للتعبد جوعة داخل الإنسان، ولو لم يقضها باستقامة انحرف الى الخرافات أو الجفاف، وللتعبد أثره، وآدابه. وللفريضة دورها. والامتثال منجاة وفوز.

مقدمة

إذا ترك العبد المحرمات، وتخلى عن المناهي، وتطهر قلبه، كان مواتيًا لما جُبل عليه ورُكز فيه من الفطرة ليتعبد لربه تعالى، وترْك المحرمات هو تعبد، لكننا هنا نقصد القيام بالمأمورات والتعبد بالأعمال.

ففي الفرائض تأتي العبادات العينية، ويأتي الامتثال لما أمر الله تعالى في كل ما أمر وأوجب.

قيمته التّعبّد ودوْره

التّعبّد هو مشاركةٌ للملأ الأعْلى، مشاركةٌ للمقرّبين في زجل التّسْبيح وتلاوة الكتاب العليّ، والسّجود والرّكوع، والدّمْع والأنين؛ فهو تنْميةٌ لخصِّيصة الملائكة، وهي موْجودةٌ فينا؛ فنحْن قبْضةٌ منْ طينٍ ونفْخةٌ منْ روح الله، وهذا حقّ الرّوح.

التعبد هو إيذان بالنور يفيض في قلوبنا ووجوهنا وجوارحنا فالتعبد لله تعالى يغير الملامح ويندي الطباع ويشف القلب ويدمع العين ويوجل القلب من الله تعالى.

والتعبد يذيق العبد طعم الإيمان ويجلّي القلب ليتلقى العلم.

والتعبد جهد يحتاجه العبد، نعم يحتاج العبد أن يبذله، ففي الإنسان جَوعة للتعبد لله تعالى، وقد فُطر على هذه الجوعة ولو لم يقضها لربه تعالى قضاها منحرفا بها إلى من دونه تعالى، تلبيةً لهذه الرغبة.

فالتعبد على وجه الغيب:

“طرف من الإيمان بالغيب، الذي له قيمته في حياة الإنسان، وهو يخرج الإنسان من نطاق الحواس المضروب على الحيوان؛ ويطلقه يتلقى المعرفة مما وراء هذا النطاق الحيواني؛ وبذلك يعلن إنسانيته بخصائصها المميزة.. ذلك بينما هو يلبي فطرة الإنسان وشوقه إلى المجاهيل التي لا تحيط بها حواسه، ولكنه يحس وجودها بفطرته. فإذا لم تلبّ هذه الأشواق الفطرية بحقائق الغيب ـ كما منحها الله له ـ اشتطت وراء الأساطير والخرافات لتُشبع هذه الجوعة؛ أو أصيب الكيان الإنساني بالخلخلة والاضطراب”. (1في ظلال القرْآن (1/ 341) [البقرة:285-286]، بتصرّفٍ يسيرٍ)

والإيمان بالحقيقة الغيبية، والتعبد على وجه الغيب الذي:

“لا سبيل للإدراك البشري أن يعرفها بذاته، بوسائله الحسية والعقلية المهيأة له.. بينما كيانه مفطور على الشوق إلى معرفة شيء من تلك الحقائق الغيبية. ومن ثم شاء الله بالإنسان ـ وهو فاطرُه وهو العليم بتكوينه وأشواقه وما يصلح له ويصلحه ـ أن يمده بطرف من الحقائق الغيبية هذه، ويعينه على تمثّلها ـ ولو كانت أدواته الذاتية قاصرة عن الوصول إليها ـ وبذلك يريحه من العناء ومن تبديد الطاقة في محاولة الوصول إلى تلك الحقائق التي لا يصلح كيانه وفطرته بدون معرفتها، ولا يطمئن بالُه ولا يقر قراره قبل الحصول عليها..! بدليل أن الذين أرادوا أن يتمردوا على فطرتهم، فينفوا حقائق الغيب من حياتهم، استبدت ببعضهم خرافات وأوهام مضحكة؛ أو اضطربت عقولهم وأعصابهم وامتلأت بالعقد والانحرافات..!

وفضلًا على ذلك كله فإن الإيمان بالحقائق الغيبية المستيقنة التي جاءت من عند الله ـ يوسع آفاق الشعور الإنساني بالوجود، فلا تنكمش صورة الكون في تصور المؤمن حتى تقتصر على ما تدركه حواسه ـ وهو ضئيل”. (2المصْدر السّابق (1/ 341-342))

إن رصيد الإيمان بالغيب والتعبد على وجه الغيب

” رصيد من الهدى والنور، ومن الثقة والطمأنينة، ومن الرضى والسعادة، ومن المعرفة واليقين.. وما يخلو قلب بشري من هذا الرصيد حتى يجتاحه القلق والظلام، وتعمره الوساوس والشكوك، ويستبد به الأسى والشقاء. ثم يروح بتخبط في ظلماء طاغية، لا يعرف أين يضع قدميه في التيه الكئيب..!.

وصرخات القلوب التي حُرمت هذا الزاد، وحُرمت هذا الأُنس، وحُرمت هذا النور، صرخات موجعة في جميع العصور.. هذا إذا كان في هذه القلوب حساسية وحيوية ورغبة في المعرفة ولهفة على اليقين.

فأما القلوب البليدة الميتة الجاسية الغليظة، فقد لا تحسّ هذه اللهفة ولا يؤرّقها الشوق إلى المعرفة.. ومن ثم تمضي في الأرض كالبهيمة تأكل وتستمتع كما تأكل الأنعام وتستمتع. وقد تنطح وترفس كالبهيمة، أو تفترس وتنهش كالوحش؛ وتزاول الطغيان والجبروت والبغي والبطش، وتنشر الفساد في الأرض.. ثم تمضي ملعونةً من الله ملعونةً من الناس..!.

والمجتمعات المحرومة من تلك النعمة مجتمعات بائسة ـ ولو غرقت في الرغد المادي ـ خاوية ـ ولو تراكم فيها الإنتاج ـ قلقة ـ ولو توافرت لها الحريات والأمن والسلام الخارجي. وأمامنا في أمم الأرض شواهد على هذه الظاهرة لا ينكرها إلا مراوغ يتنكر للحس والعيان..!. (3المصْدر السّابق (1/ 342-343))

دور الامتثال للأحكام

وأمّا امْتثال الأوامر والأحْكام الواجبة عمومًا في العبادات والمعاملات؛ فيجب أن يلاحِظ العبد التأدب والتجرد مع ربه تعالى ومولاه، وألا يقدم بين يديه، وأن يتلقى ترتيب الأمور كما شرعها الله تعالى وأن ينزل الشرائع منازلها.

الفرائض أوّلًا.. لأنّها أحبّ إلى الله

فيجب أن تعلم أن الله تعالى ما افترض شيئًا إلا لأنه أحب إليه، فكما قال «ابن تيمية» وغيره من أهل العلم أنه تعالى يفترض على عباده ما هو أحب إليه.. وهو نص الحديث الشريف «وما تقرّب إليّ عبْدي بشيْءٍ أحبّ إليّ ممّا افْترضْت عليْه». (4رواه البخاريّ في صحيحه (6502))

والله تعالى لا يقبل النافلة إلا بعد أداء الفريضة كما قال «أبو بكر الصّدّيق» رضي الله عنه. (5رواه ابْن أبي شيْبة في مصنّفه (34433) وفي الجامع لشعب الإيمان (3015) والحديثٌ متكلّمٌ في صحّته موْقوفًا ومرْفوعًا، وإنْ صحّ فقدْ تأوّل له العلماء تاْويلاتٍ)

ولما ذكر صلى الله عليه وسلم فضل قيام الليل اشترط أن يكون بعد المكتوبة، فأنزل قيام الليل منزلته وذكر فضله مرتَبًا بعد الفرائض؛ فمع فضله لا يقدَم على الفريضة؛ فالفريضة أحب الى الله تعالى ولهذا فرضها «أفْضل الصّلاة بعْد الصّلاة المكْتوبة، الصّلاة في جوْف اللّيْل». (6رواه مسْلمٌ في صحيحه 203 (1163))

ومن هنا فالاهتمام بالنافلة عن الفريضة قلب للأمر وعكس لما يجب أن يكون، وهذا نراه يقع بين المسلمين أحيانا؛ بل يجب أن تؤدَى الفريضة على خير وجه وأن تحسّن وتزينّ قربانًا لرب العالمين؛ فلا يبدأ بنافلة ويترك الفريضة، أو يهتم بالنافلة وهو مخلٌّ بالفريضة.

ومما شرعت من أجله النوافل “جبر الفرائض”، وبها يبدأ الحساب حتى تُستوفَى، فإن كان ثمة نقص نُظر في النوافل من جنس الفرائض التي اختلت عند العبد فتُجبَر له منها، كما في الحديث؛ إذ نصّ على الصلاة ونص على جبر الفرائض بالنوافل، ثم أخبر أنه يفعل بسائر عمله كذلك.

فعنْ أبي هريْرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أوّل ما يحاسب النّاس به يوْم الْقيامة منْ أعْمالهم الصّلاة»، قال: «يقول ربّنا جلّ وعزّ لملائكته وهو أعْلم: انْظروا في صلاة عبْدي أتمّها أمْ نقصها؟ فإنْ كانتْ تامّةً كتبتْ له تامّةً، وإنْ كان انْتقص منْها شيْئًا، قال: انْظروا هلْ لعبْدي منْ تطوّعٍ؟ فإنْ كان له تطوّعٌ، قال: أتمّوا لعبْدي فريضته منْ تطوّعه، ثمّ تؤْخذ الْأعْمال على ذاكمْ». (7رواه أبو داود في سننه (864)، وأوْرده الألْبانيّ في «صحيح الجامع الصّغير» (2571))

ولـ «ابن أبي شيبة» و «أحمد»: «ثمّ الزّكاة كذلك، ثمّ تؤْخذ الْأعْمال على حسب ذلك». (8رواه أحْمدٌ في مسْنده (16614)) ، وعند «الترمذي»: «ثمّ يكون سائر عمله على ذلك». (9رواه التّرْمذيّ في جامعه (413))

ولهذا فمن الخطأ ما يفعله البعض إذ يحاول التخلص من الفريضة على عجل ليخلو للنافلة..! وهذا عكس الصواب. وكذلك من يستغني بالصدقات النافلة عن الزكاة المفروضة ـ التي يجب أن تحسَب بدقة لئلا تنقص عن حسابها الشرعي بل تستوفى أو تزيد ـ فهذا أيضا عكس للأمور وللترتيب الشرعي.

عاقبة امتثال الأحكام

ومن استوفى ما فرض الله تعالى وترك ما حرّم خرج من الوعيد، فكان من «أهل الوعد بلا وعيد»، ودخل في جملة السعداء ابتداءً بلا سابقة عذاب.. وإنه لَلفوز.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل وعد بترك المحرمات وإقامة الفرائض أنه «أفْلح إنْ صدق». (10رواه البخاريّ في صحيحه (46) كتاب الإيمان)

فالنّوافل تقْدمةٌ للعبادة وتهْيئةٌ لها، وتتمّةٌ للخروج منْها وجبْرٌ لنقْصها.

وأيضا ما شُرعت المكروهات إلا لما تفضي إليه من المحرمات، فالحِمَى شُرِعَ أصلًا وقايةً للمحرمات، وهذه حماية لها. ولولا نفاسة الفريضة لما شُرِعَ لها جوابر، ولولا عظمة الحرمة لما شُرِعَ لها حِمَى.

ومن هنا شَرَعَ الله تعالى الورع؛ والورع هو ترك ما قد يضر في الآخرة، فمجرد احتمال الضرر يتركه المسلم فما بالك بالضرر الصريح..؟.

خاتمة

كما رأيت؛ فثمة تأدب أمر الله به وترتيب جاء به الشرع، لمعرفة الأحب الى الله ثم باب التفاضل بعده. كما تعرف قيمة التعبد في حياة الإنسان وحاجته الى إرواء تلك الجوعة التي تحتاجها روحه.

نسأ الله تعالى المعونة على امتثال أمره، وبلوغ محبته، والفوز برضاه الكريم.

………………………….

الهوامش:

  1. في ظلال القرْآن (1/ 341) [البقرة:285-286]، بتصرّفٍ يسيرٍ.
  2. المصْدر السّابق (1/ 341-342).
  3. المصْدر السّابق (1/ 342-343).
  4. رواه البخاريّ في صحيحه (6502).
  5. رواه ابْن أبي شيْبة في مصنّفه (34433) وفي الجامع لشعب الإيمان (3015) والحديثٌ متكلّمٌ في صحّته موْقوفًا ومرْفوعًا، وإنْ صحّ فقدْ تأوّل له العلماء تاْويلاتٍ.
  6. رواه مسْلمٌ في صحيحه 203 (1163).
  7. رواه أبو داود في سننه (864) ، وأوْرده الألْبانيّ في «صحيح الجامع الصّغير» (2571) .
  8. رواه أحْمدٌ في مسْنده (16614).
  9. رواه التّرْمذيّ في جامعه (413).
  10. رواه البخاريّ في صحيحه (46) كتاب الإيمان.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة