اللغة عنوان للهوية ووعاء للقيم. وتربية النشء على لغة أخرى له مخاطره، وللشرع موقفه من هذا الأمر، ولتعلم اللغة الأجنبية سن مناسبة.

مقدمة

الهوية وعاء للحضارة والقيم، وهي مرتبطة بهوية الأمة. ومن الضروري للنشء أن ينشأ على هويته وعلى مظاهر هذه الهوية من اللغة والتاريخ والقيم..

ومن المظاهر السلبية اليوم توجه المسلمين العرب نحو غير لغة العرب، لغة القرآن والسنة والعلم وعنوان الهوية الاسلامية.

بل إن من يسلك هذا السبيل يتعامل مع اللغة الأجنبية بفخر لا يليق بمسلم يفخر بكتابه وتاريخه وهويته، وهذا من آثار مرحلة الضعف المزري الذي تعانيه الأمة اليوم.

ولهذا نتوجه هنا بالتحذير؛ فإن إتقان اللغة الأجنبية لا يتم إلا على حساب اللغة الأم لغة العرب، ومع اللغة تدخل المُثُل التي يريدها الأعداء، فضلاً عن الإتقان الضائع على حساب لغة القرآن.

ولا يقول عاقل أو مخْلص بتعليم اللغة الأجنبية للأطفال ونترك تعليمهم الفصحى لتشِيع العامية وينتشر اللحن بين الناشئة.

حكم التكلم بغير العربية لغير ضرورة

يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله:

” كراهة التكلم بغير العربية

وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية ـ التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن ـ حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله، أو لأهل الدار، أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو للأمراء، أو لأهل الديوان، أو لأهل الفقه، فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم، وهو مكروه كما تقدم.

ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر، ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأهل المغرب، ولغة أهلها بربرية عوّدوا أهل هذه البلاد العربية، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار: مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديما.

ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسية، حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أن هذا مكروه، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار في المكاتب وفي الدور فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف، بخلاف من اعتاد لغة، ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب.

واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرا قويا بينا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق.

وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

ثم منها ما هو واجب على الأعيان، ومنها ما هو واجب على الكفاية، وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن زيد قال: كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه «أما بعد: فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن، فإنه عربي».

وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا  الفرائض فإنها من دينكم». وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة، يجمع ما يحتاج إليه؛ لأن الدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه السنة هو فقه أعماله”. (1اقتضاء الصراط المستقيم، ص203-204)

السن المناسبة

“والوقت المناسب لدراسة اللغة الأجنبية يكون عادة في سن المراهقة أو قبلها بقليل، وذلك عندما يبدأ الناشئ يهتم بالعالم الخارجي، وبالأقوام الذين يعيشون خارج وطنه ممن لهم به صلة في تاريخ أمته القديم أو الحديث.. ففرنسا وإنجلترا ومعظم دول أوربا لا تعلّم في المرحلة الأولى إلا لغة الطفل القومية”. (2أسس التربية وعلم النفس: أحمد يوسف، ص36)

“وقد أدرك الإنكليز وأمثالهم أن التربية الإسلامية أكبر خطر على الاستعمار، ولكنهم لم يجابهوها بالعنف والإكراه، وإنما عمدوا إلى إفسادها من الداخل باسم الإصلاح والتحديث.

ومن النقاط الأساسية التي أصبحت تحدد إطار التربية في البلاد المختلفة فرضُ لغة المستعمر، واستعمال كل الوسائل التي تؤدي إلى ضياع لغة البلاد الأصلية..”. (3انظر بحثاً قُدم لندوة (أسس التربية الإسلامية) بمكة المكرمة للدكتور محمد خير عرقوسي)

وقد فطن ابن خلدون إلى مضار الجمع بين لغتين أو علمين فيقول:

“ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم: أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً، فإنه حينئذ قلَّ أن يظفر بواحد منها لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة”. (4مقدمة ابن خلدون: ص1032)

والذي نلمسه بوضوح أن الإنكليز وكل الدول المستعمرة يحاولون أن يجعلوا لغتهم لغة التعليم أينما حلُّوا، وقد أورد الدكتور محمد أمين المصري، رحمه الله، من كلام أبي الحسن الندوي قوله:

“وإن الاهتمام الزائد باللغات الأجنبية، وإعطاءها أكثر من حقها؛ يجعلها تنمو على حساب اللغة العربية. وإن تدريس عدة لغات في وقت ما قد أصبح موضع بحث عند خبراء التعليم خصوصاً في المراحل الابتدائية والمتوسطة”.(5المسؤولية: ص130)

فما بالك ـ أيها القارئ الكريم ـ بَمن هم دون تلك المراحل؟ ممن لم يتقنوا النطق الجيد بلغتهم بعد، ثم يُطلب منهم معرفة لغة أقوام آخرين؟!

ومن الغرائب أن بدعة حديثة أصبحت تغزو المدارس الخاصة في ديار المسلمين، إذ يخصص لمادة اللغة الإنجليزية مثلاً أربع حصص في الأسبوع، وأين؟ وفي أي مستوى؟ في رياض الأطفال، وسن التمهيدي، أي قبل السنة الأولى من المرحلة الابتدائية.

وصار يعتبر ذلك معياراً لجودة هذه المدارس، بسبب إقبال الأهالي ورغبتهم ثم المتاجرة بهذه الرغبات.

إن تعلم لغة أخرى لضرورة ملحّة، أو أمر طارئ لا غبار عليه؛ فزيد بن ثابت، رضي الله عنه، كان في الحادية عشرة من عمره، لما قدِم رسول الله، صلي الله عليه وسلم، المدينة المنورة، وكان يكتب العربية ويروي عن نفسه فيقول: «أُتِيَ بي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، مقدمه المدينة، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أُنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأعجبه ذلك، وقال: يا زيد تعلّم لي كتاب يهود؛ فإني ـ واللهِ ـ لا آمنهم على كتابي. قال: فتعلَّمته فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته». (6رواه أبو داود والترمذي وأحمد والطبراني، وصححه الحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وانظر أعلام النبلاء2/ 429)

نلاحظ هنا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، طلب من زيد أن يتعلم لغة اليهود بعد أن حذق اللغة العربية كتابة، وحفِظ من القرآن الكريم ما حفظ؛ أما أن يعلَّم أطفال المسلمين لغة أجنبية ـ وهم لا يتقنون لغتهم نطقاً أو كتابة ـ فهذا لا يقوله عاقل أو منصف.

ونستفيد من هذا الحديث أيضاً أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يختار في تربيته الشخص المناسب للمكان المناسب، فعلينا ألا نبدد الطاقة الحية، والكفاءة الممتازة، ونفوّت بذلك مصلحة من مصالح المسلمين.

وهاهو واقع المسلمين يشهد بأن الطاقات تهدر، وفي أبناء هذه الأمة العباقرة والممتازون، لأمرٍ أو لآخر، مما لا يُرضي الله، ولا ينسجم مع مصلحة المسلمين.

وكثيراً ما نضع الشخص غير المؤهل لمنصب لا يصلح له، ولسان الحال يقول: “ليس بالإمكان أحسن مما كان”.

ونحن لا نتحدث هنا عن أبناء المسلمين في ديار غيرهم، فهؤلاء يعانون من الضغوط عليهم ـ همُ وأهلوهم ـ الكثير. والحاجة هنالك ماسة لوجود مؤسسات تربوية تصون لغة الجيل الثاني وعقيدته، وقد اضطر هؤلاء غالباً أن يعيشوا في تلك الديار مكرهين، أعانهم الله وسدد خطاهم نحو الخير.

خاتمة

وأخيراً نختم هذه الفقرة بقول ابن تيمية، رحمه الله:

“وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه، إذا اُحتِيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة.. وإنما كرهه الأئمة إذا لم يُحْتَجْ إليه”. (7الفتاوى: 3/ 306)

إن الرطانة بغير العربية بيانا لثقافة المرء..! وافتخارا بمعرفته لغة أخرى..! يستدعي ويستلزم ازدراء العربية؛ وهي لغة كتاب رب العالمين. وتتجلى مظاهرها في المسلمين غير العرب وهم ينطقونها بمشقة تقربا الى الله؛ فتجدها على ألسنتهم في لكنات تثير الإعجاب من إيمانهم وتعلمهم؛ فكيف يكون الحال عند المسلمين العرب غير هذا..؟

………………………………………

هوامش:

  1. اقتضاء الصراط المستقيم، ص203-204.
  2. أسس التربية وعلم النفس: أحمد يوسف، ص36.
  3. انظر بحثاً قُدم لندوة (أسس التربية الإسلامية) بمكة المكرمة للدكتور محمد خير عرقوسي.
  4. مقدمة ابن خلدون: ص1032.
  5. المسؤولية: ص130.
  6. رواه أبو داود والترمذي وأحمد والطبراني، وصححه الحاكم، وعلقه البخاري في صحيحه، وانظر أعلام النبلاء2/ 429.
  7. الفتاوى: 3/ 306.

المصدر:

مجلة البيان، رجب – 1411هـ، فبراير – 1991م، (السنة: 5)، محمد الناصر.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة