إن الله سبحانه يريد أن يعرّفنا بكلامه العظيم في كتابه الكريم، وأن نلاحظ الحياة المباركة فيه، وأن نعيش هذه الحياة في ظلاله .. ولذلك عرض لنا طائفة من أسماء القرآن وصفاته وخصائصه وسماته.

التعرف على طبيعة هذا القرآن ومهمته ودوره ورسالته

وردت في القرآن الكريم صفات وسمات لكتاب الله، وسجلت آياته أوصافا وخصائص واضحة لهذا الكتاب المعجز، ولاحظت آثاره المباركة الخيرة على الأفراد والجماعات، وأبرزت مظاهر النقلة البعيدة التي ينتقل إليها المؤمنون الأحياء المبصرون، من خلال تفاعلهم الحى مع القرآن، وحياتهم الطاهرة في ظلاله ..

ويجب علينا- ونحن نتلو القرآن ونتدبره- أن نلاحظ هذه الصفات والسمات، وأن نقف طويلا أمام الآيات التي تعرضها، وأن نعيشها بكامل كياننا وكافة مشاعرنا ودقائق حياتنا ..

إن الله سبحانه يريد أن يعرّفنا بكلامه العظيم في كتابه الكريم، وأن نلاحظ الحياة المباركة فيه، وأن نعيش هذه الحياة في ظلاله .. ولذلك عرض لنا طائفة من أسماء القرآن وصفاته وخصائصه وسماته .. فلنقبل عليها بوعي وتدبر وتفاعل، لنعرف طبيعة هذا القرآن ومهمته ودوره ورسالته .. لأنه لا أحد أعلم بكلام الله من الله سبحانه .. وإنّ تفضّل الله علينا بتعريفنا على كتابه لهو نعمة سابغة، ورحمة باهرة، علينا أن نقابلها بالتوجه إلى الله سبحانه بالحمد والشكر، والإخلاص، والحب، والإقبال على كتابه الكريم بالتدبر والتذوق والالتزام والتطبيق، لنعرف طعم الحياة، ونتذوق ألوانها ومظاهرها.

طائفة من أسماء القرآن وخصائصه، وسماته وصفاته، وفضائله وآثاره

1 – القرآن

هو أشهر هذه الأسماء وأبرزها وأظهرها، وقد خص الله كتابه المنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الاسم، حيث لم يطلق على كتب الله السماوية السابقة. والقرآن مشتق من القراءة (كما هو الراجح عند علماء القرآن). وقد خص بالكتاب المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فصار علما عليه ..

وأورد الراغب في مفرداته قول أحد العلماء: «تسمية هذا الكتاب قرآنا من بين كتب الله لكونه جامعا لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم»1(1) (المفردات: 402). كما أشار إليه بقوله: (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) [يوسف: 111].

ولعل في اختيار هذا الاسم الكريم- المتميز المتفرد- إشارة بارزة إلى وجوب تميز وتفرد الأمة الإسلامية- الأمينة على قرآنها وعلى وجودها وعلى البشرية من حولها- بحيث لا تأخذ في مناهج حياتها من غير هذا القرآن الكريم.

أخبر الله عن بدء نزول القرآن في شهر رمضان المبارك بقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة: 185].

وقال تعالى في وصف هذا القرآن: (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) [ق: 1] وقال: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص: 1] ووصف القرآن بأنه عربي مبين في قوله تعالى: (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت: 3].

وقرر الله أن هذا القرآن ميسر للذكر- لمن أراد أن يذكر ويتذكر، ولمن تعامل معه بقلب حي وتأثر بالغ- فقال: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟ [القمر: 17].

وبيّن أنه ضرب في هذا القرآن للناس من كل مثل لعلهم يتفكرون أو يتذكرون، ولكنهم غفلوا عن هذه الأمثال وأعرضوا عنها، واختاروا أن يعيشوا في ريبهم وكفرهم يترددون. فقال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الإسراء: 89].

وأعلمنا الله أن الكفار لا يحبون سماع هذا القرآن، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قرأ القرآن فإن الحاجز السميك، والحجاب الساتر، يرتفع بينه وبين أولئك الكفار، وأن هذا الحجاب الحاجز يتمثل في الأغطية على القلوب، وفى الصمم في الآذان، فلا تعي ولا تتدبر كلام الله، ولذلك يعرضون عن القارئ لكلام الله، ويولون مدبرين نافرين، فقال تعالى: (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) [الإسراء: 45، 46].

ودعانا الله إلى أن نتهيأ لتلاوة القرآن، وأن نستعد لها استعدادا خاصا، بأن نتوجه إلى الله قبلها، نستعيذ به من الشيطان، لتكون هذه الاستعاذة وسيلة لتدبر كلام الله، فقال: (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل: 98].

التفاعل والتدبر والتلقي والانفعال عند الاستماع لآيات القرآن

وطالبنا الله بالأدب الجم مع القرآن، عندما نسمع آياته تتلى علينا، فلا بد من الاستماع لها بكامل كياننا الإنساني، وفتح كل منافذ القلب لتصل إليه وتتفاعل معه. وفرق بين السماع والاستماع، إذ أن السماع هو وصول الأصوات إلى الأذن، ولكنه قد يكون سماعا عرضيا غير مقصود .. أما الاستماع فهو مشاركة الحواس والأجهزة المختلفة في المسلم للأذن، في التفاعل والتدبر والتلقي والانفعال. قال تعالى: (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204].

وبيّن أثر القرآن على الجبال الجوامد- لو خاطبها به- وتفاعلها معه، وأبرز مظاهر التأثير والانفعال عليها فقال: (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21] وقال: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) [الرعد: 31].

الشهوات والمعاصي والإقبال على الدنيا أقفال توصد القلوب أمام النور والهدى والخير والحياة

ولقد أمرنا الله بتدبر القرآن، والوقوف طويلا أمام آياته، وملاحظة إيحاءاتها وتوجيهاتها ومعانيها وحقائقها، ووضع أيدينا على العلة التي تحول بيننا وبين هذا التدبر، والداء الذى يعوقنا عن القيام به، وذلك حتى نقضي على تلك العلة، ونزيل ذلك الداء، وهو الأقفال على القلوب، التي توصدها أمام النور والهدى والخير والحياة، وهذه الأقفال هي الشهوات والمعاصي والإقبال على الدنيا، وملء القلب من كل ذلك، بحيث لا يبقى فيه متسعا لتدبر أو هدى أو إيمان .. فقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد: 24].

التدبر وسيلة لزيادة الإيمان واليقين

وأرشد الله إلى أن نجعل التدبر وسيلة لا غاية، ولا نقعد عنده ونتشاغل به عن الهدف المنشود، وهو زيادة الإيمان والثقة واليقين بكلام الله، وملاحظة تناسقه وتناسبه وإدراك مهمته وأغراضه، وتلقّي حقائقه ومقرراته .. فقال: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82].

القرآن هدى ونور لكل مرافق الحياة الفردية والجماعية

ومن الله علينا بأن أخبرنا أننا إن راعينا ما سبق في التعامل مع القرآن وتلاوته وتدبره، فإننا سنحصل على الهدى الراشد، والنور الهادي، والشفاء الناجع، فالقرآن هدى للأفراد والمجتمعات، ونور لكل مرافق الحياة الفردية والجماعية، وشفاء لكافة أمراض وعلل الأمة فقال: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء: 9] وقال أيضا: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) [الإسراء: 82].

وصدق الله إذ وصف كتابه بصفة الحكمة، وهى صفة عجيبة لا يوصف بها إلّا العقلاء!! ولعلنا عند ما نعيش مع القرآن كما يريد الله، ونحيا به على منهج الله، نلاحظ بعض جوانب الحكمة في قرآننا العجيب الحكيم! قال تعالى: (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس: 1 – 2].

الدعوة للعمل بالقرآن كله

وقد ذم الله الكفار الّذين قسموا القرآن، وأطلقوا عليه صفات باطلة- ليصدوا الناس عن الإيمان به- فقالوا عنه: سحر وشعر وكهانة، وهذا الذم ينصرف على اليهود والنصارى الّذين قسموا كتبهم السماوية أقساما، وجزّءوها أجزاء، فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض، اتباعا لشهواتهم وأهوائهم، وأرى أن هذا ينصرف إلى المسلمين الّذين يجزئون القرآن ويقسمونه، ويأخذون منه جزءا ويتركون أجزاء، ويظهرون منه قسما ويخفون أقساما، ويؤمنون بموضوع منه ويكفرون بموضوعات!!. وقال تعالى: (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) [الحجر:90 – 91] وعضين أي مفرقا، حيث قالوا كهانة وقالوا أساطير الأولين إلى غير ذلك مما وصفوه به2(2) (المفردات: 238)..

أساليب الكفار في مواجهتهم ومحاربتهم لهذا القرآن

وسجل القرآن الكريم شكوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه، من الكفار وإعراضهم عن القرآن وهجرهم له. فقال: (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) [الفرقان: 30].

بل سجل القرآن أسلوبا من أساليب الكفار في مواجهتهم لهذا القرآن، ومحاربتهم له، وبذلهم كل ما في وسعهم من طاقة لطمس نوره والقضاء عليه .. وهيهات هيهات!! إنهم يلجئون إلى وسيلة خسيسة تنبئ عن هزيمتهم الداخلية أمام القرآن، واضطرابهم النفسي أمام حقائقه، واعترافهم- الضمني الملحوظ- بعجزهم عن مواجهته، وفشلهم في محاربته .. إنهم يطلبون من الجماهير المخدوعة المستغفلة أن لا تسمع لهذا القرآن- لأنها إن استمعت بكيانها كله آمنت به- وأن تستعيض عن ذلك باللغو والصياح والضجيج، والتظاهرة الإعلامية ورفع الأصوات اللاغية، والمكاء والصفير، والتصدية والتصفيق .. لعلهم يغلبون هذا الحق ويطمسون هذا النور، ويغطون نور الشمس برقعة منديل! .. قال تعالى: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصّلت: 26].

2 – الكتاب

وهو الاسم الثاني للقرآن الكريم، وقد ذكر كثيرا في آياته، وتردد كثيرا في سوره، وهو يلى القرآن في الشهرة وكثرة الذكر، والقرآن كتاب باعتباره مكتوبا، مضمومة حروفه وكلماته وآياته عن طريق الخط والكتابة ..

ومن تسمية كلام الله بهذين الاسمين القرآن والكتاب. يلاحظ معنى الضم والجمع، فإن القرآن مشتق من القراءة والقراءة- كما يقول الإمام الراغب في مفرداته- «هي ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل»3(3) (المفردات: 402). والكتاب مشتق من الكتابة، وهى- كما يقول الراغب أيضا- «ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وقد يقال ذلك للمضموم بعضها إلى بعض باللفظ، فالأصل في الكتابة النظم بالخط، لكن يستعار كل واحد للآخر، ولهذا سمى كلام الله- وإن لم يكتب- كتابا4(4) (المفردات: 423)..

ونحن نرى كلمات وآيات القرآن مضمومة إلى بعضها ضما متناسقا متماسكا معجزا، وكل من قرأ في القرآن وسمع آيات منه، أو كتب ألفاظا وكلمات منه يلحظ معنى الضم في كل ذلك ..

وتبدو هناك حكمة أخرى من تسمية كلام الله بهذين الاسمين: القرآن والكتاب، وقد أورد هذه الحكمة العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه القيم «النبأ العظيم»، وخلاصتها: أن الله أراد من هذين الاسمين أن يتحقق الجمع الوثيق لكلامه، وأن يوجد الحفظ التام المطلق لكل سوره وآياته وكلماته وحروفه، وأن لا يرد على النفس المسلمة احتمال ولو يسيرا عن تعرض شيء منها للتحريف أو الضياع أو النقصان .. ولذلك تم حفظ القرآن بوسيلتين عمليتين، هما القمة في وسائل الحفظ والتوثيق:

وسيلة القراءة، ووسيلة الكتابة: «فلا يقبل القرآن المقروء ما لم يعرض على المصحف العثماني المكتوب ويتفق معه، ولا يقبل المكتوب ما لم يتفق مع تعليم الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه للقرآن، وإقرائهم له وقراءته له أمامهم»5(5) [انظر النبأ العظيم: 7 – 9]..

هذا الكتاب الذى أنزله الله هو حق لا ريب فيه، وهو هدى للمتقين. قال تعالى: (الم * ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة:1 – 2].

وهو كتاب حكيم كما أنه قرآن حكيم .. (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يونس: 1]، وقد أحكمت آياته ثم فصلت ووضحت وبينت، وقدمت للناس ليؤمنوا بها (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [هود: 1].

وخاطب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنه أنزل عليه القرآن، وذلك ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكتاب الله هو الوسيلة الوحيدة لهذا الإخراج، وأية وسيلة أخرى غيره إنما هي أوهام وظنون وتخرصات، ولا تنتج إلّا مزيدا من الظلمات. قال تعالى: (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [إبراهيم: 1].

مهمة هذا الكتاب…البيان والتبيان 

وأعلمه أنه أنزل إليه الذكر والكتاب تبيانا لكل شيء وتفصيلا له، وهو بهذا التبيان هدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فقال: (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]، وقال: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44].

بل قصر الله مهمة الكتاب الكريم على هذا البيان، وحصرها به، وطالب رسوله عليه الصلاة والسلام بالقيام بذلك وتبليغه وأدائه .. (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل: 64].

وورود ثلاث آيات كريمة في سورة واحدة- هي سورة النحل- تحدد مهمة هذا الكتاب وتقصرها على البيان والتبيان، وتطالب الرسول عليه السّلام بذلك، ذو دلالة خاصة على هذا، ويشير إلى تفرد سورة النحل بذلك- وهى سورة النعم، وأية نعمة أعظم من نعمة التبيان والبيان من خلال القرآن- .. كما نشير إلى صياغة الآيات الكريمة، حيث جعلت التبيان القرآني عاما للناس جميعا، وخصصت ما فيه من رحمة وهدى وبشرى للمسلمين فقط، لأن هذه الثلاثة مرتبطة بالإيمان الإسلامي ومبنية عليه، ولا توجد عند فقده.

ويطالب الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يقوم بهذا التبيان والبلاغ والإنذار للناس، وأن لا يدع للحرج أو الضيق مجالا ينفذ منه إلى صدره، لأنه يعوقه عن أداء هذا الواجب، فلا حرج فيه وإن خالف ما عليه الناس، وإن فاجأهم بما لا يتوقعونه!! ولماذا يتحرج الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لا يتلقى الحقائق والقيم والأعراف والموازين والمبادئ والتوجيهات من الناس، إنما يتلقى كل ذلك من رب الناس، ويكفيه أن الله يشهد له، ويكون معه، وينصره ويثبته، ويأجره على فعله .. قال تعالى: (المص * كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف: 1 – 2].

وظيفة هذا الكتاب…الحكم بين الناس بالحق

ويخبر الله سبحانه رسوله عليه الصلاة والسلام، بوظيفة هذا الكتاب المنزل عليه، الوظيفة التي تجعل له وجودا ومهمة، والتي تبرز من خلالها الحياة فيه، وتظهر آثاره، وتجنى ثماره، تلك هي الحكم بين الناس بالحق .. قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ) [النساء: 105].

هذا وبيّن لنا الله الوسيلة التي تضمن لهذا الكتاب الحق أن يحقق وجوده عمليا، وأن يحق الحق ويبطل الباطل، وأن يقود الناس إلى الحق، تلك الوسيلة هي القوة المادية التي تحرسه وتحميه، والتي تهيّئ له الناصر البشرى الذى يطبقه وينفذ أحكامه، وبدون هذه القوة يبقى حقا نظريا مقيدا عن العمل في الواقع، ويتحول إلى حق مضيع، يعدو عليه كل جبان، وينتقصه كل ضعيف، ويعوى عليه كل نابح!!. قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد: 25].

وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام تعليم الأمة كتاب الله

وقد أشار القرآن إلى وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام في تعليم الأمة كتاب الله، فسجل دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بذلك منذ زمن بعيد، حيث دعوا الله أن يبعث للبشرية خيرا وطهرا ونورا وهداية ..

(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 129].

وأخبرنا الله أنه استجاب دعوة النبيين الصالحين عليهما الصلاة والسلام فقال تعالى: (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 151].

وقال تعالى مظهرا المنة الربانية العظمى علينا ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وإخراجه هذه الأمة بإذن ربها من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الموت إلى الحياة (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [آل عمران: 164].

وتتحدث آية من سورة الجمعة عن نفس الموضوع، حديثا يتناسق مع موضوع السورة وشخصيتها المستقلة، فتقول: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الجمعة: 2].

التعليم ثمرة مباركة لشجرة الإيمان والتزكية

ونلاحظ في صياغة الآيات الثلاث أمرا لافتا للنظر، وذا دلالة تربوية عميقة، وكأنى بهذه الآيات الثلاث تشير إلى منهج تربوي راشد ناجح، وتدعو المخططين والموجهين والمربين في عالمنا اليوم، وواضعي الخطط والمناهج التربوية والكتب التعليمية إلى ملاحظة هذه الإشارة القرآنية واللفتة التعليمية فيها .. تلك هي ترتيب المهمة التربوية التعليمية لرسول الله عليه الصلاة والسلام، والعطف على وسائلها بالواو، وتقديم الأساس على البناء، والتمهيد على الموضوع، والبذرة والشجرة على الثمرة والجني، والمقدمة على النتيجة، نأخذ كل هذا من عطف الأفعال المضارعة في قوله: «يتلو عليهم آياته .. ويزكيهم .. ويعلمهم الكتاب والحكمة» إنها مراحل ثلاث متدرجة متتابعة مرتبة: تلاوة القرآن كتمهيد وتخلية واستعداد وتهيئة، ثم تزكية النفوس وتطهيرها من أمراضها وأدرانها ونقائصها ورذائلها .. وأخيرا تأتى عملية التعليم لهذه النفوس بعد ما استعدت وتهيأت، وبعد ما تطهرت وزكت .. وبعد ما أشرقت واستنارت، تأتى عملية التعليم ثمرة مباركة لشجرة الإيمان والتزكية، ونتيجة معطاءة لمقدمات مدروسة صحيحة، وهدى ورحمة وخيرا وسعادة للمتعلمين، ولأمتهم وللإنسانية من حولهم ..

كتاب الله الكريم مبارك بكل صور البركة وألوانها

وقد وصف الله كتابه بصفة البركة، ووسمه بهذه السمة، ودعانا إلى تلمس مظاهر هذه الصفة، والوقوف على ألوان البركة القرآنية الشاملة العامة، ولا أعنى بها البركة بمفهومها المنتشر عند المسلمين اليوم من الخير والعطاء والزيادة في الأجر والثواب، لا أعنى هذا فقط- كما أنني لا أنفيه من القرآن، فهو مبارك بهذا المفهوم- وإنما أعنى بها البركة في المفهوم القرآني، وهى- كما قال العلامة الراغب الأصفهاني في كتابه الفريد المفردات- «والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، وسمى بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير، ومن ذلك (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأنبياء: 50].

تنبيها على ما يفيض عليه من الخيرات الإلهية .. » إلى أن يقول:

«ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر، قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة .. »6(6) (المفردات: 44)..

فكتاب الله الكريم مبارك بكل صور البركة وألوانها، وتتجلى فيه كل مظاهر البركة وآفاقها، وأصولها وفروعها .. قال تعالى: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام: 92]، وقال تعالى: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (155) [الأنعام: 155]. وقال تعالى: (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص: 29].

الناس مع كتاب الله أقساما ثلاثة

ونلاحظ في القرآن آية كريمة قسمت المسلمين في تعاملهم مع كتاب الله أقساما ثلاثة، فهم قد ورثوا كتاب الله، ولكنهم ليسوا على مستوى واحد في هذه الوراثة، ولا على درجة واحدة في الاعتناء بهذا الموروث الكريم، والكنز العتيق، والبركة الغامرة، فمنهم من ظلم نفسه في التعامل مع كتاب الله وتطبيقه، فقصر في الواجبات وارتكب المحرمات، ومنهم من هو مقتصد لا يريد أن تزيد طاعاته على معاصيه ولا العكس، والصنف الثالث هو الفائز الناجح، وهو السابق بالخيرات، والمستزيد من الطاعات، والمكثر من الحسنات (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32].

الهوامش

(1) (المفردات: 402).

(2) (المفردات: 238).

(3) (المفردات: 402).

(4) (المفردات: 423).

(5) [انظر النبأ العظيم: 7 – 9].

(6) (المفردات: 44).

المصدر

كتاب: “مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د/ صلاح عبد الفتاح الخالدي، ص20-31.

اقرأ أيضا

أمور تعين على تدبر القرآن وتفهمه

تأمل .. كيف انبهروا بالقرآن !

الاستشفـاء بالقرآن .. لأمراض الفرد والأمة

 

التعليقات غير متاحة