لله أوامر وأحكام تضمنت الخير كله، وله تعالى مَناهٍ ومحرمات لما تضمنت من الشر. وعقوبة المخالفة صارمة، هكذا يحكي التاريخ، وهكذا تحكي الأندلس.

مقدمة

كان بقاء مملكة غرناطة الإسلامية في الأندلس قرنين من الزمان معجزة من معجزات الإسلام‏؛ فهذه الجزيرة الإسلامية العائمة فوق بحر الصليبية المتلاطم الأمواج والطافح بالحقد والمكر التاريخيين..‏

هذه الجزيرة ما كان لها أن تصمد صمودها المشهور إلا لأن طبيعة الصمود كامنة في العقيدة والمبادئ الإسلامية‏.‏ وبدون العقيدة الإسلامية‏ ما كان لهذه الجزيرة أن تصمد وحدها في الأندلس بعد أن سقطت كل المدن والقلاع الإسلامية منذ قرنين من الزمان‏.

وبهذا نجحت غرناطة في أن تظل إلى سنة 1492م ‏(897 هـ‏)‏ سيدة الأندلس الإسلامي ومنارة العلوم وشعلة الحضارة الإسلامية الباقية في أوربا.‏

ما قبل السقوط

لكن الأعوام القريبة من عام السقوط شهدت تطورا في الحياة الأندلسية‏.‏

في الجانب النصراني

فعلى المستوى النصراني بدأ ‏”‏اتحاد‏”‏ كبير يضم أكبر مملكتين مسيحيتين مناوئتين للإسلام، وهما مملكتا أرجوان وقشتالة، وقد اندمج الاثنان في اتحاد توجاه بزواج ‏”‏إيزابيلا‏”‏ ملكة قشتالة من ‏”‏فرناند‏”‏ ملك أرجوان‏‏.‏ وكان الحلم الذي يراود الزوجين الملكين الكاثوليكيين ليلة زفافهما هو دخول غرناطة،.‏ وقضاء شهر عسلهما في الحمراء، ورفع الصليب فوق برج الحراسة في غرناطة ـ أكبر أبراجها.

في الجانب الإسلامي

وعلى المستوى الإسلامي كان ‏”‏خلاف‏”‏ كبير قد دب داخل مملكة غرناطة ولا سيما بين أبناء الأسرة الحاكمة، وتم تقسيم مملكة غرناطة المحدودة قسمين، يهدد كل قسم منهما الآخر ويقف له بالمرصاد؛‏ قسم في العاصمة الكبيرة ‏”‏غرناطة‏”‏ يحكمه “أبو عبد الله محمد علي أبو الحسن النصري” ‏(آخر ملوك غرناطة‏)‏ وقسم في ‏”وادي آش‏”‏ وأعمالها يحكمه عمه “أبو عبد الله محمد” المعروف بـ “الزغل”. (1كتاب: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، من قصص سقوطنا في أوروبا)

كانَ سقوطُ غرناطةَ ـ المَعقِل الأخير للمسلمين ـ في الأندلس في الثاني من كانونَ الثاني/يناير من عام 1492م، بعد أن استسلمت، وسُلِّمت باتِّفاقية وقَّعها آخرُ الحُكّام المسلمين “أبو عبد الله الصغير” مع كُلٍّ من “فرديناند” و”إيزابيلا” من الطائفة الكاثوليكيّة.

وقد كان هذا السّقوطُ نتيجةً حتميّةً بعد حروب شنَّها الصليبيّون على دُويلات المسلمين في الأندلس طوال أربعة قرون، حيث عُرِفَت تلك الحروب الصليبيّة بـ (حروب الاسترداد). (2“سقوط الأندلس.. حكاية الفردوس المفقود”، www.aljazeera.net، اطّلع عليه بتاريخ 14-1-2019. بتصرّف)

بداية النهاية .. عصر ملوك الطوائف (422هـ- 483هـ)

وهو العصر المشئوم، الذي تمزقت فيه دولة الإسلام في الأندلس لدويلات صغيرة أغلبها ضعيف، يحكم هذه الدويلات كلُ طامع وطامح ومستقوٍ بأسرة أو عشيرة أو عصبية، وقد بلغ تعداد هذه الدويلات (اثنتين وعشرين دويلة)، فالبربر في الجنوب، والصقالبة بالشرق، وأما البقيَّة الباقية فقد ذهبت إلى أيدي مُحْدَثي النعم أو بعض الأسر القديمة.

سمات عصر ملوك الطوائف

أما عن أهم سمات عصر ملوك الطوائف المشئوم فهي:

انتشار المفاسد والانحراف الأخلاقي

وذلك في طبقة ملوك الطوائف، وانعكاس ذلك سلبًا على الرعايا؛ حيث انتشرت هذه المفاسد بين المسلمين، وعمت النعومة والرفاهية بين المسلمين؛ مما أورثهم ضعفًا وجبنًا وغفلة عما يحيكه نصارى الشمال.

الاستعانة بالكفار على المسلمين في حروب داخلية مدمرة

فقد وقعت بين ملوك الطوائف؛ وذلك من أجل توسيع رقعة كل “دويلة” على حساب الأخرى..! واقتتل المسلمون فيما بينهم بصورة واسعة، واستعان كل فريق متحارب مع جاره المسلم بنصارى الشمال، وكان رذيلة الاستعانة بالكفار على المسلمين من أسوأ سمات هذا العهد المشئوم؛ مما أدى لضياع عقيدة الولاء والبراء عند مسلمي هذا العهد إلاّ من رحم الله عز وجل.

تنامي قوة نصارى الشمال وتوحد رايتهم

وذلك تحت قيادة رجل شديد البأس هو “ألفونسو السادس” الذي حقق نصرًا كبيرًا ومعنويًّا على مسلمي الأندلس، عندما استولى على مدينة “طليطلة” العريقة سنة (476هـ) وهي عاصمة إسبانيا القديمة، ودشَّن بذلك حرب الاسترداد المشهورة، والتي استمرت رحاها تدور حتى سقوط الأندلس.

تنامي الشعور بالقومية الأندلسية

وذلك عند أهل الأندلس، ورغبتهم في الاستقلال تحت قومية خاصة بهم، بعيدًا عن أي ارتباط مع العالم الإسلامي. (3سقوط غرناطة .. الأندلس المفقود، موقع مفكرة الاسلام)

تسليم غرناطة

حاصرَ النصارى مدينةَ غرناطةَ بكلِّ قُراها، ومزارعها؛ إذ كانت في ذلك الوقت ضعيفةً بشكل كبير، واستطاع ملك إسبانيا الاستيلاءَ على بُرجِ الملاحة الخاصّ بها، وزاد تحصينه، فضيَّق بذلك على الناس فيها، ويُذكَر أنّ بعض الوثائق أشارت إلى وجود اتِّفاقية صُلح بين ملك غرناطة، والصليبيّين، تعهَّدَ بمُوجبها ملك غرناطة بتسليمها للصليبيّين في حال تسليم بسطةَ، ووادي آش، وكذلك ألمرية، ومع ازدياد ضغط الصليبّيين على ملك غرناطة أعلن نيّته في الدفاع عن وطنه حتى آخر نفس له، إلّا أنّ ذلك لم يُجدِ نَفعاً؛ إذ سقطت غرناطة، وسُلِّمت للصليبيّين بموجب الاتِّفاق الذي ذُكِر سابقاً”. (4موقع قصة الإسلام، “حصار غرناطة”)

أسباب سقوط غرناطة

تعرَّضت الأندلسُ لفترات ضَعفٍ، وانحدار، وضياع، وتُعَدُّ هذه الحالة التي مرَّت بها بلاد المسلمين من أهمّ أسباب انهيار الأندلس مدينةً تِلو الأخرى، وقد اشتدّ وقْع هذه الأسباب، وزادَ في غرناطة حتى انهارَت، وسُلِبت من أيدي المسلمين، ومن أهمّ هذه الأسباب ما يأتي:

الترَف وحبُّ الدنيا

حيث كان الانغماسُ في الشهوات، ومَلذّات الدنيا، والانحراف عن الأهداف من أهمّ الأسباب التي أدَّت إلى انهيار غرناطة، وتسليمها للنصارى من قِبَل المُسلمين.

الامتناع عن الجهاد في سبيل الله

يُعَدُّ تَركَ المسلمين للجهاد من أهمّ الأسباب التي جعلتهم يعيشون في ذُلّ؛ إذ إنّهم لو اتَّبعوا شرع الله في الجهاد لعاشوا في عزّة، ومجد، ولما ضاعت بلاد المسلمين، وسقطت في أيدي النصارى.

كثرة المعاصي والإسراف فيها

إنّ إسرافَ العبد في المعاصي لَأمرٌ يعود عليه بالسوء، وهذا ما حصلَ مع المسلمين في غرناطةَ؛ حيثُ أسرفوا، وكَثُرَت ذنوبُهم، ممّا أدّى إلى ضياع مُلكِهم، وعزّتِهم.

