الظلم ظلمات على أصحابه في الدنيا والآخرة، وهو بؤس وشقاء وعناء على أهله في الدنيا وعذاب ونكال في الآخرة. وما من مصيبة ولا عقوبة تقع في الدنيا على مستوى الفرد أو الأمة إلا وسببها الظلم والعدوان؛ سواء كان ذلك الظلم هو الإشراك بالله عز وجل الذي هو أعظم الظلم، أو ظلم النفوس بما دون ذلك من المعاصي والمنكرات، أو ظلم العباد بعضهم بعضا.

ظلم النفس بوقوعها في مظالم العباد

وهذا النوع من الظلم أخف من الشرك في كونه لا يخلد صاحبه في النار لو دخلها، ولكن الخطير فيه أن إثمه وعقوبته لا تزول إلا برد المظالم إلى أهلها، أو استباحتهم منها؛ وإلا كان القصاص يوم القيامة ، بالحسنات والسيئات وليس بالدينار والدرهم؛ وكفى بهذا حاجزا عن الظلم، وكفى به رادعا وواعظا للعبد المسلم في أن يتخفف من حقوق العباد ويخرج من هذه الدنيا سالما لا يطلبه أحد من العباد بمظلمة في دین أو نفس1(1) والعقل داخل في النفس، والاعتداء على الناس في هذه المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها – يعد ظلما وعدوانا . أو مال أو عرض. هذه الأمور التي لا تكاد تخرج مظالم العباد عنها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ( … فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا)2(2) صحيح البخاري (7078). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه)3(3) أخرجه البخاري (2449) بنحوه، والترمذي (2419)، وأحمد (9613) باختلاف يسير..

ويخلص لنا من هذا أن الذي يظلم الناس إنما هو في حقيقة الأمر ظالم لنفسه.

وظلم الناس إنما ينشأ من الإضرار بهم في دينهم أو دنياهم، ويكون ذلك بأمرين:

(1) إما بمنعهم حقوقهم

(2) أو بفعل ما يضر بهم.

وهذا ما يشير إليه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بقوله: (وإضرار العبد في دينه ودنياه هو ظلم الناس ؛ فالظلم للغير يستحق صاحبه العقوبة في الدنيا لا محالة لكف ظلم الناس بعضهم عن بعض، ثم هو نوعان:

أحدهما: منع ما يجب لهم من الحقوق، وهو التفريط. الثاني : فعل ما يضر به وهو العدوان)4(4) مجموع الفتاوی 10/373 ..

ويقول في موطن آخر: (والظلم نوعان: تفريط في الحق، وتعد للحد. فالأول: ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون، وسائر الأمانات، وغيرها من الأموال . والثاني: الاعتداء عليه، مثل القتل، وأخذ المال، وكلاهما ظلم…)5(5) مجموع الفتاوی 28/ 183..

وتحصل لدينا من هذه القاعدة النافعة أن أي إضرار يقع على الناس في أديانهم، أو أنفسهم، أو أموالهم، أو أعراضهم – سواء بمنع ما يجب لهم من الحقوق في ذلك أو العدوان عليهم في هذه المقاصد – إنما هو ظلم لهم، ولا تخرج مظالم العباد عن هذا.

وفي ضوء ما تقدم من أنواع الظلم الواقع على العباد يمكننا الآن التعرف على بعض صور الظلم المختلفة وبخاصة في زماننا اليوم، وأسوقها هنا نصحا لنفسي ولإخواني المسلمين؛ فكم يتلبس الواحد منا ببعض هذه الصور وهو يشعر أو لا يشعر – نسأل الله العافية والسلامة – ومن هذه الصور ما يلي:

الصورة الأولى: «ظلم الأولاد لوالديهم»

لقد جعل الله عز وجل حق الوالدين بعد توحيده سبحانه وعبادته، كما جعل سبحانه عقوقهما من الكبائر التي تلي الإشراك بالله تعالى؛ قال الله عز وجل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، ولعظيم حقهما أوجب الإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف ولو كانا مشركين؛ قال الله عز وجل: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان :10]. وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم كبيرة عقوق الوالدين بعد كبيرة الشرك بالله عز وجل فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر – ثلاثا – قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئا فقال: ألا وقول الزور … الحديث)6(6) البخاري في الشهادات (3654)، ومسلم. في الإيمان (87)..

وإن أي تفريط في هذا الحق العظيم للوالدين يعد ظلما لهما، كما أن فعل ما يضر بهما مهما قل يعد أيضا من الظلم لهما كما قعد لذلك شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .

بعض الصور التي تعد من ظلم الأولاد لوالديهم

منعهم حقوقهم التي أوجبها الله تعالى لهم أو التقصير فيها ومن أمثلة ذلك:

– منعهم النفقة التي تجب لهم أو التقصير فيها من قبل الأولاد، وذلك في حال فقر الوالدين أو عجزهم وغنى الأولاد.

– ترك طاعتهم وعدم تلبية أوامرهم وتقديم طاعة غيرهم من البشر عليهم كالزوجة والأصدقاء.

– إهمال خدمتهم والابتعاد عنهم وبخاصة في حال كبرهم وافتقارهم إلى الرعاية الجسدية والنفسية.

– ترك تعليمهم من دين الله عز وجل ما لا يسع أحدا جهله کتوحيد الله عز وجل وما يضاده من الشرك، وتعليمهم أحكام الله عز وجل العينية، والمعلوم من الدين بالضرورة وجوبها أو تحريمها. إن ترك الوالدين على جهلهم بهذه الأمور الواجب تعلمها يعد ظلما لهم وتفريطا في حقوقهما الدينية. ويدخل في ذلك تركهما على بعض المنكرات والمخالفات من غير نصح وتوجيه بلطف ورفق وأدب .

– عدم التوقير لهما وسوء الأدب معهما، والتعالي عليهما، وعدم الشفقة والرحمة بهما؛ قال الله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 34].

– من ذلك العبوس وتقطيب الجبين أمامهما.

– إنكار جميلهما ورعايتهما ونكران فضلهما وعدم الدعاء والاستغفار لهما في حياتهما وبعد وفاتهما.

– عدم إنفاذ وصيتهما بعد موتهما أو تغييرها وتعديلها بدون مسوغ شرعي .

– ترك وفاء دينهما في حال عجزهما في حياتهما أو بعد مماتهما مع القدرة على ذلك.

– عدم وفاء نذرهما بعد وفاتهما أو النيابة عنهما في أداء ما وجب عليهما في حياتهما ومماتهما ولم يقوما بأدائه.

– إظهار الكره والتبرم والتأفف لما يظهر على الوالدين في الكبر من تغيرات نفسية أو جسدية أو مرضية. ولذا شدد الله عز وجل على خفض الجناح والذل لهما عند الكبر لأنه مظنة تغير أخلاق الوالدين وضعف تحملهما؛ فقال تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ [الإسراء: 23] .

التعدي عليهما وإيصال الضرر لهما: ومن أمثلة ذلك:

– التسبب في إيصال ما يحزنهما ويعمهما مع إمكان دفع ذلك عنهما .

– التصرف في ممتلكات الوالدين بغير إذنهما أو السرقة من أموالهما أو التحايل عليها.

– التفريط فيما يعهدان به من الأموال العينية أو النقدية إلى الأولاد لتنميتها وعدم الإخلاص والنصح في رعاية أموالهما واستثمارها حتى تنتهي إلى الضياع بسبب الإهمال والتفريط من الولد في أموال والديه .

– السعي بالنميمة بين الوالدين أو بين أحدهما وغيرهما من الناس سواء الأقارب أو الأباعد، فإذا كانت النميمة محرمة بين الناس عامة فإيقاعها مع الوالدين أكبر وأشد .

– السخرية منهما سواء كان ذلك بحضرتهما أو في غيبتهما حيث نهى الله عز وجل المؤمنين عن ذلك فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين؟ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّم﴾ [الحجرات: 11]، ويدخل في ذلك احتقار رأيهما أو الإشاحة عنهما إذا تحدثا.

– الحديث في غيبتهما بما يكرهانه. وهذا هو معنى الغيبة التي حرمها الله عز وجل بين المؤمنين فهي مع الوالدين أشد حرمة.

– الوقوع في سبهما أو لعنهما سواء كان ذلك بطريق مباشر – عياذ بالله تعالى – أو كان بسب الآخرين وآبائهم مما يؤدي إلى سب الوالدين أو لعنهم.

– الغش لهما والكذب عليهما مما يكون له أكبر الأثر في إيصال الأذى والضرر لهما.

– الاهتمام بالأولاد والزوجة وأقارب الزوجة أكثر من الاهتمام بهما مما ينشأ عنه إحزانهما وتألمهما بذلك .

– معاونتهما على ظلم الناس وعدم كفهما عن ذلك، وفي ذلك إضرار بالنفس بمشاركتهما في الظلم، وإضرار بالوالدین بإقرارهما على الظلم، وما يترتب عليه من آثام وضرر لهما في الدنيا والآخرة ، كظلمهما للزوجة أو بعض أقاربهما أو غيرهما من الناس.

– ويقابل الصورة السابقة: ترك نصرتهما ممن ظلمهما وخذلانهما وإسلامهما لمن يذلهما أو يلحق الضرر بهما. فإذا كان هذا حق للمسلم على أخيه المسلم أفلا يكون في حق الوالد أشد؛ قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله … الحدیث)7(7) البخاري بنحوه في المظالم (2442)، ومسلم في البر والصلة ( 2580)..

– تكليفهما بما فيه إهانة لهما كتنظيف المنزل وغسل الثياب وقضاء حاجات المنزل خاصة إذا كان الوالدان عاجزين. أما إذا قاما بذلك عن طواعية ورغبة منهما وهما نشيطان فلا بأس بذلك – إن شاء الله تعالى – مع مراعة شكرهما والدعاء لهما مع أن الأولى أن لا يكون منهما شيء من الخدمة قدر الإمكان، وإنما الخدمة تكون لهما .

– الدخول عليهما في خلوتهما بدون استئذان منهما .

– معاتبتهما إذا أخطأا أمام الأولاد والزوجة أو غيرهم.

– إدخال المنكرات في بيتهما كآلات اللهو والتلفاز والمجلات المحرمة مما يتسبب في فساد أفراد الأسرة. وهذا بلا شك يؤذي الوالدين ويحزنهما. ويدخل في ذلك مزاولة المنكرات أمام الوالدين وهما يتأذيان بذلك كشرب الدخان، والنوم عن الصلاة المكتوبة، وإدخال رفقة السوء للمنزل.

– فعل ما ينشأ عنه إحراج الوالدين وتشويه سمعتهما وذلك باقتراف الأفعال الدنيئة من الأولاد والتي قد تخرم المروءة، وتلحق العار بالوالدين أو الأسرة جميعا. فهذا فوق أنه ظلم للنفس من فاعلها فهو ظلم للوالدين بما يسببه من عناء وحرج وهم وغم لهما. وكذلك قد يقع الحرج عليهما – وبخاصة الأب – في سداد ديون الأبناء الناشئة من تصرفاتهم المشينة التي يترتب عليها استدانتهم من الغير وعجزهم عنها، وبالتالي يضطر الأب إلى سدادها ليدفع عن ابنه عقوبة السجن أو غيره . وكفى بذلك إيذاء وحرجا.

و إیذاؤهما بالمنة عليهما وتعداد الأيادي عليهما، وتكرار ذلك بمناسبة أو غير مناسبة، مع أن المنة لهما بعد الله عز وجل. قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان:14] .

– الاستجابة لضغط الزوجة الظالمة بالبعد عن الوالدين وخدمتهم دون مسوغ شرعي، وقد يكون الوالدان في حال من الكبر والمرض بحيث لا يستغنيان عن ولدهما.

وبالجملة فإن أي ظلم يقع بين العباد فوقوعه على الوالدين من أولادهم أشد وأشنع.

 

الهوامش

(1) والعقل داخل في النفس، والاعتداء على الناس في هذه المقاصد الخمسة التي جاءت الشريعة للحفاظ عليها – يعد ظلما وعدوانا .

(2) صحيح البخاري (7078).

(3) أخرجه البخاري (2449) بنحوه، والترمذي (2419)، وأحمد (9613) باختلاف يسير.

(4) مجموع الفتاوی 10/373 .

(5) مجموع الفتاوی 28/ 183.

(6) البخاري في الشهادات (3654)، ومسلم. في الإيمان (87).

(7) البخاري بنحوه في المظالم (2442)، ومسلم في البر والصلة ( 2580).

اقرأ أيضا

الظلم: حقيقته، والتحذير منه

الظلم والظالمون: بيان واجب

الظلم .. آثاره وعواقبه في الدنيا

 

التعليقات غير متاحة