عبودية الطواغيت مكلفة تكلفة باهظة في العقائد والأموال والأولاد والأعراض، مع تدني أصحابها. بينما يمثل التوحيد قمة سامية ومبدأ للحياة الكريمة.

طريق الأنبياء

سلك أنبياء الله ورسله طريق الإصلاح، وكان الإصلاح له قاعدة واحدة وإعلانا واحد؛ هو إعلام لا إله إلا الله.. لإعلان التحرير ورفض العبودية للطواغيت وانحرافاتهم وتدنيهم.

سلك الطريق الأنبياء نبي تلو آخر. ومن هؤلاء شعيب عليه السلام وما لاقاه. ولنا معه وقفة..

يبدأ شعيب، عليه السلام، بدعوة قومه إلى عبادة اللّه وحده وإفراده سبحانه بالألوهية، وإلى الدينونة له وحده وإفراده من ثم بالسلطان في أمر الحياة كله.

يبدأ شعيب، عليه السلام، في دعوتهم من هذه القاعدة التي يعلم أنه منها تنبثق كل مناهج الحياة وكل أوضاعها كما أن منها تنبثق قواعد السلوك والخلق والتعامل. ولا تستقيم كلها إلا إذا استقامت هذه القاعدة.

ويستصحب في دعوتهم إلى الدينونة للّه وحده، وإقامة حياتهم على منهجه المستقيم، وترك الإفساد في الأرض بالهوى بعد ما أصلحها اللّه بالشريعة.. يستصحب في دعوتهم إلى هذا كله بعض المؤثرات الموحية.. يذكرهم نعمة اللّه عليهم: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: 86]

ويخوّفهم عاقبة المفسدين من قبلهم: ﴿وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 86].

كذلك يريد منهم أن يأخذوا أنفسهم بشيء من العدل وسعة الصدر فلا يَفتنوا المؤمنين الذين هداهم اللّه إليه عن دينهم، ولا يقعدوا لهم بكل صراط، ولا يأخذوا عليهم كل سبيل، مهددين لهم مُوعِدين. وأن ينتظروا حكم اللّه بين الفريقين. إن كانوا هم لا يريدون أن يكونوا مؤمنين: ﴿وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا ، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ﴾ [الأعراف: 87].

لا رجعة بعد هذا الخط

لقد دعاهم إلى أعدل خطة. ولقد وقف عند آخر نقطة لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة.. نقطة الانتظار والتريث والتعايش بغير أذى، وترك كلٍّ وما اعتنق من دين، حتى يحكم اللّه وهو خير الحاكمين.

ولكن الطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود ممثل في جماعة من الناس لا تدين للطاغوت.

إن وجود جماعة مسلمة في الأرض، لا تدين إلا اللّه، ولا تعترف بسلطان إلا سلطانه، ولا تحكّم في حياتها شرعا إلا شرعه، ولا تتبع في حياتها منهجا إلا منهجه.. إن وجود جماعة مسلمة كهذه يهدد سلطان الطواغيت ـ حتى لو انعزلت هذه الجماعة في نفسها، وتركَت الطواغيت لحكم اللّه حين يأتي موعده.

إن الطاغوت يفرض المعركة فرضا على الجماعة المسلمة حتى لو آثرت هي ألا تخوض معه المعركة. إن وجود الحق في ذاته يزعج الباطل. وهذا الوجود ذاته هو الذي يفرض عليه المعركة مع الباطل؛ إنها سنة اللّه لا بد أن تجري.

﴿قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا﴾ [الأعراف: 88].

هكذا في تبجح سافر، وفي إصرار على المعركة لا يقبل المهادنة والتعايش..! إلا أن قوة العقيدة لا تتلعثم ولا تتزعزع أمام التهديد والوعيد.

لقد وقف شعيب عليه السلام عند النقطة التي لا يملك أن يتزحزح وراءها خطوة.. نقطة المسالمة والتعايش ـ على أن يترك لمن شاء أن يدخل في العقيدة التي يشاء وأن يدين للسلطان الذي يشاء؛ في انتظار فتح اللّه وحكمه بين الفريقين ـ وما يملك صاحب دعوة أن يتراجع خطوة واحدة وراء هذه النقطة، تحت أي ضغط أو أي تهديد من الطواغيت، وإلا تنازل كلية عن الحق الذي يمثله وخانه..

فلما أن تلقى الملأ المستكبرون عرضه هذا بالتهديد بالإخراج من قريتهم أو العودة في ملتهم، صدع شعيب بالحق، مستمسكا بملته، كارها أن يعود في الملة الخاسرة التي أنجاه اللّه منها، واتجه إلى ربه وملجئه ومولاه يدعوه ويستنصره ويسأله وعده بنصرة الحق وأهله:

﴿قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ـ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا، وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ـ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ﴾ [الأعراف: 88].

وفي هذه الكلمات القلائل تتجلى طبيعة الإيمان، ومذاقه في نفوس أهله، كما تتجلى طبيعة الجاهلية ومذاقها الكريه. كذلك نشهد في قلب الرسول ذلك المشهد الرائع.. مشهد الحقيقة الإلهية في ذلك القلب وكيف تتجلى فيه.. ﴿قالَ: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟﴾.

يستنكر تلك القولة الفاجرة: ﴿لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا﴾..

يقول لهم: أتجبروننا على ما نكره من ملتكم التي نجانا اللّه منها..؟! ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها﴾..

التراجع شهادة باطلة

إن الذي يعود إلى ملة الطاغوت والجاهلية، التي لا يُخلص فيها الناس الدينونة والطاعة للّه وحده، والتي يتخذ الناس فيها أربابا من دون اللّه يقرون لهم بسلطان اللّه.. إن الذي يعود إلى هذه الملة ـ بعد إذ قسم اللّه له الخير وكشف له الطريق، وهداه إلى الحق، وأنقذه من العبودية للعبيد ـ إنما يؤدي شهادة كاذبة على اللّه ودينه. شهادة مؤداها أنه لم يجد في ملة اللّه خيرا فتركها وعاد إلى ملة الطاغوت..! أو مؤداها ـ على الأقل ـ أن لملة الطاغوت حقا في الوجود، وشرعية في السلطان وأن وجودها لا يتنافى مع الإيمان باللّه. فهو يعود إليها ويعترف بها بعد أن آمن باللّه.. وهي شهادة خطيرة أخطر من شهادة من لم يعرف الهدى، ولم يرفع راية الإسلام. شهادة الاعتراف براية الطغيان. ولا طغيان وراء اغتصاب سلطان اللّه في الحياة..! وكذلك يستنكر شعيب، عليه السلام، ما يتهدده به الطغاة من إعادته هو والذين آمنوا معه إلى الملة التي أنجاهم اللّه منها: ﴿وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها﴾..

وما من شأننا أصلا وما ينبغي لنا قطعا أن نعود فيها.. يقولها وأمامه التهديد الذي يزاوله الطاغوت في كل أرض مع الجماعة المسلمة، التي تعلن خروجها عن سلطانه، ودينونته للّه وحده بلا شريك معه أو من دونه.

إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة للّه وحده ـ مهما عظمت وشقت ـ أقل وأهون من تكاليف العبودية للطواغيت..! إن تكاليف العبودية للطواغيت فاحشة ـ مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق..! ـ إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة..! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته فهذه “الإنسانية” لا توجد، والإنسان عبد للإنسان..؟

وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان..؟!.. وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به، ورضاه أو غضبه عليه..؟!.. وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته..؟! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان..؟!

على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة. إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس ـ في حكم الطواغيت ـ أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج. كما يكلفهم أولادهم إذ يُنشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات. فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها؛ فيذبحهم على مذبح هواه، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه..! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت، سواء في صورة الغصب المباشر ـ كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ ـ أو في صورة تُنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهبا مباحا للشهوات تحت أي شعار..! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار. والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه وبناته في حكم الطواغيت من دون اللّه. إنما يعيش في وَهْم، أو يفقد الإحساس بالواقع..!

دعوة لإنقاذ العبيد

إن عبادة الطاغوت عظيمة التكاليف في النفس والعرض والمال. ومهما تكن تكاليف العبودية للّه، فهي أربح وأقوم حتى بميزان هذه الحياة. فضلا على وزنها في ميزان اللّه.

إن الإسلام حين يدعو الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر ورده كله للّه، إنما يدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم وتحرير رقابهم من العبودية للعبيد كما يدعوهم إلى إنقاذ أرواحهم وأموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم.. إنه يكلفهم أعباء المعركة مع الطاغوت ـ تحت رايته ـ بكل ما فيها من تضحيات ولكنه ينقذهم من تضحيات أكبر وأطول، كما أنها أذل وأحقر..!

إنه يدعوهم للكرامة، وللسلامة، في آن..
…………………………….

المصدر:

  • في ظلال القرآن ، ج 3 ، ص : 1318-1319 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة