قضية ولاء الكفار قضية كبيرة، وهي متصلة بالعقيدة، ومتصلة بواقع الأمة وتهدد وجودها. وكم من تفريط في هذه القضية الكبيرة وتوهين لها تحت شعار أنه ولاء على الدنيا فلا يكفر صاحبه. فما هو الموقف الشرعي من هذا الطرح..؟

مقدمة

مظاهرة الكفار على المسلمين جريمة كبرى؛ ففي كتاب الله مساحة كبيرة لبيان وجوب الولاء لله دون شريك، وولاية رسوله والمؤمنين فيه سبحانه، والبراءة من الشرك وأهله..

ثم مع هذا الوضوح يأتي الملبّسون ومن في قلوبهم مرض ليبرروا ويوهّنوا من أمر هذه الجريمة، وأبرز شبههم أن مظاهرة الكفار لا تكون مكفرة إلا إذا كان على الدين فأما إن كان على الدنيا فلا..

وهذا المقال ويتناول هذه الشبهة ويفندها..

قصة حاطب ابن أبي بلتعة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد..

أكتب هذا المقال بعد ما سمعته من القول بأن مظاهرة الكفار وإعانتهم على المسلمين لا تكون مكفرة وصاحبها مرتد إلا أن تكون لأجل دينهم، أما إذا كانت للدنيا فلا تعد من نواقض الإسلام.

ويتمسك أصحاب هذا القول المحدَث ببعض الشبه منها قصة حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه، ومكاتبته لمشركي مكة بخبر قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم لفتح مكة دون علمه صلى الله عليه وسلم.

روى الإمام البخاري في صحيحه عن علي رضي الله عنه، يقول:

«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، قال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها»، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها.

فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حاطب ما هذا؟»، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد صدقكم»، قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: “إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم”. (1صحيح البخاري (4/ 59))

وجه الشبهة

وقد قال البعض أنه إذ اعتذر حاطب رضي الله عنه عما فعل بأمر حماية قرابته وليس بتغير اعتقاده حيث لم يكذّب رسول الله ولم يشك فيه أو يبغض رسالته.. وقد رأوا أن ما فعله حاطب هو ولاء للكافرين..

وبمجموع الأمرين خرجوا بنتيجة مفادها أن كل ولاء للكافرين، مهما بلغ فحشه وضرره على المسلمين أو تسبب في استئصالهم وتمكين الكافرين من رقابهم وأعراضهم ومقدراتهم، إذا كان سببه والدافع اليه أمرا دنيويا ومكسبا ماديا ـ وليس الشك في الرسالة ولا تكذيبها ـ فلا يكون هذا الولاء مكفرا لصاحبه ولا تنطبق عليه أحكام ولاء الكفار من التكفير والنفاق التي ورد ذكرها في القرآن لهذه الجريمة.

خطورة الشبهة

هذه الشبهة تفرغ مضمون ما نهى الله تعالى عنه، من موالاة الكفار ومظاهرتهم، من محتواه.. وتعتذر عن من والى الكفار ليستأصلوا شأفة المسلمين ويبيدوا خضراءهم وينتهبوا ثرواتهم ومقدراتهم، ويقسموا بلادهم، ويوطئوا لدخول العدو واحتلاله لبلاد المسلمين وانتهاكه للأعراض وتغييره للعقائد وتبديله للقيم وتغييره لمناهج التعليم والإعلام..

ثم إذا مكّن لهم خائن وظاهرهم أو تآمر معهم للقضاء على الإسلام، ثم اعتذر عن أنه فعل هذه الجريمة لأجل الدنيا من مال أو منصب أو شهرة أو نكاية في شخص، أو غير ذلك؛ وليس تكذيبا بالدين ولا شكا فيه.. فعندئذ يعتذر عنه أصحاب هذه الشبهة ويدافعون عن دينه وإسلامه، ويبقى له شرعية ليحكم أو يقود ما تبقى للمزيد من الهوان..!

ولهذا يجب قطع الطريق على هذه الجريمة وبيان أنه لا اعتذار عنها بمثل هذه الأمور ،وأن الفهم الخاطيء لقصة حاطب وحقيقة فعله، أوردهم في رد محكمات هذا الدين..

أوجه الرد على الشبهة

ويمكن الرد على هذه الشبهة من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول:

القضية الكلية المحكمة لا تُنقض بأمر محتمل

إن مظاهرة الكفار وإعانتهم على قتل المسلمين والاستيلاء على ديارهم وأموالهم قضية عقدية كلية أجمع علماء السلف في القديم والحديث على أنها ناقض من نواقض الإسلام، ولم يقيدوها بشيء. وقد حكى الإجماع ابن حزم رحمه الله تعالى في المحلى. (2(11/ 35))
وممن حكى الإجماع على ذلك أيضاً الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله حيث قال:

“وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم كما قال الله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾”.(المائدة:51) (3مجموع فتاوى ومقالات الشيخ 1/ 269)

ومعلوم في منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة أن نصوص الشريعة المنزلة المحكمة إذا طرّدت على تقرير أصل عظيم، وتثبيته وتأكيده، وأصبح هذا الأصل العظيم من محكمات الشريعة لم يجز شرعًا ولا عقلاً أن ينقض هذا الأصل العظيم، وتزعزع تلك المُحكَمة، بشبهةٍ من نص محتمل في قضية جزئية، فضلاً أن يستدل بكلام بعض العلماء المحتمل المخالف لأصول تقريرات أولئك العلماء أنفسهم.

إن هذا هو من مسالك ومآخذ أهل البدع في الاستدلال حيث يبطلون الكليات بجزئيات، ولا يردون المتشابهات إلى المحكمات. وأما أهل السنة فيجمعون بين الأدلة ولا يضربون بعضها ببعض ويردون المتشابه إلى المحكم ولا يبطلون الكليات بالجزئيات.

[اقرأ أيضا: محورية الولاء والبراء في صفات الطائفة المنصورة]

الوجه الثاني:

تقسيم مناط “مظاهرة الكفار” محدَث، وترد عليه إيرادات

إن محاولة الاستدلال بقصة حاطب رضي الله عنه وبعض كلام العلماء عليها بأن هناك فرق بين ما إذا كانت المظاهرة للدين أو كانت للدنيا إنما هو تقسيم محدث وترد عليه الإيرادات التالية.

الإيراد الأول: تقسيم (مظاهرة الكفار) لا يتفق مع معتقد أهل السنة وأصولهم

أن هذا التفريق لا يتسق  مع معتقد أهل السنة في الإيمان؛ بل يخشى أن يتفق مع طرائق المرجئة.

حيث الكفر عندهم هو كفر الاعتقاد فقط؛ ولا تلازم عندهم بين الظاهر والباطن وهذا مخالف لأصول أهل السنة الذين يرون أن العبد يكفر بالاعتقاد والقول والفعل. وهم في التلازم بين الظاهر والباطن حسب الأحوال التالية:

الحالة الأولى: أن يكون القصد مكفراً لكن لا يدل عليه العمل الظاهر

وذلك كأعمال المنافقين هي في الظاهر طاعات مع أنهم كفار في الباطن لعدم إخلاصهم لله فيها.

وإذا كان العمل الظاهر شرطاً في الحكم على المعين، وهو غير حاصل بالنسبة لحال المنافقين، فلا يكفي مجرد العلم بكفرهم الباطن في الحكم بكفرهم في الظاهر، ولذلك لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم على المنافقين الذين كان يعلم حقيقة أمرهم بالكفر الظاهر.

ومع أنه لم يكن يستغفر لهم ولا يصلي عليهم إذا ماتوا، فقد كان يعاملهم معاملة المسلمين في أحكام الدنيا من النكاح والإرث والدفن في مقابر المسلمين؛ فلم تكن للمنافقين مقبرة خاصة بهم.

الحالة الثانية: أن يكون الفعل الظاهر كفْراً غير محتمل إلا الكفر في الباطن

وذلك كسبِّ الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أو دينه؛ فإن ذلك كفر ظاهر، ولا يمكن أن يصدر عن مؤمن يحب الله ورسوله ودينه. فإن السب بغض وكراهية، ولا يكون إيمان أبداً في قلبِ من لم يحب الله ورسوله ودينه.

ولا ينظر هنا إلي استحلاله أو عدمه، فإن السبَّ كفرٌ بذاته، وهو دالّ دلالة قطعية على قصد من تلبس به، وإذا اجتمع الكفر الظاهر مع القطع بأن القصد غير محتمل غير الكفر لزم تكفير من تحقق منه ذلك.

يقول شيخ شيخ الاسلام رحمه الله تعالى:

“إن سب الله تعالى أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل”. (4الصارم المسلول:1/ 513)

وسر المسألة أن الساب لا يمكن أن يكون معذوراُ بجهل أو تأوّل بل ذلك مما يناقض أصل الرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، فليس السبّ مما يمكن فيه احتمال أن يتعلق بمناط غير نقض أصل الدين، فكان ولا بد كفراً لذاته.

وهذه الحالة هي التي تنطبق أيضاً على مسألتنا فيمن ظاهر المشركين على المسلمين مع علم المُظاهر بالضرر الكبير الذي يلحق بالمسلمين في دينهم ودمائهم وأعراضهم من جراء هذه المظاهرة.

الحالة الثالثة: أن يكون الفعل الظاهر محتملاً للكفر وعدمه

وذلك بأن يكون الفعل داخلاً في عموم المخالفة لكن لا يكون قاطعاً في الدلالة على أنه كفر، كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي لم يكن في فعله أي ضرر على المسلمين ولا مصلحة للمشركين.

الحالة الرابعة: أن يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده

وهذه الحالة هي التي ينظر فيها الي توفر الشروط وانتفاء الموانع في الفاعل المعين ومن أشهر هذه الموانع عارض الجهل، وعارض الإكراه، وعارض التأويل.

الإيراد الثاني: إلغاء مناط (مظاهرة الكفار) الذي اعتبره الشارع

أن من أحب بعض الكفار لدينهم وأحب شركهم وصليبهم فهذا في حد ذاته كفر سواءً ظاهرهم أو لم يظاهرهم وإن ظاهرهم على هذا الاعتقاد فقد تلبس بناقضين.

الإيراد الثالث: سبب الكفر عموما حب الدنيا

أخبر الله تعالى عن عموم الكافرين أن سبب كفرهم إنما هو استحبابهم الدنيا وتقديمها على الآخرة، قال تعالى ﴿وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ* الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ (إبراهيم: 2- 3).

وقال تعالى عمن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ (البقرة:86).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:

“والله سبحانه وتعالى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضره في الآخرة، وبأنه ما له في الآخرة من خلاق.

وأيضًا فإنه سبحانه استثنى المكرَه من الكفار، ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثن منه المكرَه لأن الإكراه على ذلك ممتنع؛ فعُلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه.

وقوله تعالى: ﴿وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ (النحل:106) أي لاستحبابه الدنيا على الآخرة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا». (5مسلم (186))

والآية نزلت في عمار بن ياسر وبلال بن رباح رضي الله عنهما، وأمثالهما من المؤمنين”. (6مجموع الفتاوى 7/ 560)

وقال الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله:

«قوله تعالى ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (النحل: 106-107).

فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أُكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه، سواء فعله خوفاً أو مداراة أو مشحّة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله، أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض، فالآية تدل على هذا من جهتين:

الأولى قوله: ﴿إلا من أكره﴾؛ فلم يستثن الله تعالى إلا المكرَه، ومعلوم أن الإنسان لا يُكرَه إلا على الكلام أو الفعل، وأما عقيدة القلب فلا يكرَه عليها أحد.

والثانية: قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ﴾ (النحل: 107)؛ فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر، وإنما سببه أن له في ذلك حظًا من حظوظ الدنيا فآثره على الدين، والله سبحانه وتعالى أعلم». (7كشف الشبهات ضمن مجموعة التوحيد ص 126)

الإيراد الرابع: فساد وفحش اطراد هذه الشبهة

يقال لمن فرق بين مظاهرة الكفار لأجل دينهم وبين المظاهرة لهم لأجل الدنيا:

هل هذا مطرد في جميع النواقض؛ فمثلاً لو قام شخص بسبّ الله عز وجل، أو إهانة المصحف وإلقائه في النجاسات عالمًا مختارًا لكن دافعه إلى ذلك الدنيا بأن أغراه أحد بمال كثير إذا فعل ذلك، فهل مثل هذا لا يكفر لأنه أراد الدنيا فقط ولم يكن قصده كره الدين؟

الذي يغلب على الظن أن الجواب عندهم: أنه يكفر؛ لأنه يمتنع أن يقدم على هذا العمل أحد وفي قلبه محبة لله تعالى أو القرآن، لأن هناك تلازم بين الظاهر والباطن كما تم تفصيل ذلك في فقرة سابقة.

فنقول لهم حينئذ: فما الفرق إذن بين هذا الشخص وبين من أعان الكفار فناصرهم في القضاء على المسلمين، وإبادة أطفالهم ونسائهم، واحتلال ديارهم؟ هل يمكن أن يتصور عند هذا محبة للدين وأهله؟ لا والله لا يتصور أبدًا.

إنه يمتنع وجود محبة للإسلام وأهله عند من حمل السلاح، أو قاد طائرة محملة بالقنابل المحرقة وألقاها على أطفال المسلمين ونسائهم! أو وضع القطع المعدنية على بيوت المجاهدين لتأتي طائرات الغزاة الكافرة فتسويها بمن فيها بالأرض، أو منع السلاح عن المجاهدين حتى يستأصلهم عدوهم وهو يعلم كل هذه الأضرار الناتجة عن فعله، ويعلم أنه بذلك يمهد الطريق للكفار الغزاة ليحتلوا بلاد المسلمين..

هل يمكن أن يكون هذا مسلمًا يحب الدين وأهله بحجة أنه إنما أراد الدنيا وليس حبًا لدين الكفار؟

لا والله لا يمكن أن يكون مسلمًا والتفريق بين الحالتين تفريق بين متماثلين.

[اقرأ أيضا: الاسلام هوية تجمع الأمة]

الوجه الثالث: بيان وجه فعل حاطب وسبب عدم كفره

بقي أن يقال إذا كانت المظاهرة للكفار على المسلمين تعتبر ناقضًا من نواقض الإسلام في ذاتها دون النظر في كونها للدنيا أو للدين فلماذا لم يُكفّر النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا على فعلته؟ والجواب عن هذا الإيراد أن يقال:

إن حقيقة ما قام به حاطب رضي الله عنه ليس من المظاهرة التي عناها أهل العلم، لأن حاطبًا لم يكن ليترتب على خطابه الذي أرسله إلى قريش فيما لو وصل إليهم ضرر على المسلمين ولا إعانة للمشركين. وإنما أراد ـ اجتهادًا منه وتأولاً ـ أن يكون لفعله هذا يدٌ عند قريش يحمي بها أهله عندهم.

وهو بهذا عاصٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في منعه وصول خبر غزوه لمكة إلى أهلها.

لكنه لما كان متأولاً في ذلك ولم ينتج عنه ضرر على المسلمين، ولا مصلحة للمشركين، فعـذره الرسول صلى الله عليه وسلم ونفى عنه الوقـوع في المظاهرة المكـفرة، وبقيت المعصية التي كفَّرها حضـورُه غزوة بدر.

فهـل يسـوَّى فعل حـاطب هذا مع من يظـاهر الكـفار مظاهـرة حقيقية ويعينهم اليوم على قتال المسلمين والتجسس عليهم حتى يبادوا وتُستحـل ديارُهـم وتُنتهك أعراضهم؟!

نَص كتاب حاطب الى قريش تهديد

وقد ذكر بعض  أهل السير أن حاطبًا ربما أنه كتب الكتاب توهينًا لهم، ولو كان في صورة نصيحة، وزيادة في تخويفهم وهذا ما يدل عليه نص الكتاب كما ذكره أهل السِيَر..

ففي فتح الباري ذكر بعض أهل المغازي وهو في تفسير يحيى بن سلام أن لفظ الكتاب:

“أما بعد.. يا معشر قريش؛ فإن رسول الله قد جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده، فانظروا لأنفسكم والسلام” هكذا حكاه السهيلي. (8فتح الباري 16/ 110)

فهو أقرب إلى التهديد والوعيد منه إلى النصيحة والتنبيه.

والحاصل أنه لا يستوي تأويل حاطب الذي ليس فيه إضرار بالمسلمين، بتأويل من تعذّر بالدنيا في قتال إخوانه المسلمين ونصر الكفار عليهم؟ إنهما لا يستويان.

يقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى:

“فعل حاطب ما فعل لأنه تأول لنفسه، وظن أن هذا ما يضر المسلمين. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكفره لأنه حصل منه خطأ عن تأويل وله سابقة كفرت عنه ما حصل”. (9انظر سلسلة شرح الرسائل ص 240)

روايات الحديث ودلالتها على نفي قصد الإضرار

ومما يدل على أن حاطبًا كان متأولاً ولم يُرد الإضرار بالمسلمين ما رواه الطحاوي في المشكل (10المشكل للطحاوي (11/ 4436))، والحاكم (11الحاكم (4/ 77))، وصححه ووافقه الذهبي، والضياء في المختارة. (12المختارة للضياء (1/ 174))، بسند حسن من طريق عكرمة بن عمار قال: حدثنا أبو زميل عن ابن عباس قال:

«وفيه: (يا حاطب ما حملك على ذلك)؟ قال: يا رسول الله، أما والله إني لناصح لله ولرسوله، ولكن كنت غريبًا في أهل مكة، وكان أهلي بين ظهرانيهم وخشيت عليهم، فكتبت كتابًا لا يضر الله ورسوله، وعسى أن يكون فيه منفعة لأهلي».

وهذا نص صريح في تأويله.. أفبعد هذا يقال إنه تعمد مظاهرة الكفار ومعاونتهم على رسوله وأصحابه لأجل ولده وماله؟

فهذا باطل مردود بنص الحديث، وكلام أهل العلم، فقد نفى عن نفسه الغش وأثبت النصح لله ورسوله، ولا يقول ذلك مَن ظاهَر الكفار لأجل الدنيا.

فإن حاطبًا رضي الله عنه قد تيقن أن كتابه لن يضر به المسلمين، وأنه لا منفعة فيه لصناديد قريش ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكتبه لهم ليعينهم ويظاهرهم على رسول الله، بل لم يكتب ما كتب إلا خوفًا من هؤلاء الكفرة على أبنائه أن يقتلوهم..

فكتب كتابًا إلى أناس من المشركين ممن يعرفهم وأسَرَّ إليهم بالمودة أن يحفظوا أهله وماله من كفار قريش؛ لئلا يقتلوهم لخروجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتالهم شاهرًا سلاحه عليهم ناصحًا لله ورسوله بهجرته وجهاده بنفسه مع المسلمين.

[اقرأ ايضا: فما لكم في الأمريكان الكفرة فئتين]

ضوابط مهمة

ونذكر هنا ضوابط مهمة في تكفير من ظاهر المشركين وأعانهم على المسلمين:

أولاً: تعريف مناط المظاهرة المكفرة، بدقة

المظاهرة التي تعد ناقضًا من نواقض الإسلام هي التي يقوم فاعلها عالمًا مختارًا بإعانة الكفار على المسلمين، مما يكون له الأثر في الإضرار بالمسلمين، وتقوية شوكة الكفار في النيْل من المسلمين واحتلال ديارهم.

سواء كانت هذه الإعانة بالنفس أو المال أو السلاح أو المشورة أو غيرها مما يكون فيه ضرر على المسلمين.

ويشترط في ذلك علم المظاهِر بأن من أعانهم من الكفار وأن من أعان عليهم من المسلمين.

ثانيًا: فئات لا تكْفر لوجود موانع

وبناء على تعريف المظاهرة المكفرة ينبغي التنبيه إلى أن هناك فئات من المسلمين قد يبدو من فعلهم أنه مظاهرة للكفار، والأمر ليس كذلك لوجود مانع من موانع التكفير يعذرون به.

وعدم التنبه إلى هذا الأمر يؤدي إلى رمي المسلم بالكفر وهو برئ منه.

وأشد من ذلك مصيبة أن يترتب على هذا الحكم استحلال دماء معصومه، والولوغ في الدم الحرام.

وفي ضوء الواقع وتجارب المجاهدين واجتهاداتهم يمكن أن نذكر هنا بعض الفئات التي يبدو لبعض الناس أنهم في صف الكفار، فيسارع من يسارع إلى وصف ذلك بالمظاهرة المكفرة، ويرميهم بالكفر وهم ليسوا كذلك.

ومن هذه الفئات:

الفئة الأولى

الذين لا يعلمون حقيقة من ظاهروهم وأعانوهم، ولا حقيقة المعان عليهم، أو لبّس عليهم بأنهم يدافعون ويعينون المسلمين على من ناوأهم من أعدائهم من الكفرة أو البغاة المفسدين.

وهذا يحصل في الغالب في كثير من الأنظمة التي بدّلت شرع الله عز وجل، ووالت أعداء الله تعالى؛ حيث يظن كثير من الناس ـ ومنهم كثير من الشرط والعساكر الحامية لهذه الأنظمة أنهم يدافعون عن الدولة المسلمة ضد من يظنون أنهم خوارج وبغاة.

وحينئذ يشرع بعض المتحمسين للجهاد، والولاء والبراء؛ فيكفّرون هذه العساكر المعينة لهذه الأنظمة بحجة أنهم ظاهروا المرتدين على المجاهدين، وبالتالي يجوز قتالهم واستحلال دمائهم. وهنا تقع المصيبة وتشتعل الفتنة.

والصحيح أن مثل هؤلاء العساكر المغرر بهم والذين يجهلون أنهم يقاتلون مع أنظمة كافرة ضد المسلمين، لا يجوز تكفيرهم حتى يتبين لهم الأمر تمامًا، ويرضون بانحيازهم للصف الكافر أمام المسلمين، وحينئذ يَحيى من حىّ عن بينةٍ ويهلك من هلك عن بينةٍ.

ولذلك نكرر النصح بكف اليد في مثل هذه الظروف، حتى لا تكون فتنة وفساد كبير كما هو الحاصل في بعض بلدان المسلمين.

الفئة الثانية

وهم الذين يعلمون حقيقة الكفار ورايتهم وأنهم يقاتلون المسلمين ويحتلون ديارهم، ولكنهم مع الحكومة الموالية للكفار في وظائف خدمية لا تضر المسلمين والمجاهدين؛ بل قد تكون مما ينتفع منه الناس بعامة، فإذا دخل المسلم في مثل هذه الخدمات متأولاً، من غير إلحاق ضرر بالمسلمين فإن مثل هذا لا يدخل في المظاهرة.

الفئة الثالثة

وهم الذين يُكرَهون إكراهًا ملجئًا على إعانة الكفار في القتال أو غيره مما يلحق الضرر بالمسلمين المجاهدين. ولو لم يفعل فإنه يتعرض للقتل أو التعذيب.

وفي مثل هذه الحالة يقال إن العزيمة: الصبر وعدم إعانتهم حتى لو قُتل أو عُذب.

ومن أخذ بالرخصة فيجوز له ذلك حسب شروط الإكراه الملجئ؛ ولكن بشرط أن لا يوجه سلاحه لقتال مسلم، بل يرميه بعيدًا عن المسلمين. وأن يكون قد بذل جهده في الهرب منهم ولم يستطع؛ ففي مثل هذه الحالة لا يكفر من هذه حاله لوجود مانع الإكراه.

الفئة الرابعة

من دخل مع الكفار وأظهر أنه معهم، لكنه دخل لغرض شرعي صحيح فيه مصلحة للمجاهدين وإضرار بالكافرين، كما في حالة العيْن على الكفار يتجسس عليهم، أو ليستولي على سلاحهم وأموالهم أو ليخذّلهم عن المسلمين.

فمن كانت هذه نيته بصدق فإن هذا يمنع من تكفيره ولو كان متشبها بالكفار في هدْيه الظاهر مع اشتراط عدم الحاق الضرر بالمجاهدين والمسلمين.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

“لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورًا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر.

بل قد يُستحب للرجل، أو يجب عليه، أن يشاركهم أحيانًا في هَدْيهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والإطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة”. (13اختصار اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم/ د. ناصر العقل ص 171)

خاتمة

هذا ما يسر الله تعالى بيانه في هذه القضية؛ حتى لا يوهنها أحد عند المسلمين؛ ولا يسمح أحد لنفسه أو لغيره بتدمير الأمة وموالاة العدو تحت غطاء شبهات خادعة؛ والحمد لله رب العالمين..

الهوامش

  1. صحيح البخاري (4/ 59).
  2. (11/ 35).
  3. مجموع فتاوى ومقالات الشيخ 1/ 269.
  4. الصارم المسلول:1/ 513.
  5. مسلم (186).
  6. مجموع الفتاوى 7/ 560.
  7. كشف الشبهات ضمن مجموعة التوحيد ص 126.
  8. فتح الباري 16/ 110.
  9. انظر سلسلة شرح الرسائل ص 240.
  10. المشكل للطحاوي (11/ 4436).
  11. الحاكم (4/ 77).
  12. المختارة للضياء (1/ 174).
  13. اختصار اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم/ د. ناصر العقل ص 171.

اقرأ أيضا:

  1. الاسلام هوية تجمع الأمة
  2.  فما لكم في الأمريكان الكفرة فئتين
  3. حكم الدعوة للقومية العربية ونحوها
  4. خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية

التعليقات غير متاحة