ذكر الكاتب في الجزء الأول أن لكل أمة من الأمم مفاهيم خاصة عن الإنسان والحياة والكون، وعلى ضوء هذه المفاهيم تتشكل قيمها وحياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتنظر من خلالها للأشياء والأحداث والناس.

وبناء على ذلك أعطينا أمثلة للاختلاف العميق بين مصطلحات لها دلالة سلبية ومُفسدة في الغرب بينما دلالتها في حضارة المسلمين دلالة إيجابية وبناءة..

واستكمالا لأمثلة المصطلحات التي تحمل دلالات غربية مناقضة ومخالفة لما عند المسلمين من عقائد ومفاهيم، وخطورة استقرارها وخطرها الفكري والقيمي على الأمة..”

مصطلح الديمقراطية

من الملاحظ أن بعض الباحثين العرب في كتاباتهم التاريخية يستعملون مصطلح الديمقراطية للتعبير عن نظام الشورى في النظام الإسلامي(1).

إذ إن المثقفين في العالم الإسلامي كانوا إلى مشارف الخمسينيات لا يدركون أن المصطلح جزء لا يتجزأ من التركيبة أو البنية الحضارية لأي مجتمع، وكانوا في حالة الدفاع عن الذات يحاولون أن يوجِدوا لكل عنوان براق في المدنية الغربية مثيله في الإسلام عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تعير بالاً للارتباط الوثيق الذي يوجد بين المصطلحات والعقائد والأفكار المنبثقة من واقع مجتمع معين.

التباس المصطلح

لقد التبس الأمر عليهم في هذا المجال، فظنوا أن جوهر الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم. وإنما يعتبر هذا الجانب ـ أي اختيار الحاكم بمحض إرادة الشعب ـ مظهرا بارزا من مظاهرها. أما الديمقراطية في جوهرها فهي منهج كامل لصياغة البناء الكلي للمجتمع.

والميلاد التاريخي للديمقراطية كان نتيجة صراع الدولة ضد الكنيسة، والحكم المدني ضد الحكم الديني، والحكم باسم الشعب ضد الحكم باسم وصاية السماء. وبعبارة أخرى يمكن القول إن الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة واحدة(2).

إن الديمقراطية والثيوقراطية كلاهما مصطلح أوروبي النشأة والتكوين والتاريخ والدلالة، ولا يعنينا أمرهما كمسلمين، لأن الإسلام لم يعرف حكم طبقة رجال الدين، كما لم يعرف يوما صكوك الغفران، ولم يعرف أيضا الصراع بين الدولة المدنية والكنيسة أو بين الدين والدولة إجمالا؛ لأن الإسلام كدين وتاريخ وحضارة يختلف عن المسيحية كدين وتاريخ وحضارة، مما يعزز بالبدهية المحضة اختلاف المصطلحات الفكرية والسياسية والمنهجية بين كلا المنظومتين(3).

[للمزيد: الإسـلام صبغـة تصطبـغ بهـا الأمـة]

مصدر التشريع في الديمقراطية والاسلام

ففي الديمقراطية الشعب هو المرجع، هو المشرع، هو مصدر السلطات. كما أن الديمقراطية تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة.

أما في الإسلام فالتشريع عموما من اختصاص الله جل وعلا لقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ (يوسف: 40)، وقوله جل ذكره: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50) وقوله جل ثناؤه: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44) وقوله تقدست أسماؤه: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65).

إلى غير ذلك من التقريرات  الواردة في القرآن الكريم التي تؤكد بأن التشريع والحكم من خصائص رب العالمين.

جوهر الديمقراطية

إن مصطلح الديمقراطية في جوهره يعني بداهة الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة الله، وإقامة الحياة على غير الدين سواء بالنسبة للأمة أو الفرد.

والمشكلة ها هنا أن بعض المسلمين انبهر بما عند الغرب ويتخيل أن حقوق الإنسان وكرامته وقيم العدل والحرية، وحق تداول السلطة، ومنع التجبر في الأرض، هي أمور حكر على التنظيم الديمقراطي، بحيث لا يمكن لهم تصور هذه المبادئ تتحقق تحت أي مظلة أخرى مصطلحية في الإسلام.

وهذا خلل خطير يرجع إلى أن الهيمنة الفكرية الغربية على تيارات الفكر والسياسة في المجتمع المعاصر، والجبروت الذي تمارسه المركزية الأوروبية على عقول ونفوس كثير من المسلمين لم تدع فرصة للعقل المسلم أن يفكر بأصالة وأن ينتج عملا فكريا ومنهجيا لا ينجذب إلى القطب الأوروبي ومنهاجه ومصطلحاته فكانت مع الأسف معظم الجهود في مجال الأفكار والمناهج والمصطلحات مجرد تذييلات وهوامش على النص الأوروبي.

ألفاظ سحرت عقولا

ويبدو أن حديث العدل والحرية وحقوق الإنسان، واختيار الحاكم ومحاسبته هي التي جعلت هذا المصطلح يسحر العقول مع غياب الحقيقة المذهلة وهي أن الديمقراطية في جوهرها هي العلمانية، والعلمانية هي نقيض الإسلام. مع العلم أن المسلمين في غنى عن هذا المصطلح إذا كانوا يبحثون عن كسب حقوقهم الضائعة.

فحق الأمة في اختيار الحاكم، وحق عزله إذا انحرف وطغى، أو محاسبته إذا أخطأ، وحرية الرأي، وحق الاختلاف، وحفظ كرامة الإنسان، وحق تداول السلطة مع الحفاظ على ثوابت الأمة الفكرية والخلقية والاقتصادية والسياسية، واحترام حقوق الأقليات ونحو ذلك، هي أركان أصيلة في منهج الإسلام في الحكم،  ينص عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولكنها أركان تحكمها ضوابط منهجية تختلف تماما عن الأسس والضوابط التي تحكم الديمقراطية كنظام لسياسة المجتمع البشري.

[للمزيد: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة]

المصطلحات الجغرافية والتاريخية

لقد تابعنا الغربيين حتى في التوزيع الجغرافي والتوزيع التاريخي الذي استخدموه، وتلقينا مصطلحاتهم في ذلك. فمثلا في التوزيع الجغرافي يقولون الشرق الأدنى والشرق الأوسط والشرق الأقصى، وذلك أن المستعمر الأوروبي اعتبر نفسه في مركز الأرض فأطلق هذا التوزيع بالنسبة لموقعه(4).

وكذلك التوزيع التاريخي مثل العصور القديمة والعصور الوسطى والعصور الحديثة. فهذا التوزيع يتميز بمراحل وتقلبات تاريخية عاشتها أوروبا، مما يجعل لكل فترة من هذه الفترات خصائص ومفاهيم مستقلة تبعا للتطورات والانقلابات الفكرية والعقائدية التي عاشتها أوروبا في كل حقبة من هذه الحقب.

فالعصور القديمة تميزت بالوثنيات الإغريقية والرومانية، ثم جاءت العصور الوسطى فعرفت هيمنة الكنيسة وتسلط البابوية، بينما كان من سمات العصور الحديثة ظهور النظم العلمانية والدول الحديثة.

أما التاريخ الإسلامي بما فيه تاريخ الأنبياء فهو وحدة واحدة بالنظر إلى المفاهيم والمبادئ السائدة، والتي لا تتبدل تبعا لتبدل الزمان والدول والحكام، لأنه تاريخ أمة ذات عقيدة واحدة ثابتة لا يطرأ عليها التغيير، فليس بلازم أخذ هذا التوزيع الأوربي ولا متابعتهم عليه لأنه يفتت تاريخنا ويوجد الحواجز بين عصوره(5).

[للمزيد اضغط: آليات التبعية .. التماثل والإذعان]

تداعي الأكلة وواجب الدعاة

إن المعركة بين الأمة الإسلامية وأعدائها النصارى واليهود ليست معركة واحدة في ميدان الحرب فحسب، بل هي معركة في ميداني الحرب والفكر والمصطلحات والمفاهيم.

والأعداء حريصون على توزيع نفايات أفكارهم ومصطلحاتهم بيننا، لأنهم يعلمون أن الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار والمصطلحات الفاسدة تصبح غثاء تدور في المدار المحدد لها.

ولذلك حذرنا الله عز وجل من اتخاذهم أولياء في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:51).

وذلك ما أخبر به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحذر منه في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: «لا تتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا ذراعا حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود النصارى قال: فمن؟».(6)

وقوله (صلى الله عليه وسلم): «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل»(7).

إن إحاطة عدونا بنا، ووصولنا إلى مرحلة الشتات والفرقة، ودخول أمتنا مرحلة القصعة، كل ذلك دليل على وجود خلل في البنية الفكرية والمصطلحية والطروحات العقدية التي أثمرت هذا الخلل، مهما كانت دعاوانا عريضة، وأصواتنا مرتفعة بالادعاء أننا على النهج السليم.

ولذلك فإن الغيورين والمخلصين العاملين في ميدان إحياء الأمة لا بد لهم من التمييز بين أسباب مرض الأمة وأعراض هذا المرض، فالأسباب في الحقيقة فكرية أساسها المعتقدات والقيم والمصطلحات والمفاهيم، أما الأعراض فهي سياسية واقتصادية واجتماعية.

ومن ها هنا، فإن بداية أي تغيير لابد أن يحدث في المصطلحات والمفاهيم. وبقدر ما تملك الأمة رصيدا صحيحا وقويا من الأفكار والمصطلحات التي مصدرها الكتاب والسنة، بقدر ما تتحول هذه الأفكار إلى ثقافة معطاءة. في الواقع  يمكن أن نقول بأنها تشكل نقطة البدء في التغيير المنشود، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:21).

واللهَ عز وجل نسألُ أن يوفقنا للصواب ويلهمنا الرشد.

………………………………………………

هوامش:

  1. أنظر مثلا: حسن إبراهيم حسن في كتابه: “تاريخ الإ‘سلام السياسي”.
  2. أنظر: سفر الحوالي: العلمانية، ص 169، وإسماعيل: الكيلاني: فصل الدين عن الدولة، ص 118-119.
  3. جمال سلطان: حوار في الديمقراطية، مجلة البيان، عدد 58، ص 35.
  4. محمد بن صامل السلمي: منهج كتابة التاريخ الاسلامي، ص 26 .
  5. المرجع نفسه، ص 269.
  6. أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الإعتصام، جـ، 8 ص 151.
  7. رواه أحمد في المسند، ج 5، ص 278.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

  1. الغزو المصطلحي (1-2) دلالة المصطلحات على مفاهيم الأمم
  2. قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (1-2) مظاهر التخلف
  3. قراءة في تخلف العالم العربي في العصر الحديث (2-2) نتائج التخلف

التعليقات غير متاحة