو فعل محرم، وهي تنقسم إلى: صغائر وکبائر؛ كما قرر ذلك أهل العلم، ونقل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إجماعهم على ذلك فقال:

(والذنوب ، تنقسم إلى صغائر وكبائر؛ بنص القرآن والسنة ، وإجماع السلف وبالاعتبار؛ قال الله تعالى : (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) [النساء: 31]، وقال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم: 32].

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، إذا اجنبت الكبائر»1(1) مدارج السالكين 1/315..

الفرق بين الصغائر والكبائر

نقل الدكتور محمد الوهيبي كلام أهل العلم في ذلك في كتابه: “نواقض الإيمان الاعتقادية” وانتهى إلى اختيار القول السادس فقال: (ومن أشهر التعريفات ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والحسن البصري وغيرهم: أن الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، وقال ابن الصلاح: لها أمارات منها : إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا، ومنها اللعن، وقال الماوردي من الشافعية: الكبيرة ما وجبت فيه الحدود أو توجه إليها الوعيد، وورد مثل ذلك عن الإمام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى ورجحه القرطبي وابن تيمية والذهبي وغيرهم .

ولعل هذا التعريف أشمل التعاريف وأقربها للصواب لعدة اعتبارات ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية من أهمها:

1- أنه يشمل كل ما ثبت في النصوص أنه كبيرة كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، وغير ذلك من الكبائر التي فيها عقوبات مقدرة، ويشمل أيضا ما ورد فيه الوعيد كالفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين واليمين الغموس وشهادة الزور، ويشمل كل ذنب توعد صاحبه بأنه لا يدخل الجنة، وما قيل فيه: من فعله فليس منا، وما ورد من نفي الإيمان عن من ارتكبه كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» إلخ، فكل من نفى الله عنه الإيمان والجنة أو كونه من المؤمنين فهو من أهل الكبائر، لأن هذا النفي لا يكون لترك مستحب، ولا لفعل صغيرة، بل لفعل كبيرة .

2- أنه مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين بخلاف غيره .

3- أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الصغائر والكبائر بخلاف غيره.

4- أن الله تعالى قال: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) [النساء: 31] فقد وعد مجتنب الكبائر بتكفير السيئات واستحقاق الوعد الكريم، وكل من وعد بغضب الله أو لعنته أو نار أو حرمان جنته أو ما يقتضي ذلك، فإنه خارج عن هذا الوعد فلا يكون من مجتنبي الكبائر، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد، لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. إذ لو كان كذلك لم يكن له ذنب يستحق أن يعاقب عليه، والمستحق أن يقام عليه الحد له ذنب يستحق العقوبة عليه)2(2) نواقض الإيمان الاعتقادية 2/111-112..

من هذا التعريف الشامل للكبائر يتضح معنى الصغائر أيضا وهي ما سوى الكبائر. كما يظهر لنا من الفرق أن ظلم العباد الذي سبق بحثه فيما سبق [الظلم الواقع بين عامة الناس في أديانهم وأعراضهم] يشمله أيضا هذا المعنى حيث أن في ظلم العباد أيضا صغائر وكبائر. وأكبر الكبائر الشرك بالله عز وجل.

معنى لطيف في الكبيرة والصغيرة

ولكن لما كان الكلام هنا عن ظلم النفس بما دون الشرك فيما بينها وبين الله عز وجل فسنقتصر على ذكر بعض الأمثلة لهذا النوع من الظلم حيث قد سبق الكلام عن صور الظلم للأنواع الأخرى. ولكن قبل ذكر هذه الأمثلة أنقل كلاما نفيسا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ينبه فيه على معنى لطيف في الكبيرة والصغيرة يقول رحمه الله تعالى: (وها هنا أمر ينبغي التفطن له ؛ وهو أن “الكبيرة” قد يقترن بها – من الحياء، والخوف، والاستعظام لها – ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة – من قلة الحياء، وعدم المبالاة، وترك الخوف، والاستهانة بها – ما يلحقها بالكبائر. بل يجعلها في أعلى رتبها .

وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب. وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه ومن غيره .

وأيضا فإنه يعفى للمحب، ولصاحب الإحسان العظيم، ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غیره)3(3) مدارج السالكين 1/328..

والذنوب التي يظلم العبد فيها نفسه فيما بينه وبين ربه عز وجل كثيرة ومتنوعة، فما كان منها صغائر فإن الله عز وجل يكفرها بالصلاة والصيام والحج إذا اجتنبت الكبائر كما في قوله تعالى: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) .

أمثلة للمعاصي الكبيرة التي يظلم العبد فيها نفسه فيما بينه وبين ربه

أما الكبائر فلابد فيها من التوبة الصادقة قبل الموت أو يكون صاحبها تحت المشيئة يوم القيامة، وسأقتصر فيما يلي على بعض الأمثلة للمعاصي الكبيرة التي يظلم العبد فيها نفسه فيما بينه وبين ربه لتدل على ما سواها:

1- معصية الرياء

وهي إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها. قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بما هو أخوف عليکم عندي من المسيح الدجال»؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل»4(4) رواه أحمد (3/30)، وابن ماجة في الزهد (4204)، قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند (11272) إسناده حسن..

وکم يظلم العبد نفسه بهذه المعصية بما يضيع عليه من الأقوال والأعمال الصالحة التي لا يريد منها وجه الله عز وجل، فتكون هباء منثورا يوم يكون في أشد الحاجة يوم القيامة إلى حسنة واحدة . بل إن صاحبه معرض لسخط  الله عز وجل وعدم مغفرته تعالى لهذا الذنب العظيم لو مات صاحبه منه بلا توبة على قول بعض العلماء. ويلحق بذلك العجب والكبر وتزكية النفس.

2- التلبس ببدعة غير مكفرة 

إذ أن البدعة المكفرة تلتحق بالظلم الأعظم، أما ما دون الكفر فتلتحق بالمخالفات التي يظلم فيها العبد نفسه بتركه للسنة ورکوبه البدعة التي يعرض فيها نفسه لرد عمله وعدم قبول الله تعالى له ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»5(5) مسلم في الأقضية (18 تحت 1718)، وعلقه البخاري في البيوع والاعتصام..

وقد يكون صاحب هذه البدعة من الداعين إليها والناشرين لها بين الناس فيصبح بذلك ظالما لنفسه وظالما لعباد الله تعالى بما يفسده في أديانهم من البدعة والضلالة .

ومن أشهر البدع المنتشرة في هذا الزمان: بدع الخوارج، والمرجئة والمعتزلة العقلانيين، والأشاعرة، وبدع المتصوفة التي لم تصل إلى حد الكفر، فهؤلاء كلهم قد ظلموا أنفسهم بتركهم ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وظلموا أنفسهم بتعريض أعمالهم للرد وعدم القبول، وإن هم دعوا إلى بدعهم فقد ظلموا العباد وتحملوا أوزارهم من غير أن ينقص من أوزار من اتبعهم شيء.

3- أكل أو شرب ما حرم الله عز وجل

من المطعومات والمشروبات کأكل الميتة وما في حكمها، أو أكل ما حرم الله عز وجل أكله من السباع والطيور، أو شرب ما حرم الله تعالى شربه من المسكرات والمخدرات أو النجاسات وغيرها؛ كل ذلك من معصية الله عز وجل التي يظلم فيها العبد نفسه ويعرضها لسخط الله عز وجل ومقته. وقد تؤدي بعض هذه المخالفات إلى الاعتداء على الناس في أعراضهم أو أبدانهم أو أموالهم كما يفعله شارب الخمر – عند ذهاب عقله – من الممارسات الصبيانية والجنونية. وحينئذ يجمع بين ظلمه لنفسه وظلمه لعباد الله تعالى بالعدوان عليهم.

4- ترك ما أوجب الله عز وجل على العبد

من الواجبات العينية کأداء الصلاة في جماعة، وصيام شهر رمضان، والزكاة، والحج على خلاف بين العلماء في كفر تارك أحد المباني الأربعة من مباني الإسلام تكاسلا.

5- سماع الغناء

والموسيقى والمعازف، ورؤية ما حرم الله عز وجل من صور النساء في أفلام المجون والخلاعة.

6- النياحة على الميت

ولطم الخدود وشق الجيوب وفعل ما يدل على الجزع والتسخط لقضاء الله وقدره، وهذا يكثر عند النساء ضعيفات العقل والدين وهن يظلمن أنفسهن أولا بوقوعهن في ما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه وثانيا بتفويت أجر المصيبة على أنفسهن بعدم صبرهن فيجمعن بين مصيبتين .

7- تشبه الرجال بالنساء والعكس

لبس الذهب والحرير للرجال، وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال.

8- التصوير المحرم

تصوير ذوات الأرواح أو اقتنائها من غير حاجة. وتشتد الحرمة بتعليقها وتعظيمها.

وأكتفي بهذه الأمثلة السريعة من المخالفات التي يعد مرتكبها ظالما لنفسه ومعرضا إياها لسخط الله تعالى لتدل على ما سواها من المخالفات، ولما كان مثل هذه المخالفات ليس فيها ظلم لعباد الله تعالى، فإن مرتكبها لو مات منها بلا توبة فإنه تحت المشيئة : إن شاء الله تعالی غفر له وهيأ له الأسباب التي تزول بها عقوبة الذنب عن صاحبه وإن شاء عذبه عذابا يطهره به ويطيبه لدخول الجنة ، لأن الجنة لا يدخلها إلا طيبا؛ قال تعالى: (طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) [الزمر: 73].

أما لو تاب صاحب هذه المخالفات توبة صادقة قبل موته فإن الله عز وجل غفور رحيم وهو الذي يغفر الذنوب جميعا .

بعض الذنوب لا تختص بقسم واحد من أقسام الظلم

بعد أن تبين لنا أقسام الظلم الثلاثة [الظلم يوم القيامة .. دواوين ثلاثة] ، وبعد ذكر بعض الأمثلة والصور لكل قسم يجدر التنبيه هنا إلى أن بعض الذنوب لا تختص بقسم واحد من أقسام الظلم وإنما قد تنطوي على نوعين أو ثلاثة منها کمن يجمع في ذنب واحد بين الشرك بالله سبحانه والذي هو أعظم الظلم وبين ظلمه للناس وظلمه لنفسه، أو بين ظلمه للناس وظلمه لنفسه؛ وذلك كله في ذنب واحد كما يشير إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: (ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام: أحدها: ما فيه ظلم للناس كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق والحسد ونحو ذلك.

والثاني : ما فيه ظلم للنفس فقط: كشرب الخمر والزنا إذا لم يتعد ضررهما.

والثالث : ما يجتمع فيه الأمران : مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها، ويشرب بها الخمر)6(6) مجموع الفتاوی 28/145..

ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن حرمة مسألة الناس من غير حاجة فيقول: (والمسألة في الأصل حرام، وإنما أبيحت للحاجة والضرورة ؛ لأنه ظلم في حق الربوبية، وظلم في حق المسؤول، وظلم في حق السائل، أما الأول: فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله ، واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها، وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وإخلاصه وفقره إلى الله، وتوكله عليه، ورضاه بقسمه، واستغنی بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم حق التوحيد ويبطل نوره ويضعف قوته، وأما ظلمه للمسؤول: فلأنه سأله ما ليس عنده فأوجب له بسؤاله عليه حقا لم يكن له عليه، وعرضه لمشقة البذل أو لوم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهة وإن منعه منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما إذا سأله حقا هو له عنده فلم يدخل في ذلك، ولم يظلمه بسؤاله.

وأما ظلمه لنفسه: فإنه أراق ماء وجهه، وذل لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه، وعزة تعففه، وراحة قناعته، وباع صبره ورضاه وتوكله وقناعته بما قسم له، واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عين ظلمه لنفسه، إذ وضعها في غير موضعها… ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع)7(7) مدرج السالكين 2/232-233. (باختصار)..

الهوامش

(1) مدارج السالكين 1/315.

(2) نواقض الإيمان الاعتقادية 2/111-112.

(3) مدارج السالكين 1/328.

(4) رواه أحمد (3/30)، وابن ماجة في الزهد (4204)، قال الشيخ شاكر في تعليقه على المسند (11272) إسناده حسن.

(5) مسلم في الأقضية ( 18 تحت 1718)، وعلقه البخاري في البيوع والاعتصام.

(6) مجموع الفتاوی 28/145.

(7) مدرج السالكين 2/232-233. ( باختصار ).

اقرأ أيضا

الظلم .. آثاره وعواقبه في الدنيا

أسباب معينة على توقِّي الظلم

الشرك بالله…أعظم الظلم

 

التعليقات غير متاحة