للمصطلحات دلالة في كل حضارة، وكل مصطلح يحمل من المخزون الحضاري ما لا يحمله في غيرها من الحضارات..

ومن معرفة الذات والعودة اليها والاعتزاز بها، ومن الشعور بالانتماء؛ أن تعتز كل أمة بمصطلحاتها وتعرف عمق الدلالة، وتحذر من استخدام ـ ودلالات ـ مصطلحات الحضارات الأخرى؛ فقد تكون متناقضة معها ولا تدري، وقد تذبل أمامها الدلالات الأصيلة..

ولهذا كانت هذه الدراسة المختصرة..

مدخـل

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد..

تعد قضية المصطلحات من أشد العناصر أثرا وأهمية وخطورة في ثقافة الشعوب، لأنه عن طريقها يتم تثبيت المفاهيم والأفكار. والمصطلح كلمة أو كلمتان، وقد لا تتعدى ذلك إلا في حالات نادرة، لكن هذه الكلمة قادرة على تحويل التفكير من جهة إلى نقيضها، بل قادرة على أن تفقد الإنسان التفكير أصلا.

ومن هذا المنطلق يمكن القول، إن الغزو الثقافي هو أخطر أنواع الغزو والسيطرة، فهو ببساطة يجعل المغزو وكأنه يتحرك حرا مالكا زمام أمره، ولكنه في حقيقة الأمر مسلوب الإرادة، مسخر نشاطه وجهوده من أجل الأمة التي أنبتت الثقافة التي تثير إعجابه، فيرفع لواءها ويسير في ظلها ويخدمها وهو لا يشعر.

إن الأفكار والمفاهيم التي نعبر عنها عادة بواسطة المصطلحات تؤدي دورا أساسيا في التغيير. فبناء على مجموعة من الأفكار والمفاهيم تنطلق أي أمة من الأمم في دربها الحضاري لتشييد صرح حضارتها.

فمن المعلوم أن لكل أمة من الأمم مفاهيم خاصة عن الإنسان والحياة والكون، وعلى ضوء هذه المفاهيم تتشكل قيمها وحياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتنظر من خلالها للأشياء والأحداث والناس. وبناء على ذلك، فالمفاهيم في حياة الأمة تشكل الركيزة الثقافية والعملية التي تبنى عليها تصوراتها وموازينها. وتلك المفاهيم تستمد من العقيدة التي تؤمن بها الأمة وتحافظ عليها.

شهادة الواقع لأهمية الأفكار

ويقدم الواقع شواهد عديدة على أن سلوك الأفراد في مجتمع من المجتمعات ما هو إلا الترجمة العملية لما يؤمنون به من مفاهيم وأفكار، ولهذا نجد أن المجتمعات تتقدم أو تتخلف تبعا لنوعية الأفكار والمفاهيم التي يعتنقها أفرادها.

والمجتمعات التي تدور في فلك الأفكار الصحيحة تتفوق على تلك التي تدور في فلك الأفكار الخاطئة، كما كانت حال الأمة المسلمة في صدر الإسلام وتفوقها على مجتمعات الرومان والفرس وغيرها.

ومعلوم أن جزيرة العرب لم يكن بها قبل نزول القرآن الكريم إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، حتى إذا جاءت أفكار ومفاهيم الرسالة، تحول الرجال الذين كانوا في بداوتهم وحياتهم الراكدة إلى رجال يحملون للعالم الحضارة ويقودون فيه التقدم والرقي.

فماذا دخل يا ترى حياة المجتمع العربي وقتئذ؟ لقد كانت هناك فكرة في الجاهلية جعلت الإنسان العربي ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وجاءت فكرة أخرى جعلت هذا الإنسان نفسه يحمل الفأس ليكسر ذلك الصنم!!

حرص الصهيو صليبية على تخريب الفكر الاسلامي

ولأن الأفكار والمفاهيم بهذا القدر من الأهمية، فإنه لما تقرر في أوكار الصهيونية والصليبية تدمير الخلافة الإسلامية، فإن أعداء الأمة الإسلامية حريصون على تخريب الفكر الإسلامي، وتشويه العقل المسلم من باب المصطلحات والمفاهيم.

فقد كان من تأثير الغزو الثقافي الأوروبي على المسلمين أن شاعت بينهم مصطلحات ومفاهيم غريبة عن عقيدتهم وثقافتهم حتى كادت أن تختفي المصطلحات الإسلامية. فنجد مع الأسف أنه قد شاع استعمال كثير من المصطلحات الدخيلة ليس في مجال التاريخ وحده، وإنما في أغلب مجالات المعرفة الأخرى.

على أن هذا المنزلق يتمثل في عدم وعي الباحثين المعاصرين بأن المصطلحات الحديثة إنما تنبثق من رؤية خاصة للفكر الغربي، فهي ذات مضامين ودلالات محلية وتاريخية لا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى توجد مصطلحات مشتركة في الاسم بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي، ويساء استعمالها أو يشيع استعمالها بالمعنى المتعارف عليه في الغرب، وبالخلفية التاريخية الأوروبية.