مُوالاة أعداء المسلمين

حيث تُعَدّ العلاقاتُ التي أنشأها ملوك الطوائف مع الصليبيين، وانخداعهم بهم، وبمواثيقهم من أهمّ الأسباب التي جرَّت المسلمين نحو الانحدار، والسقوط.

تنازُع ملوك الطوائف

إنّ التنازُع الذي ظهرَ بين ملوك الأندلس لهُو من الأسباب المُهمّة في ضياع الأندلس بشكل عامّ، وغرناطةَ بشكل خاصّ.

انشغال العُلماء عن دورهم الجهاديّ، والإصلاحيّ

حيث ذهبَ الكثيرُ من العلماء إلى الانشغال والاهتمام بالمسائل الخِلافيّة، بعيداً عن اهتمامهم بالدعوة، والإصلاح، والجهاد. (5تاريخ سقوط غرناطة، موقع موضوع)

الحرب الأهلية

إن تفكك الأسرة المالكة الكامل في غرناطة، وتشتت الطبقة المثقفة والحاكمة، وعدم ورع الجميع من التعاون مع العدو النصراني القشتالي للتغلب على خصمه المسلم، أدى كل ذلك أخيرًا إلى سقوط “غرناطة” بعد جهاد طويل ومتواصل دام ما يقرب من القرنين. وهذه المرة توحدت القوى النصرانية في إرادتها للقضاء على الإسلام في الأندلس بينما انعدم مغيث المسلمين من وراء البحر. (انبعاث الإسلام في الأندلس، المؤلف: علي بن محمد المنتصر بالله الكتاني (6المتوفى: 1422هـ)ج12/ 50)

فتح قسطنطينية وسقوط غرناطة .. واحدة بواحدة

“لم يكن سقوط غرناطة فى يد النصارى حادثاً فجائياً، بل كان بالعكس نتيجة طبيعية، لما تَقدَمه من الحوادث الأندلسية، وكان خاتمة محتومة لاستشهاد طويل الأمد.

ومع ذلك فقد كان لسقوط “غرناطة” أو بعبارة أخرى لانتهاء دولة الإسلام فى الأندلس، وقْع عميق فى الضفة الأخرى من البحر، فى أمم المغرب التى لبثت عصوراً ترتبط بالأندلس بأوثق الروابط، وفى سائر أنحاء العالم الإسلامى.

وكان للحادث أيضاً وقْعه العميق فى سائر الأمم النصرانية؛ فقد ابتهجت له أيما ابتهاج، واعتبرته من بعض الوجوه عِوضاً لسقوط قسطنطينية فى قبضة الإسلام قبل ذلك بأربعين عاماً. وخلدت ذكرى الحادث فى رومة بإقامة قداس أعظم، واستمر ابتهاج الشعب أياماً. ورجّت سائر قصور أوربا بالنبأ، وأقامت لإحيائه الحفلات الدينية والمدنية، منوّهة بفضل “فرناندو” و”إيسابيلا” فى تحقيق هذه الأمنية العظيمة” (7دولة الإسلام في الأندلس، المؤلف: محمد عبد الله عنان المؤرخ المصري (المتوفى: 1406هـ))

خاتمة

تجارب التاريخ رسالتها تدور حول إثبات ما ذكر تعالى في كتابه، وعاقبة المخالفة، وأثر العصيان على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي والعقدي.

وما زالت الأيام دوارة، تتقلب بأهلها، ولا يزال ربنا تعالى يقلب الليل والنهار؛ أفول في موطن يعقبه شروق وبزوغ في موطن آخر، واضمحلال عام يعقبه عهد جديد شامل وكامل. وفي ربنا الرجاء وعلى عبادته نقيم.

…………………………..

الهوامش:

  1. كتاب: دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية، من قصص سقوطنا في أوروبا.‏
  2. “سقوط الأندلس.. حكاية الفردوس المفقود”، www.aljazeera.net، اطّلع عليه بتاريخ 14-1-2019. بتصرّف.
  3. سقوط غرناطة .. الأندلس المفقود، موقع مفكرة الاسلام.
  4. موقع قصة الإسلام، “حصار غرناطة”.
  5. تاريخ سقوط غرناطة، موقع موضوع.
  6. انبعاث الإسلام في الأندلس، المؤلف: علي بن محمد المنتصر بالله الكتاني (المتوفى: 1422هـ) ج12/ 50.
  7. دولة الإسلام في الأندلس، المؤلف: محمد عبد الله عنان المؤرخ المصري (المتوفى: 1406هـ).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة