استند المُرجئة -بُهتانًا- على حججٍ هاوية للتأكيد علي زعمهم لإفراغ الدين من مهامه وأهدافه ولذلك ندرس فيما يلي هذه الحجج وتبيين حقيقتها.

استمرار المُرجئة على مر العصور في محاولة إفراغ الدين من مقتضياته

قد بيننا فيما سبق في مقال (أهداف دين الإسلام والفكر الإرجائي نقيضان لا يجتمعان) أنه من المستحيل أن يتخلى الإنسان عن كل مقتضيات لا إله إلا الله، ثم يظل مؤمنًا بلا إله إلا الله.. مستحيل بالنسبة للأهداف التي من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتاب، ومستحيل بالنسبة لواقع المجتمع المسلم الذي يحكم بشريعة الله، ومستحيل بالنسبة لواقع النفس البشرية، فإلى أي شيء استند الذين يقولون: إن التصديق والإقرار هما كل متطلبات الإيمان، وإن الأعمال إن قام بها الإنسان بعد ذلك – فهي رفعة في الدرجات، وإن لم يقم بها فلا بأس على إيمانه، الذي يتحقق كاملًا بمجرد التصديق والإقرار؟!

لا شك أنها قولة المرجئة ومن لف لفهم.. وأبسط مراجعة لتاريخ الفرق تدلنا على المصدر الذي جاءت منه هذه القولة الغريبة على روح الإسلام. وإن كان الحق أن المرجئة القدامى – على كل ما أحدثوه من انحراف في فهم الإسلام – لم يتطرقوا قط – ولم يصلوا قط – إلى إسقاط الصلاة أو التحاكم إلى شريعة الله كما أسقطها المرجئة المحدثون، لأنه لم يكن يدور بخلد أحد خلال القرون الثلاثة عشر الأولى أن هناك إنسانًا واحدًا في الأرض الإسلامية يمكن أن يسمى مسلمًا في الحياة الدنيا، ويظل على قيد الحياة، وهو يهمل الصلاة ثلاثة أيام متوالية، أو يتحاكم إلى غير شريعة الله..

ولكن المرجئة القدامى – مع ذلك – هم الذين وضعوا البذور السامة التي التقطها المرجئة المحدثون، واستنبتوا منها إسلاما جديدًا لم يتنزل به كتاب ولم يرسل به رسول.. إسلاما بلا تكاليف! أو قل: إسلام بلا إسلام!!

إلى أي شيء استند المرجئة – القدامى أو المحدثون سواء – في أن كل المطلوب لإثبات الإيمان هو الإقرار اللساني بالنسبة للحياة الدنيا، والتصديق والإقرار بالنسبة للحياة الأخرى؟!

استناد المُرجئة إلى المدلول اللغوي للإيمان للتأكيد على زعمهم الباطل

أول ما استندوا إليه هو المدلول اللغوي للإيمان، فقالوا: هو التصديق. ثم قالوا: إن عمل الصالحات يرد في الآيات القرآنية معطوفا على الإيمان: “الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، والواو تقتضي المغايرة، وإذن فالإيمان شي وعمل الصالحات شيء آخر، ليس من جنسه وليس داخلا فيه.

فأما الاستدلال بالمدلول اللغوي فهو مغالطة مكشوفة!

فالمدلول الاصطلاحي – الذي اتخذته ألفاظ معينة في القرآن كالإيمان، والصلاة، والزكاة – يدخل في عموم المعنى اللغوي، ولكنه يكتسب باستخدام الإسلام له معنى خاصًا وصفة خاصة، لا يصلح أن يحتج فيها بالمعنى اللغوي.

فالصلاة لغة هي الدعاء. ولكن هل يمكن أن نقول عن الصلاة – بمعناها الخاص في المصطلح الإسلامي – إنها مجرد الدعاء، بحيث يغني الدعاء – في أية صورة – عن الصلاة بركوعها وسجودها، وما تشتمل عليه من التلاوة، ومالها من الضوابط من وجوب الطهارة قبلها، ووجوب أدائها في أوقاتها.. الخ.. الخ؟!

كذلك الإيمان.. هو في اللغة التصديق. ولكنه – بمعناه الاصطلاحي الإسلامي – صورة معينة من التصديق ذات مقتضيات معينة، من عمل قلبي كالحب والخشوع والإخبات والخضوع والإذعان، ووجوب الرجوع إلى الله عند الحكم على أي أمر من الأمور، أو موقف من المواقف، أو تصرف من التصرفات، بأنه حلال أو حرام أو مباح أو مكروه أو مندوب، وعمل بالجوارح يشمل أداء الشعائر التعبدية، والالتزام بأخلاقيات لا إله إلا الله في السلوك العملي، والخضوع العملي لأحكام الشريعة فيما يشجر في حياة الناس في كل لحظة من لحظات حياتهم: « إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِیَتۡ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِیمَـٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ * ٱلَّذِینَ یُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقًّا لَّهُمۡ دَرَجَـٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَةٌ وَرِزۡقٌ كَرِیمٌ » سورة الأنفال [۲- 4].

«  فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا » سورة النساء [65].

« یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ.. » سورة النساء [59].

« قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ * ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی صَلَاتِهِمۡ خَـٰشِعُونَ * وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَنِ ٱللَّغۡوِ مُعۡرِضُونَ * وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِلزَّكَوٰةِ فَـٰعِلُونَ * وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِفُرُوجِهِمۡ حَـٰفِظُونَ * إِلَّا عَلَىٰۤ أَزۡوَ ٰاجِهِمۡ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُمۡ فَإِنَّهُمۡ غَیۡرُ مَلُومِینَ * فَمَنِ ٱبۡتَغَىٰ وَرَاۤءَ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡعَادُونَ * وَٱلَّذِینَ هُمۡ لِأَمَـٰنَـٰتِهِمۡ وَعَهۡدِهِمۡ رَ ٰعُونَ * وَٱلَّذِینَ هُمۡ عَلَىٰ صَلَوَ ٰتِهِمۡ یُحَافِظُونَ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡوَ ٰرِثُونَ  * ٱلَّذِینَ یَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ » سورة المؤمنون [۱-۱۱].

تلك كلها من مقتضيات «التصديق» بمعناه الاصطلاحي الخاص الذي يعبر عنه القرآن بالإيمان، والتي لا يحتج فيها بالمدلول اللغوي، كما لا يحتج به في معنى الصلاة ومعنى الزكاة وغيرها من المصطلحات الإسلامية، التي حددت الاستعمال اللغوي، وألحقت به مقتضيات معينة لا يحملها المعنى اللغوي بالضرورة.

وأما الاحتجاج بورود عمل الصالحات في التعبير القرآني معطوفا على الإيمان، والاستدلال من ذلك على أن العمل ليس داخلا في مسمى الإيمان لأن «الواو» تقتضي المغايرة، إذ أن الشيء لا يعطف على نفسه.. فهو لا يقل تهافتًا ولا مغالطة عن الاحتجاج الأول!

يقول سبحانه وتعالى: «مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَجِبۡرِیلَ وَمِیكَىٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلۡكَـٰفِرِینَ » سورة البقرة [۱۸], ومعلوم أن جبريل ومیکال هما من الملائكة المذكورين من قبل، ولم يمنع ذلك من عطف جبريل وميكال على الملائكة، لأن عطف الجزء على الكل، أو عطف الخاص على العام جائز ومعروف في اللغة التي نزل بها القرآن لمعانٍ بلاغية معروفة.

ويقول سبحانه وتعالى: « ٱلَّذِینَ یَحۡمِلُونَ ٱلۡعَرۡشَ وَمَنۡ حَوۡلَهُۥ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیُؤۡمِنُونَ بِهِۦ.. » سورة غافر [۷].

فالتسبيح المقدم في اللفظ، هو من مقتضيات الإيمان، أو من الأعمال المقترنة به، ولم يمنع ذلك من عطف الإيمان عليه، لأن عطف الكل المؤخر على الجزء المقدم جائز ومعروف في اللغة لمعانٍ بلاغية.. ولا يقتضي شيء من ذلك المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، لا في المثال الأول ولا المثال الثاني، بل هما مقترنان اقتران الاحتواء: احتواء أحدهما على الآخر، أو اقتران العموم بالخصوص.

كما أن الاستدلال بالعطف الوارد في الآيات القرآنية بين الإيمان وعمل الصالحات على استقلال كل منها عن الآخر وعدم دخوله في مسماه ولا في معناه ساقط من جهة أخرى بالآيات التي ورد فيها ذكر الإيمان مقترنا بعمل الصالحات لا معطوفا عليه. « وَمَن یَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنًا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَـٰتُ ٱلۡعُلَىٰ * جَنَّـٰتُ عَدۡنٍ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ جَزَاۤءُ مَن تَزَكَّىٰ» سورة طه [75-76]. فجملة الحال هنا “قد عمل الصالحات”، لا تحتمل إلا أحد معنيين: إما أن يكون عمل الصالحات هو مقتضى الإيمان ومضمونه، بمعنى أنه من كان مؤمنًا فحاله أنه يكون قد عمل الصالحات. وإما أن يكون عمل الصالحات – مع الإيمان – هما شرط دخول الجنة. وفي الحالين يكون الإيمان وعمل الصالحات مقترنين في المبدل أو المصير أو في کليهما جميعًا.

فإن قيل: «إن عمل الصالحات شرط للوصول إلى الدرجات العلى» وحدها لا مجرد دخول الجنة، وإن دخول الجنة لا يشترط له إلا التصديق والإقرار فحسب، فالآية الواردة في سورة النساء تدحض ذلك: « وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٌ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرًا » سورة النساء [124].

فهنا تقدم ذكر العمل الصالح وجاء القيد – أو الشرط – في جملة الحال «وهو مؤمن» وكان المصير هو دخول الجنة لا درجاتها العليا!

كذلك قوله تعالى: « قَیِّمًا لِّیُنذِرَ بَأۡسًا شَدِیدًا مِّن لَّدُنۡهُ وَیُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنًا » سورة الكهف [۲].

فلا يخرج المعنى عن أن يكون أن عمل الصالحات هو شأن المؤمنين، أو أن يكون عمل الصالحات شرطًا مع الإيمان لنيل الأجر الحسن.

والآيات كلها ذات دلالة واضحة تدحض كل ما قاله المرجئة في شأن انفصال الإيمان عن العمل، واعتبار الإيمان المقبول عند الله. المستوجب لدخول الجنة هو التصديق والإقرار فحسب!

احتجاج المُرجئة بالمعصية

فالمعصية في عمل الجوارح لا تخرج من الإيمان كما اتفق علماء الإسلام. فلابد إذن أن يكون الإيمان شيئا قائمًا بذاته، غير مرتبط بالعمل، وإلا لزالت صفة الإيمان عمن يرتكب المعصية ولم يعد مؤمنا..

والاحتجاج بالمعصية على هذه الصورة فيه – ككل حججهم – مغالطة مكشوفة! فالمعصية حقا لا تخرج من الإيمان. ولكنها بالتأكيد تؤثر فيه!

وتأثير المعصية في حال الإنسان حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد، لأنها ملحوظة مشهودة معهودة. ولكن يكفينا هذا التقرير من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أعلم الناس بحقيقة الإيمان، وحقيقة القلب البشري، وحقيقة ما يحدث من أثر المعصية فيه. « إِنَّ العبدَ إذا أخطأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ في قلبِهِ نُكْتَةٌ، فإنْ هو نزعَ واستغفرَ صُقِلَتْ، فإنْ عادَ زِيدَ فيها حتى تَعْلو قلبَهُ، فَذلكَ الرّانُ الذي ذكرَ اللهُ تعالى: كَلّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. » أخرجه مسلم ومالك.

والقلب هو محل الإيمان.. فكيف يستوي القلب الأسود مع القلب الأبيض في الإيمان؟! إنما يتأثر الإيمان بالطاعة والمعصية فيزيد وينقص، ولا يتصور بحال أن يكون حاله في الزيادة كحاله في النقصان.

ومع ذلك فينبغي – كما أشرنا من قبل – أن نضع حدودًا للمعصية لا تتعداها مهما اتسع نطاقها، وهي حدود لا نضعها من عند أنفسنا، إنما هي مستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -.

فالمعصية غير الاستحلال. والاستحلال يخرج من الإيمان ولو لم يقترف الإنسان العمل المنهي عنه.

والمعصية لا يدخل فيها ما ينقض أصل الإيمان. والتشريع بغير ما أنزل الله (أي التحليل والتحريم من دون الله) من نواقض الإيمان.

والمعصية لا يمكن أن تشمل كل مقتضيات لا إله إلا الله في الآن الواحد، أو في الشخص الواحد. ومن لم يعمل عملًا واحدًا من أعمال الإسلام في حياته كلها يستحيل أن يكون في قلبه ذرة من الإيمان!!

ارتباط قول الشهادتين بالالتزام بما جاء من عند الله، والتحاكم إلى شريعة الله

واحتجوا أيضًا بأنه لم يكن يطلب من الناس للدخول في الإسلام إلا النطق بالشهادتين. فمن نطق بالشهادتين اعتبر لتوه مسلمًا، وأجريت عليه الأحكام الظاهرة في الحياة الدنيا، وحسابه على الله في الآخرة.

وتلك من أكبر مزالق الفهم في شأن مقتضيات لا إله إلا الله! لأنها في ذاتها حقيقة، ولكن دلالتها ليست على النحو الذي يذهبون إليه.. وإليك الدليل!

حقيقة إنه من كان يجيء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (أو ما في معناها) كان يعتبر لتوه مسلمًا، ويدخل في عداد المجتمع المسلم، ولو قالها نفاقا.

ولكن الاستدلال بهذا على أن نطق لا إله إلا الله باللسان – وحده – هو الذي أعطى صفة الإسلام في الحياة الدنيا، وأنه لا يطلب من الإنسان غيره ليصبح مسلمًا في الحياة الدنيا وحسابه على الله في الآخرة هو استدلال مردود!

والذي يحسم في هذا الأمر هو الردة..

فالمرتد الذي ما يزال ينطق بلسانه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكنه أنكر شيئًا من مقتضيات لا إله إلا الله، فأنكر الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو تحاكم مُریدًا راضيًا إلى غير شريعة الله، عقوبته في الحياة الدنيا هي القتل، وعقوبته في الآخرة الخلود في النار (ما لم يتب)..

فهل يتصور من عدل الله سبحانه، أن يأمر بقتل إنسان في الحياة الدنيا، وأن يدخله النار خالدًا فيها في الآخرة على أمر لم يطلبه منه ولم يلزمه به ولم يُعلِمه به؟!

إذا أخذنا ظاهر الحال – الذي يستدل به المرجئة ومن لف لفهم – فإنه لم يطلب من ذلك الإنسان إلا أن يقول بلسانه لا إله إلا الله محمد رسول الله.

ولكن لا تستقيم عقوبة المرتد في الدنيا والآخرة وهو ما يزال ينطق بلسانه لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا يستقيم تصور عدل الله – سبحانه وتعالى – في الدنيا والآخرة، إلا أن يكون هذا النطق باللسان قد تضمن مقتضي معينًا، علمه الناطق، وعلم أنه مُلزم به، فلما نكل عنه – مع أنه ما يزال ينطق الألفاظ بلسانه – حكم عليه بالقتل في الحياة الدنيا، والخلود في النار في الآخرة.

هل يمكن أن يكون الأمر غير ذلك؟ أعني هل يمكن أن يكون كل المطلوب هو أن ينطق بلسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، بغير مقتضى متضمن في هذا النطق، وملزم للناطق به، ثم يعاقب هذا العقاب الشديد، وهو ما يزال قائما بما طلب منه؟!

كلا! لا يستقيم الأمر إلا على أساس واحد.. هو أنه حين طلب منه أن يقول بلسانه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قد طلب منه ضمنًا أن يلتزم بمقتضى الشهادتين، وهو الالتزام بما جاء من عند الله، والتحاكم إلى شريعة الله.

فإذا قال قائل: لو كان هذا الالتزام مطلوبًا لاكتساب صفة الإسلام لنص عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – نصًّا، كما نص على ضرورة النطق بلا إله إلا الله.. ولكنا لا نجد شواهد على ذلك..

فنقول: صحيح أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لم ينص على هذا الأمر. فلم يقل لمن جاءه يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله: وتتعهد أيضًا أن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، وتتعهد كذلك بالتحاكم إلى شريعة الله وعدم التحاكم إلى شرائع الجاهلية (وهذا كله هو المقتضى المرتبط بلا إله إلا الله ).: بل قال – صلى الله عليه وسلم -: « أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلَهَ إلّا اللهُ، فإذا قالُوها عَصَموا منِّي دِماءَهُم وأمْوالَهُم إلّا بِحَقِّها وحِسابُهُم على اللهِ» متفقٌ عليه.

نعم، لم ينص – عليه الصلاة والسلام – إلا على النطق، ولم ينص على المقتضى المتضمن في النطق إلا في مرحلة التعليم. فقد قال لمعاذ – رضي الله عنه – وهو يبعثه إلى أهل اليمن: «إِنَّكَ تقدَمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فلْيَكُنْ أوَّلَ ما تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ، فإذا عرفوا اللهَ، فأخبرْهم أنَّ اللهَ قدْ فرَضَ عليهم خمسَ صلَواتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فعلُوا فأخبرْهم أنَّ اللهَ قدْ فرَضَ عليهم زكاةً؛ تؤخَذُ مِنْ أموالِهم، فتُرَدُّ على فقرائِهم… » أخرجه مسلم.

فلما تم التعليم أصبح هذا الأمر من المعلوم من الدين بالضرورة كما يقول علماء هذا الدين. أي أصبح من المعلوم عند من ينطق بلا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله أنه مطلوب منه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا. وأصبح من المعلوم عنده أن الله قد أنزل أحكامًا وفرضها على من يعتنق هذا الدين، وأن هذه الأحكام هي التي يجري العمل بها في المجتمع الإسلامي وما سواها باطل. وبناء على هذا العلم، أصبح من نكل عن مقتضى لا إله إلا الله يعاقب هذا العقاب الشديد في الدنيا والآخرة. «وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقًا وَعَدۡلًاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ » سورة الأنعام [ 115].

وهنالك أمر آخر مستمد من واقع المجتمع الإسلامي له نفس القوة في شأن الالتزام بمقتضيات لا إله إلا الله. فقد كان للإسلام منذ وجد المجتمع الإسلامي كيان قائم بالفعل، له صورة واقعة، معلومة وذائعة، لا مفترضة افتراضًا ولا متخيلة خيالًا. فمعلوم سلفًا عند كل من جاء يقول لا إله إلا الله أن «المسلم» يصلى صلوات معينة في اليوم والليلة، ويصوم صيامًا معينًا كل سنة، ويؤدى زكاة أمواله، ويحج إلى بيت الله الحرام إن استطاع، ويتقيد بأحكام معينة منزلة من عند الله حدد فيها للمسلمين الحلال والحرام. ومعلوم عنده سلفًا أن المسلم ملتزم بهذا كله، وأن هذا هو مقتضى كونه مسلمًا. وأنه إن نكل عن شيء من ذلك فهو مرتد يوقع عليه حد الردة. فلا يعقل أن يجيء لينطق بالشهادتين وهو يعتزم في دخيلة نفسه أن يعرض نفسه للقتل من قبل سلطان الشريعة القائم في الأرض بالفعل! إنما المنطق والمعقول، أن يكون – وقد جاء ينطق بالشهادتين – قد اعتزم الالتزام بسلطان الشريعة القائم وعدم الخروج عليه.

ولا ينفي هذا بطبيعة الحال أن يكون جاهلًا بكثير من الأحكام الفرعية. فكثير منها لا يعلمه إلا المتفقهون في أمر الدين ولكن الذي لا يمكن أن يجهله هو مبدأ الالتزام بما جاء من عند الله، وأن هذا الالتزام – على الجملة – هو مقتضى نطقه بلا إله إلا الله..

من أجل هذا كان يطلب ممن جاء يدخل في الإسلام أن ينطق بالشهادتين، ولا يطلب منه أن يقر بالصلاة والصيام والزكاة والحج، ويقر بالالتزام بأحكام شرع الله، لأن هذا كله صار “من المعلوم من الدين بالضرورة”، بعد أن انتهت فترة التعليم في مبدي الإسلام. وأصبح الذي ينطق بلسانه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، ثم ينكل عن شيء من مقتضياتها يوقع عليه حد الردة في الحياة الدنيا، ويخلد في النار في الآخرة، بالتزام واضح لا لبس فيه.

ولم يكن هذا الالتزام بمقتضيات لا إله إلا الله في المجتمع المسلم شأن المؤمن بهذا الدين وحده كما يتوهم بعض الناس، بل هو شأن كل إنسان ينطق بلا إله إلا الله ولو كان كافرًا منافقًا ممن هم في الدرك الأسفل من النار! فإن المنافق – الذي قد يُعرف في لحن القول وقد يُعرف من فتوره في أداء الصلاة أو غير ذلك من العلامات – لا يحتفظ بحياته في المجتمع المسلم، ولا تجرى عليه أحكام الإسلام، إلا بنطقه بلا إله إلا الله، والتزامه بالتحاكم إلى شريعة الله، والتزامه – على أقل تقدير – بإقامة الصلاة.

إنما يفترق المؤمن عن المنافق لا بالالتزام بأحكام الله وأداء الصلاة (على أقل تقدير) فهذا هو الحد الذي يستوي فيه الناس جميعا ليحصلوا على صفة الإسلام في المجتمع المسلم، وليحافظوا على هذه الصفة، وليحافظوا على أنفسهم من توقيع حد الردة عليهم.. إنما الفارق أن المؤمن يصنع ذلك كله إيمانًا وتصديقًا وطاعة وقربي إلى الله بينما يفعل المنافق ذلك كله نفاقًا، وحرصًا على الحياة!

أي أن مظهرية الإسلام ذاتها في المجتمع المسلم – أي الذي يتحاكم إلى شريعة الله – لا تُنال إلا بنطق الشهادتين والالتزام بمقتضاهما. وأداء الصلاة على أقل تقدير. وهي الأمور التي ظل الناس متعارفين عليها، وملتزمين بها – مؤمنهم ومنافقهم سواء – طيلة ثلاثة عشر قرنًا من تاريخ الإسلام!

يحتجون كذلك بحادثة أسامة بن زيد حين قتل رجلًا قال لا إله إلا الله بعد أن علاه أسامة بالسيف، وأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غضب منه غضبًا شديدًا وعاتبه عتابًا قاسيًا، وظل يكرر عليه: قتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟! ولم يقبل منه اعتذاره بأن الرجل قالها متعوذًا (أي من السيف)، يعنى لم يكن مؤمنا بها. وقال له: هلا شققت عن قلبه فتعلم إن كان قالها.

والحجة في هذه الحادثة لا توصل إلى ما يستدلون به.

إن لا إله إلا الله ترفع السيف قطعًا. أي تمنع قتل من نطق بها. ولكن هل تعطيه صفة الإسلام؟! هنا موضع اللبس في الاستدلال بحادثة أسامة.

فحكم الله في القضية أنه من قال لا إله إلا الله ولو كان متعوذًا لا يجوز قتله. ولكن إذا لم يلتزم بأحكام الإسلام فهل يظل يعامل على أنه مسلم؟!

یعنی جاء وقت أول صلاة بعد قوله لا إله إلا الله فلم يقم للصلاة، وأبي، فما حكمه؟ حكمه أنه مرتد يوقع عليه حد الردة!

فنطق لا إله إلا الله قد رفع عنه السيف، نعم، ولكنه وضعه موضع المراقبة للتبين. فإن تبين أنه التزم بمقتضيات لا إله إلا الله – ولو كان منافقًا – فهو مسلم في الحياة الدنيا وحسابه على الله في الآخرة، وإلا احتسبت عليه قولته، ووقع عليه حد الردة لنكوله عن مقتضيات لا إله إلا الله التي نطقها بلسانه!

وفي جميع الأحوال يكون ثبات صفة الإسلام لأي إنسان في الحياة الدنيا موكولًا بالالتزام بمقتضيات لا إله إلا الله بعد نطقه بالشهادتين، سواء كان مؤمنًا حقًا أم كان من المنافقين. ثم تحدث المعاصي في المجتمع المسلم، وتمتد وتمتد، ولكنها تقف عن نقطتين أساسيتين لا تتعداهما بحال: التحاكم إلى شريعة الله، وإقامة الصلاة.

ويحتجون بحادثة الجارية التي سألها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فسألها: من أنا؟ قالت رسول الله. فقال لسيدها: «أعتقها فإنها مؤمنة». ويقولون: لو كان المطلوب لإثبات الإيمان شيئًا آخر وراء النطق بالشهادتين ما أعطى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صفة الإيمان بمجرد النطق (أو ما يدل عليه).

وتلك من أكبر القضايا التي أثارها المرجئة – قدماؤهم ومحدثوهم – ليثبتوا أن كل المطلوب في الحياة الدنيا هو النطق بالشهادتين، وكل المطلوب للآخرة هو الإقرار والتصديق.

ومن قديم رد العلماء عليهم استدلالهم ورفضوه..

وسواء أخذنا بقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – أن قضايا الأعيان لا تنقض النص، لأن النص أقوى دلالة منها وأوثق، أي أنها صحيحة في ذاتها ولكن لا يقاس عليها.

أو أخذنا بقول الإمام ابن تيمية – رحمه الله – أن نطق الشهادتين كاف لإجراء الأحكام في الحياة الدنيا – والعتق من بينها – ولكنه ليس دليلًا على الإيمان الإمام. ابن تيمية (الفتاوي-كتاب الإيمان-الجزء السابع). سواء أخذنا بهذا القول أو ذاك، فالقضية الأصلية ما تزال واحدة. فالذي ينطق بلا إله إلا الله يُفترض فيه أنه ملتزم بمقتضيات لا إله إلا الله، ولا يُفترض فيه ابتداء غير ذلك، لأن هذا الالتزام هو من المعلوم من الدين بالضرورة، وبهذا الالتزام المفترض يأخذ صفة الإسلام، أي بالمقتضى المتضمن في النطق لا بالنطق وحده. فإن نکل عن المقتضى وإن كان ما يزال مستمرًا في النطق فهو مرتد عن الإسلام، لا ينجيه من توقيع حد الردة عليه في المجتمع المسلم أن يقول: لم أكن أعلم! ولم يحدث مرة واحدة في تاريخ الإسلام خلال الثلاثة عشر قرنا التي كانت تطبق فيها شريعة الإسلام أن أحدًا من الناس قال: لم أكن أعلم أن للإسلام مقتضيات!! وإن جهل أحكام الفروع كلها واحتاج إلى السؤال عنها ليتعلمها!!

ويحتجون أخيرا بأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: « من قال لا إله إلا الله دخل الجنة » وقال – عليه الصلاة والسلام -: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة » أو ما في هذه المعاني.

وليس من الضروري أن نقول في شأن هذه الأحاديث إنها قيلت في مكة قبل نزول التكاليف وإنها نسخت في المدينة بعد نزولها كما يقول بعض العلماء.

يقول الحافظ المنذری: «ذهبت طوائف من أساطين أهل العلم إلى أن مثل هذه الإطلاقات التي وردت فيمن قال لا إله إلا الله دخل الجنة أو حرم على النار أو نحو ذلك كان في ابتداء الإسلام حين كانت الدعوة إلى مجرد الإقرار بالتوحيد، فلما فرضت الفرائض وحدت الحدود نسخ ذلك، والدلائل على هذا كثيرة متظاهرة، وإلى هذا القول ذهب الضحاك والزهري وسفيان الثوري وغيرهم. وقالت طائفة أخرى: لا احتياج إلى ادعاء النسخ في ذلك، فإن كل ما هو من أركان الدين وفرائض الإسلام هو من لوازم الإقرار بالشهادتين وتتماته. فإذا أقر ثم امتنع عن شيء من الفرائض جُحدًا أو تهاونًا على تفصيل الخلاف فيه، حكمنا عليه بالكفر وعدم دخول الجنة» 1الترغيب والترهيب 03 / ۲۲۰ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

مفهوم التوحيد من قول ابن القيِّم

ويقول ابن القيم: «وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله وأن الله رب كل شيء ومليكه كما كان عباد الأصنام يقرون بذلك وهم مشركون. بل التوحيد يتضمن من محبة الله والخضوع له والذلة له وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى جميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها. ومن عرف هذا عرف قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» وقوله: «لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله» وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي شكلت على كثير من الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأوَّل بعضهم الدخول بالخلود فقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة. والشًّارِع لم يجعل ذلك حاصلًا لمجرد قول اللسان فقط، فإن هذا خلاف المعلوم من دين الإسلام. فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم وهم تحت الجاحدين لها، في الدرك الأسفل من النار.. فلابد من قول القلب وقول اللسان. وقول القلب يتضمن من معرفتها والتصديق بها ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعني بالقلب علمًا ومعرفة ويقينًا وحالًا ما يوجب تحريم قائلها على النار… وتأمل قيام ما قام في قلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته وهو في تلك الحال على أن جعل ينتقل بصدره ويعالج سكرات الموت، فهذا أمر آخر وإيمان آخر، ولا جرم أنه ألحق بالقرية الصالحة وجعل بين أهلها…» 2مدارج السالكين ج ۱ ص ۳۳۰ – ۳۳۲ طبعة دار الكتاب العربي ۱۳۹۲ هـ.

قول المُرجئة يُفرِّغ الدين من أهدافه ومهامه

ونقول بعد ذلك: إنه لا حرج على فضل الله. فإن شاء – سبحانه وتعالى – أن يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه مثقال ذرة من خير.. أو إن أخرج – بفضله – من النار قومًا لم يفعلوا خيرًا قط.. فهذا شأنه سبحانه، وهذا فضله، وتلك رحمته..

ولكن يبقى بعد ذلك أمر ينبغي النظر فيه..

فهذا المصير الذي يصير إليه فئة من الناس – بعد أن يذوقوا العذاب على معاصيهم وآثامهم، وبعد أن يقضي الله في حق العباد، فيدخل الجنة – بفضله – من يستحقها من العاملين بمقتضيات لا إله إلا الله، وبعد أن يشفع الرسول – صلى الله عليه وسلم – لمن يشفع من عباد الله.. هذا المصير الذي يصير إليه هؤلاء، فينجون – بفضل الله ورحمته – من الخلود في النار بعد أن يمكثوا فيها ما شاء الله لهم أن يمكثوا.. هل ينبغي أن يكون هو غاية السعي التي يسعى الإنسان إليها، ويحدد جهده من أول لحظة على مقاسه؟!

نضرب مثلا للتقريب.. ولله المثل الأعلى.

تشكل لجان في الاختبارات تسمى «لجان الرأفة» تنظر في شأن الراسبين في الاختبار، فتحاول أن تستنقذ من الرسوب من تجد مسوغًا لاستنقاذه. ثم تظل تراجع وتراجع حتى تنتهي في النهاية إلى التعطف على من تجد أدني مبرر لإخراجه من قائمة الرسوب.

فلو أن الطلاب قالوا لأنفسهم من مبدإ الطريق: هناك لجان الرأفة سترأف بحالنا وتمنحنا النجاح على أدني جهد نقوم به، بل إنها قد تمنحه لقوم لم يبذلوا جهدًا على الإطلاق.. فهل يكون لعملية التعليم كلها قيمة؟ وهل تؤدي أي هدف من أهدافها؟ وهل يكون للاختبار ذاته أي مهمة يؤديها؟!

إنما تبقى هذه اللجان تقوم بعملها، فتستنقذ فريقًا من الضعفاء حقًا، الذين حاولوا – بصدق – ولكن لم يحصلوا، فتكافئهم على صدق النية وصدق المحاولة رغم ضعف الحصيلة. ولكنها حين تجد الأقوياء القادرين -الذين تعرف منهم قوتهم وقدرتهم – قد تواكلوا، وبددوا في اللهو والعبث طاقتهم التي كان يمكن أن يصرفوها في التحصيل والدرس، استهانة منهم بالتبعة، واستخفافًا بالاختبار، واعتمادًا على أن لجان الرأفة ستنجحهم مهما تكن نتيجة عملهم.. فهل تقوم لجان الرأفة عندئذ بإنقاذهم؟!

مرة أخرى نقول: لا حرج على فضل الله.. وسعت رحمته كل شيء سبحانه.. ندعوه أن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا، ويرحم ضعفنا، ويقيل عثرتنا، ويسدد خطانا.

ولكنا نحسب أن حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد قصد به ألا ييأس أحد من رحمة الله، ولم يقصد به أن يفصّل منه المرجئة إسلامًا بلا تكاليف، ثم يزعموا أن هذا ما أراده الله بهذا الدين! ودليلنا أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لما سأله معاذ – رضي الله عنه -: یَا رَسُولَ الله أَفَلَا أُبَشِّر النَّاس؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرهُم فَيَتَّكِلُوا» رواه الشيخان.

ثم إنه إن سامح الله أولئك المذنبين في الآخرة بعد أن يذوقوا العذاب على ما اقترفوا من الذنوب، فلم يخلدهم في النار، إنما شملهم برحمته الواسعة فأنقذهم من الخلود فيها وأدخلهم الجنة.. فهل يصلح أمر هذا الدين في الحياة الدنيا حين يصبح أهله – كلهم أو غالبيتهم – من الساقطين الذين يتهافتون في النار، حتى تنقذهم رحمة ربهم من الخلود فيها؟!

واقع المُسلمين اليوم خير دليل علي بُطلان قول المُرجئة

إن الواقع الذي نعيشه اليوم خير شاهد في هذه القضية. فالذل والهوان والضعف، وغلبة الأعداء الذين لا يرقبون في المسلمين إلًّا ولا ذمة، وعدوانهم المستمر على كراماتهم ودمائهم وأعراضهم وأموالهم، هو الحال حين يكون الناس غثاء كغثاء السيل.. وهم لا يكونون كذلك إلا حين يكون إسلامهم هو إسلام التصديق والإقرار، بلا عمل يعمل من مقتضيات التصديق والإقرار.. فهل يقبل الله من عباده أن يُضيعوا دينه، وينكلوا عن المهمة التي أخرجهم من أجلها، ثم يكون هذا هو الأصل الذي يفصَّل الدين كله على مقاسه؟!

إن المجتمع القوى الإيمان، الراسخ القدم في العمل بمقتضيات لا إله إلا الله، يستطيع أن يحمل في تياره ضعاف الإيمان، والكسالى والمتباطئين والمتثاقلين، ويمضي في طريقه يحقق أهدافه. ولكن حين يصبح كله – أو حتى غالبيته – من ضعاف الإيمان والكسالى والمتباطئين والمتثاقلين، فهل يقدر على شيء، وهل يصل إلى شيء؟!

تستطيع الشجرة القوية أن تحمل بعض الأوراق الذابلة المصفرة، بل بعض الأغصان المتهاوية كذلك، ثم تؤتي ثمارها لا تضيرها تلك الوريقات ولا الأغصان. ولكن حين تطالب كل ورقة في الشجرة بحقها في أن تكون ذابلة مصفرة، وأن يحتسب لها مع ذلك حقها في الوجود على هذه الصورة مادامت لم تسقط من الشجرة بعد، فهل لهذه الشجرة من مصير إلا الفناء والموت؟!

فإذا كان الله – من رحمته بعباده – يتقبل أولئك الضعفاء، بعد أن يطهرهم من أرجاسهم بالمكوث في نار جهنم ما شاء الله أن يمكثوا، فهل يجوز لنا أن نقول: إن هذا هو المطلوب من المؤمنين ولا زيادة، ومن قال إنهم مكلفون بأكثر من ذلك فهو متزيد على دين الله؟!

مرة ثالثة نقول: لا حرج على فضل الله، يدخل في رحمته من يشاء. ولكن الله هو الذي أنزل هذه التكاليف وفرضها على المؤمنين. وهو الذي قال: إن دخول الجنة لا يكون بالتمني مع القعود: (لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءًا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیًّا وَلَا نَصِیرًا * وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٌ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرًا» سورة النساء [123 – 124]

ثم يتفضل الله من بعد ذلك على من يشاء من عباده بغير حدود!

الهوامش:

  1. الترغيب والترهيب 03 / ۲۲۰ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
  2. مدارج السالكين ج ۱ ص ۳۳۰ – ۳۳۲ طبعة دار الكتاب العربي ۱۳۹۲ هـ.

المصدر:

كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص81-107 بتصرف يسير.

اقرأ أيضًا:

التعليقات غير متاحة