وفيما يلي نماذج من المصطلحات الغربية التي شاع استعمالها في الكتابات المعاصرة.

[للمزيد: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة

مصطلح الإقطاع

مصطلح الإقطاع أو الإقطاعية أو النظام الإقطاعي ألفاظ ومصطلحات جرت العادة في استعمالها أنها مرادفة لسوء الاستغلال والعهود البائدة، بل إن كل سوء أو مكروه أو استبداد مقرون بالفوضى إنما يوسم بالإقطاع. لكن المتأمل في هذا المصطلح ومدلولاته والمفاهيم المنبثقة عنه يجد الفرق شاسعا بين مفهوم الإقطاع الذي عرفته أوربا ومهده فرنسا بين نهري اللوار والراين، وبين الإقطاع الذي عرفته الدولة الإسلامية في عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين، فكلا النظامين يختلفان في الجوهر كل الإختلاف.

الدلالة السلبية لمصطلح الإقطاع الأوروبي

فالإقطاع الأوروبي بإيجاز معناه الانتفاء المطلق لما نعنيه باسم الدولة. ومعنى هذا انفلات السلطة وانتقال اختصاصات الدولة من الحكومة المركزية التي ضعفت إلى إدارات السادة الإقطاعيين المحليين، وهم أصحاب الضِياع الواسعة والنفوذ الفعلي النافذ في أقاليمهم(1).

وخلال هذه الفترة تحتم على كل فرد أن يرتبط بأحد السادة القريبين منه طلبا للحماية والأمن نظير حقوق والتزامات، لأنه افتقد الحماية والأمن من جانب السلطة المركزية الضعيفة والبعيدة عنه. وفي هذا الوضع انقسم المجتمع الأوروبي الإقطاعي إلى عنصرين أساسيين: السادة والفلاحون(2).

الدلالة الإيجابية مصطلح الإقطاع الإسلامي

أما الإقطاع الإسلامي فهو نظام أو تشريع ظهر بهذا الإسم لأول مرة في العصر النبوي لهدف إصلاحي عام، كما جاء من قِبل الحكومة المركزية القوية.

ومن خصائص الإقطاع الإسلامي أنه تمليك وارتفاق، ولكل من النوعين شروط شرعية وضعت في العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، وهي خضوع المُقطَع تمام الخضوع لتصرف ولي الأمر من حيث إزالة الإقطاع أو ارتجاعه أو انقاصه أو نقله إلى مُقطَع آخر مما لا نظير له في الإقطاع الغربي(3).

الحكمة من شريعة الإقطاع في الإسلام

ويمكن تلخيص العوامل التي من أجلها شرع الإقطاع في الإسلام في العصر النبوي والراشدي في العوامل الأربعة التالية:

أولا: التأليف على الإسلام(4).

ثانيا: عامل الاستثمار الاقتصادي، لاستصلاح الأراضي الموات لما في إصلاحها وتعميرها من تحقيق لمصالح المسلمين عامة، كما تستفيد الدولة بما يفرض على هذه الأراضي من أموال تودع في بيت مال المسلمين. ولم يقطع النبي ـ صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدون من الأراضي الموات إلا بقدر ما يطيق المستقطع إحياءه، وجعل الإحياء شرط أساسيا(5).

ثالثا: العامل الاجتماعي، ويتضمن مكافأة المجاهدين في سبيل الله، ومساعدة الفقراء وذوي الحاجة، وتعويض المهاجرين الذين فقدوا أرضهم بمكة(6).

رابعا: لا يجوز إقطاع الموارد العامة كالمعادن والمراعي والأسواق… والأراضي التي هي ملك مسلم أو مجاهد، ولا ينشأ عن الإقطاع أي ضرر لأحد من المسلمين أو لأهل الذمة.

خلاصة المقارنة

وعموما كان هذا الإقطاع في الإسلام لإصلاح حال المسلمين، وخصوصا ذوي الحاجة منهم، واستثمار الأراضي البور، وزيادة الإنتاج، ومكافأة العاملين في الإسلام.(7)

أما الإقطاع في أوروبا فكان مرادفا للسوء والظلم والاستغلال والقهر، وشكّل الإقطاعيون فئة اجتماعية لها مميزاتها المعروفة في التاريخ الأوروبي.

ولذلك ينبغي لتوظيف هذا المصطلح توظيفا سليما أن يأخذ بعين الإعتبار الوسط الاجتماعي الذي نبت فيه، والظروف التاريخية التي لابست نشأته.

[للمزيد: الإسـلام صبغـة تصطبـغ بهـا الأمـة]

مصطلح اليمين واليسار

نشأ هذا المصطلح خلال الثورة الفرنسية، وذلك في اجتماع الجمعية التأسيسية المنعقدة بتاريخ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عام تسع وثمانين وسبعمائة وألف، حيث جلس الأشراف ومؤيدو النظام الملكي على يمين الرئيس، وجلس خصومهم أنصار الثورة على يساره، حتى أصبحت قاعدة تستخدم لتصنيف الفكر السياسي(8).

ومما لا شك فيه أن هذه الخلفية التاريخية تركت بصماتها على التعريف، إلا أنه في عصرنا هذا أصبحت كلمتا اليمين واليسار تعبيرين مطاطيين يختلف مدلولهما حسب الدولة والمراحل التاريخية، فاليسار في دولة ما يعتبر يمينا في دولة أخرى.

ومما زاد في غموض هذا المصطلح تداخل التصنيفات وتعددها وصعوبة التفريق بينها، حيث يوجد الآن تصنيفات أدق مثل يمين اليسار ويسار اليمين ووسط اليسار، ويسار معتدل ويسار متطرف إلى غير ذلك.

ورغم أن هذه التصنيفات السياسية لعبة صهيونية، إلا أن بعض الباحثين مع الأسف وظّفوها بصورة آلية، حتى أن بعضهم ألف كتبا يصنف فيها الصحابة، رضي الله عنهم، إلى يمين ويسار، وأن قمة الصراع الطبقي ـ في زعمهم ـ كان بين زعيم اليمين معاوية بن أبي سفيان وزعيم اليسار علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.

والتاريخ الإسلامي بالنسبة إلى هؤلاء عبارة عن يسار ويمين، فالمعتزلة يسار والأشاعرة يمين، والفلسفة العقلانية الطبيعية عند ابن رشد يسار والفلسفة الإشراقية الفيضية عند الفارابي وابن سينا يمين، والمالكية التي تقوم على المصالح المرسلة يسار والفقه الافتراضي عند الحنفية يمين، والتفسير بالمعقول يسار والتفسير بالمأثور يمين(9)، إلى غير ذلك من هذه التصنيفات الغريبة المستوردة من الغرب.

دور الانهزام النفسي

ويمكن القول أن الانهزام النفسي هو الذي أبرز هذه العينات من البشر وجعلها تعظم المناهج والمصطلحات الغربية وتحقر نفسها أمام الآخرين حتى انطبقت عليها النظرية التي ذكرها ابن خلدون في مقدمته، حيث كتب أن المغلوب يتشبه دائما بالغالب في سائر أحواله (10).

ولذلك يجب علينا أن نحذر من التقليد الأعمى في كل شيء، وفي ذلك يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي الغربي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة.

[للمزيد اضغط: آليات التبعية .. التماثل والإذعان]

وجوب استعمال المصطلحات الاسلامية

ولذلك ينبغي استعمال المصطلحات الإسلامية في كتاباتنا، لأنها ذات دلالة واضحة ومحددة، ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث، فالقرآن الكريم قسم الناس إلى: “مؤمن” و”كافر” و”منافق”، ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها.

فيما ينبغي ألا نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلامية كوصف الإنسان بأنه يميني أو يساري أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية التي ليست محددة بصورة دقيقة وثابتة.

وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات التاريخية والحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي: “الخير” و”الشر”، و”الحق” و”الباطل”، و”العدل” و”الظلم، كما جاءت محددة في القرآن والسنة، ولا تستخدم معايير الفكر الغربي الجاهلي كالتقدمية والرجعية..

يتبع إن شاء الله..

………………………………………………

هوامش:

  1. إبراهيم طرخان: النظام الإقطاعي الإسلامي، ص 3. مرجعه: (843-1414), p.28. Chew and Latham : Europe in the middle Ages
  2. إبراهيم طرخان: المرجع نفسه، ص4. مرجعه: Gejansheff F.L: Feudalism, vol IX, p 69-70.        
  3. إبراهيم طرخان: النظم الإقطاعية في الشرق الأوسط في العصور الوسطى، ص 261.
  4. ابن سعد: الطبقات، جـ1، ص 341. وابن سلام: الأموال ص 356-357.
  5. يحي بن آدم كتاب الخراج، ص 85-86، أبو يوسف: الخراج.
  6. أبو يوسف: المصدر السابق، ص 62.
  7. الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 176-177، وابن سلام: المصدر السابق ص .372 وأبو يعلى: الأحكام السلطانية، ص 219-220. وأبو يوسف: المصدر السابق، ص 62.
  8. عبد الرحمن الزيد: مصطلحات سياسية، ص 139، مجلة السنة العدد السادس أكتوبر 1990.
  9. أنظر مثلا: “ماذا يعني اليسار الإسلامي” لحسن حنفي.
  10. ابن خلدون: المقدمة، ص 147.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

  1. الغزو المصطلحي (2-2) تبعية المصطلحات، والصراع الفكري
  2. قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (1-2) مظاهر التخلف
  3. قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (2-2) نتائج التخلف

التعليقات غير متاحة