إن الصراع بين المسلمين والكفار دائم ومستمر، وقد جرب عدونا سلاح القوة مرارا، فما أجدى له نفعا، مما جعل قادتهم يفكرون في وسيلة أخرى ومیدان آخر للصراع، ولقد أدركوا أن السر في صلابة المسلمين وتفوقهم هو في إسلامهم؛ ولذا حولوا میدان الصراع من حرب المسلمين ذاتهم إلى حرب العقيدة الإسلامية، وبهذا تغيرت ملامح المعركة، فلم يعد میدانها الرئيس الأرض ولكنه الأدمغة والعقول، ولم تعد وسيلتها السيف بل الفكر، ولم تعد جيوشها الأساطيل والفرق العسكرية ولكنها المؤسسات والمناهج بالدرجة الأولى1(1) انظر: (العلمانية) للدكتور سفر الحوالي (ص 535)..

الغزو الفكري

هذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين، فهو غزو عام شامل من الأعداء الكفرة لجميع بلدان المسلمين بديل عن الغزو العسكري، كما أن هذا النوع من الغزو لم يختص بزمان دون زمان، فمنذ أشرقت شمس الإسلام على البشرية ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والأعداء ما فتأوا يوجهون سهام شبهاتهم على أهل الإسلام کما حصل هذا من اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وما تلا عصر الخلافة الراشدة من الفتن والبدع والأهواء إلى عصرنا اليوم الذي بلغ فيه هذا النوع من الغزو أوجه وذروة قوته وخطره، وذلك بما يستخدمه الغزاة في هذا الغزو من وسائل إعلامية هائلة لم تمر على البشرية في تاريخها، مما كان له أكبر الأثر في نشر الشبهات وتوجيه معاول الهدم على ثوابت هذا الدين في أصوله وأحكامه، فليس عندهم شيء ثابت ولا أصل لا يتغير، بل ما كان ثابتا وأصلا في زمان أو مكان ما قد لا يكون ثابتا وأصلا في زمان ومكان آخرين، ولا يستثنون شيئا من ذلك، ولو كان ذلك في توحید رب العالمين أو في الأخلاق والقيم التي هي ثابتة في كل الكتب السماوية ودعى إليها كل الأنبياء والرسل.

وهدف هذا الغزو هو إذابة الشعوب الإسلامية وسلخها عن عقيدتها وهويتها وحضارتها؛ لتصبح مسخا مشوها تابعا ذليلا لغيرها؛ لأن الكفرة من النصارى الصليبيين واليهود الفجرة يعلمون أن العقيدة الصحيحة القائمة على الولاء والبراء هي أقوى سلاح ضدهم، فسعوا جاهدين لطمسها وكسر هذا الحاجز المنيع بينهم وبين المسلمين، واستخدموا في ذلك كل الوسائل الممكنة، وسخروا أولياءهم من المنافقين في بلدان المسلمين في تنفيذ ذلك.

ذكر بعض مظاهر الغزو الفكري

أولا: إثارة الشبهات حول شعيرة الجهاد في سبيل الله وتشويه صورته وأهله

لم يقض مضاجع المشركين والكفار والمنافقين شيء أشد عليهم من شعيرة الجهاد عند المسلمين، ولذلك ما فتأوا في قديم الزمان وحدیثه يثيرون عليه الشبهات، ويسلطون عليه معاول هدمهم محاولة منهم في إلغائه والتنفير منه، وهيهات لهم هیهات. فمع كل المحاولات التي بذلها المستشرقون في الغرب الكافر والشرق الملحد إلا أنها باءت بالفشل، وما زاد المسلمون إلا حبا لهذه الشعيرة ورفعة لرايتها، دفاعا عن الدين والنفس والمال والعرض، ونشرا للتوحيد والأمن والخير في البشرية التي تعاني من ويلات الكفر وظلماته ومظالمه.

ومن شبهاتهم التي يطرحونها وصفهم للجهاد بأنه حرب مقدسة عند المسلمين، هدفها سفك الدماء وقتل الأبرياء وإرهاب النفوس وإرعابهم، وسلب أموال الناس وخيراتهم. ولذلك فهم يطرحون دعوات كالدعوة إلى التسامح والتعايش السلمي والدعوة إلى تقارب الأديان وإلى الإنسانية التي تجمع الناس وتنشر بينهم السلام والإخاء والأمان.

يقول محمد قطب -رحمه الله تعالى -: (إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه، «ودعوى الإنسانية» من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين.

يا أخي! لقد تغيرت الدنيا! لا تتكلم عن الجهاد! أو إن كنت لابد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعي فحسب! ولا تتكلم عنه إلا في أضيق الحدود! فهذا الذي يتناسب اليوم مع «الإنسانية المتحضرة»! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة! وهناك قانون دولي وهيئات دولية، تنظر في حقك، وتحل قضاياك بالطرق «الدبلوماسية» ! فإذا فشلت تلك الهيئات في رد حقك المغتصب، فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك ولكن لا تسمه جهادا!.. فالجهاد قد مضى وقته! وإنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة!!

أما نشر الدعوى فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد! هناك اليوم وسائل «إنسانية» لنشر الدعوى فاسلكها إن شئت.. هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضرة والدروس.. إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة في أفواه المتحضرين)2(2) «مذاهب فكرية معاصرة» (ص 512) وما بعدها (باختصار)..

ومع ما في القرآن الكريم والسنة النبوية من بيان كاف لهذه الشعيرة العظمية، وعظيم فضلها وأثرها وأهدافها، إلا أن قوما من بني جلدتنا إما عن خبث وكيد، أو عن جهل وغفلة واجهوا هذه الحملة الاستشراقية الصليبية بمواقف انهزامية فراحوا يدافعون عن الإسلام وكأنه في قفص الاتهام، فقالوا: إن غاية الجهاد في الإسلام دفاعية فحسب، وليس للإسلام رغبة في قتال الكفار، لولا أنهم بدأوا بقتال المسلمين، وليس من هدف الجهاد نشر الإسلام وإخضاع البلدان الكافرة لحكم الإسلام، فانطلت شبهات الكفرة عليهم، بل ذهب بعضهم ولاسيما من المنافقين خبثاء الطوية إلى تعطيل جهاد الدفع، وزعموا أنه جهاد فتنة، وأن من ذهب ليجاهد بنفسه دفاعا عن المسلمين الذين احتلت ديارهم إنما هو متهور مفتون!!

ثانيا: إثارة الشبهات حول الشريعة الإسلامية ومحاولة إقصائها عن الحكم والتحاكم

بحجة عدم کفایتها لمصالح الناس المستجدة في عصورنا، والسعي إلى إبدالها بالقوانين الوضعية المخالفة في كثير منها للشرع والعقل والفطرة، والقيام بنشر المذاهب العلمانية في مجتمعات المسلمين، ومهاجمة العاملين لنشر الدين والجهاد في سبيله والمنادين بالحكم بالشريعة الإسلامية، تارة بوصفهم بالإرهاب وأنهم أصحاب (الإسلام السياسي)، وتارة يتهمونهم على ذلك بمحاولة القفز إلى السلطة بذريعة الدين، وتارة يقولون: إن في الحكم بالشريعة نشرا للطائفية بين أبناء المجتمع المكون من طوائف ونحل مختلفة، وتارة أخرى يرفضون الحكم بالشريعة وإدخال الإسلام في السياسة بذريعة أن الدين طهر والسياسة تقوم على الكذب والمكر والنفاق، ولذلك ينبغي إبعاد الدين عن هذه القبائح حتى لا يتلوث !!

ومن شبههم أيضا في رفض الشريعة أن الغرب الكافر لم يتمكن من هذا التقدم والحضارة، وتنظيم أموره السياسية والاجتماعية والإدارية إلا بعد أن تخلص من دين الكهنوت في الكنيسة، وانطلق حرا من قيود الدين فكان لزاما على من أراد التقدم والتحضر أن لا يربط نفسه بالدين؛ لأن الدين يقيد عن الانطلاق (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف:5].

ومع ذلك فقد انطلت هذه الشبهة على بعض ضعفاء العقول والجهلة من أبناء المسلمين فراحوا يرددون مثل هذا الكلام تارة بلسان الحال، وتارة بلسان المقال، وما علم هؤلاء الجهلة أن الذي فرت منه أوربا هو خرافة الكنيسة وكهانها، وما كانوا عليه من الدجل والشعوذة والكفر وابتزاز الناس باسم الدين المحرف المبغوض عند الله عز وجل فكيف يقاس الإسلام (دين الله الحق) بالكنيسة والدين المحرف الذين ثارت علیهم أوربا. وكيف يقاس الإسلام النقي الصافي القائم على توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، وعلى اتباع ما جاء عن الله في القرآن الكريم، المتضمن لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشريعة الكاملة من عند الله عز وجل والأخلاق السامقة التي بهرت العدو قبل الصديق بالأديان المحرفة القائمة على الخرافة والشعوذة والكفر بالله عز وجل. إنه لا يفر من دين الإسلام إلى غيره إلا من سفه نفسه، واتبع هواه بغير هدى من الله عز وجل.

إذ كيف يقاس دین النصارى المحرف الضال القائم على الشرك وإلغاء عقول الناس بهذا الدين القويم المبرء من الهوى والجهل والظلم (تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت:42]، (سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور:16]. إن الحقيقة هي عكس ذلك، وهي أن ما أصاب المسلمين من التأخر والمصائب المتنوعة إنما هو بسبب إعراضهم عن دينهم الحق، وتركهم لشريعة ربهم، وتبعيتهم لأعدائهم الكفرة.

ثالثا: إثارة الشبهات حول أحكام المرأة وإفساد الأسرة المسلمة

لم تتعرض شريحة من شرائح المجتمع المسلم لغزو الكفار الفكري والسلوكي، مثل ما تتعرض إليه المرأة المسلمة، والأسرة المؤمنة، لأن الأعداء الكفرة وأذنابهم من المنافقين (من بني جلدتنا) يعلمون أن نواة المجتمع هي الأسرة، والأسرة قائمة على الوالدين، ولاسیما مربية الأجيال المرأة المسلمة، فإذا أفسدوها عقديا وأخلاقيا فسدت الأسرة، وإذا فسدت الأسرة فسد المجتمع، وسهل على العدو اختراقه، وجعله تابعا ذليلا لمناهجه وأفكاره وسلوكياته.

السهام الموجهة للأسرة المسلمة

ومن أهم وأخطر ما تتعرض له المرأة والأسرة المسلمة اليوم من الأفكار والمكر الكبار ما يقوم به الكفار وأذنابهم من المنافقين من:

1- إثارة الشبهات على بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالمرأة، سواء في حجابها ولباسها أو في عملها أو في وضعها الأسري والاجتماعي، وتصويرها وكأنها مظلومة مسلوبة الحقوق، والمناداة بما يسمى (تحریر المرأة وضمان حقوقها) ومساواتها بالرجل، وتتفاوت منطلقات المثيرين لهذه الشبهات ما بين معلن عن نفسه وزندقته، وذلك بنقض أحكام الشريعة المتعلقة بالمرأة، وأنها لا تتواكب مع العصر وتطوراته (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا).

وآخرون لا يصرحون بهذا المنطلق الخبيث، ولكنهم يتهمون علماء الشريعة بعدم فهم النصوص المتعلقة بشئون المرأة والأسرة، ووصفهم لهم بالتشدد والتحجر، ويتعلقون في نشرهم لشبهاتهم ببعض التأويلات الفاسدة أو التعلق ببعض القواعد الشرعية التي يضعونها في غير موضعها ومن دون ضوابطها، إما جهلا منهم بقواعد الشرع أو خبثا وفسادا في الطوية، وسعيا منهم في جعل المرأة المسلمة محاكية للمرأة الغربية في لباسها وسلوكها واهتماماتها.

2- غزو الأسرة المسلمة بقنوات الإفساد المختلفة التي يضمنها شياطين الإنس والجن، مواقع مختلفة وقنوات متنوعة تبث الشبهات في بيوت المسلمين لتغريبها وإبعادها عن العقيدة الصحيحة، بإثارة الشبهات حولها ونشر الرذيلة وإفساد الأخلاق والعلاقات الأسرية بالحوارات المفسدة والفتاوى المأجورة، وتسهيل وصول هذه الأجهزة إلى يد الصغير والكبير والمرأة والرجل دون حسيب ولا رقيب.

3- تسهيل الابتعاث لأبناء المسلمين وبعضهم في سن المراهقة إلى ديار الغرب الكافر، حيث يتم هناك غسل أدمغتهم وأفكارهم، وتغيير معتقداتهم الشرعية وثوابتهم الأصلية وأخلاقهم التي تربوا عليها، بحيث يكونوا معاول هدم لأسرهم وأبنائهم ومجتمعاتهم إذا رجعوا إليهم.

4- تسهيل السفر والسياحة لأسر المسلمين إلى بلاد الغرب الكافر الماجن، حيث يتم ترويضهم هناك على الفساد وكسر هيبة المنكر من العري والإباحية وتهوينها في قلوبهم، حتى تتحول إلى صور مألوفة لديهم، فضلا عما يسمعونه من الشبهات عن دينهم، وما يرجع به بعضهم من انبهار بالحياة الغربية واغترار بها، قد يؤول به إلى احتقار دينه.

5- غزو الأسر المسلمة بسيل جارف من أنواع الترف والإسراف في المأكل والخدم والمشارب والمساكن والمراكب وأدوات للزينة، حتى تحولت في حياة كثير من الأسر إلى غاية وهدف هو شغلهم الشاغل، يتنافسون فيه، ويكدح أرباب الأسر ليوفروا لبيوتهم وأهليهم هذه المطالب، ولو أدى إلى تراكم الديون على الأسرة وأربابها. ومکمن الخطر في هذا الغزو ما نتج عنه من الترهل المشاهد في حياة أبناء المسلمين ونسائهم وركونهم للدنيا، وكأنهم يخلدون فيها، ونسيانهم للآخرة ودوام نعيمها أو عذابها، وهذا الترهل يقود إلى فتور الهمم والعزائم، وتهيئة البلاد لأي نوع من أنواع الغزو الخارجي دون ممانعة ولا مقاومة مع ما فيه من إجهاد نفسي ومالي لرب الأسرة، قد ينجم عنه مشکلات أسرية ومجتمعية.

6- غزو الأسرة المسلمة بشبهات يثيرها أعداء الدين من الكفار والمنافقين حول بعض التشريعات الأسرية في مسائل الطلاق والنكاح وتعدد الزوجات والميراث والشهادة، وقوامة الرجل، واستخدامها في شحن النساء الجاهلات، ودفعهن للتمرد على أحكام الشريعة، واستغلال إساءة بعض الأزواج في الطلاق والتعدد والتوارث والقوامة في نسبة هذه الإساءات إلى الأحكام الشرعية نفسها. ولا يخفی ما يمارسه الإعلام الظالم في تكريس هذه الشبهات بشتى الوسائل والبرامج الإعلامية.

7- محاولة الهيمنة على مناهج التعليم في بلدان المسلمين وغزوها وشحنها، بما يثير الشبهات والشكوك في نفوس الناشئة من أبناء المسلمين، ولاسيما ما يتعلق بالعلوم الإنسانية في التاريخ والأدب وعلوم النفس، مع أن العلوم البحتة لم تخلو هي الأخرى من المغالطات والمعارضات، لما في الوحيين الشريفين من علوم قطعية لا يعتريها الباطل ولا الخطأ. وذلك كما في كتب الطبيعة والفلك ونشأة الإنسان، ويبرز خطر هذه المناهج بشكل بين وواضح فيما يسمى بالمدارس العالمية.

رابعا: الهجوم على الاقتصاد الإسلامي بشبهات يحلون بها الربا والمكاسب المحرمة

الاقتصاد الإسلامي رباني المصدر، فلا جرم کان کاملا وعادلا وشاملا لمصالح الناس يتسم بالإيجابية والواقعية والتوازن، وسطا بين جشع الرأسمالية، التي تستخدم أي وسيلة لجمع المال وبين تطرف الاشتراكية التي تصادم فطرة الإنسان وعقله في إلغاء الملكية الفردية، ولا غرابة في كمال دين الإسلام ونظافته فهو من لدن حکیم علیم، لطيف خبير، رحیم ودود (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].

ولقد دأب شياطين الإنس في دول الكفر وتابعهم أذنابهم من المنافقين في نشر شبهاتهم حول الاقتصاد الإسلامي؛ لأنه هو السد المنيع الذي يقف أمام استبدادهم وظلمهم للناس في إفساد اقتصادهم وإفقارهم، ويمنعهم من انفرادهم في تضخيم أرصدتهم المحرمة القائمة على ظلم الناس وإفساد أموالهم.

أهم الممارسات والشبهات التي يثيرونها حول الاقتصاد الإسلامي

1- زعمهم أن تطبيق الاقتصاد الإسلامي في واقعنا المعاصر المعقد متعذر، لكون الربا بزعمهم أصبح من الضرورات التي تبيح المحظورات، وكونه يعيق النمو الاقتصادي ولا غناء عنه، وهذه الشبهة أضعف من بيت العنكبوت.

أولا: لأن الذي أحل لنا الحلال وحرم علينا الحرام هو الله عز وجل رب السموات والأرض ومن فيهن، وهو أعلم بما يصلح لخلقه، وهذا الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أنه سيأتي زماننا الذي نعيشه اليوم، فجاء تشریعه سبحانه صالح لكل زمان ومكان (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب:36]، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50] وقد حرم الله عز وجل الربا في جميع الديانات السماوية.

وثانيا: بالنظر إلى المجتمعات والدول الرأسمالية القائمة على الربا والمعاملات المحرمة، نرى تخبطها وانهيار اقتصادها، وانتشار الظلم والديون على شعوبها، مما حدا ببعض رموزهم إلى المناداة باقتصاد خال من الربا، كما هو الحال في الاقتصاد الإسلامي.

وثالثا: أن القاعدة التي استدلوا بها (الضرورات تبيح المحظورات) هي قاعدة صحيحة في أصلها، لكنهم استخدموها بجهل أو خبث في غير محلها، ودون شروطها وضوابطها الشرعية التي إذا طبقت على جريمة الربا فإنها لا تنطبق لعدم توافر واحد من هذه الشروط والضوابط فيها.

2- قولهم: إن الإسلام صلة بين العبد وربه ولا دخل للإسلام في معاملات الناس واقتصادهم، والإنسان حر في ماله، وهذه قولة فاجرة يرددها العلمانيون والليبراليون من بني جلدتنا، ولهم في ذلك أسوة سيئة بأصحاب الأيكة من قوم شعيب، عندما كان عليه الصلاة والسلام يأمرهم بعبادة الله وحده، وينهاهم عن الشرك وأكل أموال الناس وبخسهم ونقصهم الميزان، قالوا له: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود:87]، وهذا ما يقوله العلمانيون اليوم عن شرع الله (أَتَوَاصَوْا بِهِ ۚ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) [الذاريات: 53].

إن العبودية الحقة التي من أجلها خلقنا الله عز وجل تقوم على التسليم والإذعان لله تعالى في كل أحوالنا ومعاملاتنا وحركاتنا وسکناتنا (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163].

3- فتح باب التأويل في تحليل كثير من المعاملات المحرمة وأكل أموال الناس بالباطل، ولاسيما المعاملات المصرفية والبيوع المحرمة، وتسميتها بغير مسمياتها الشرعية، كتسميتهم الربا بالفائدة، وتسميتهم الكثير من عقود الغرر والجهالة بالتأمين، وكثير من عقود الربا والعينة وبيع ما لا يملك الإنسان بعقود المرابحة وسحق المحتاجين من المسلمين بالرهون العقارية، وممارسة القمار “الميسر” باسم المتاجرة والربح في بيع الأسهم التي يصبح فيها الرجل غنيا غناء فاحشا ويمسي فقيرا معدما، ولاسيما في طبقة الفقراء والمتوسطين، أما أصحاب رؤوس الأموال الفاحشة فهم المستفيدون في الغالب من هذا التلاعب في بيع الأسهم ورفع قيمتها وخفضها حسب شهواتهم، ويسمون ذلك بيعا ومتاجرة مع ما فيه من النجش والغش للمخدوعين من المسلمين.

ومن ذلك أخذ الرشوة باسم السمسرة والأتعاب، وكل هذه المعاملات والبيوع المحرمة غريبة على مجتمعات المسلمين، ولم تعرف إلا بعد هذا الغزو الاقتصادي من بلاد الكفر، والقائم على الربا والجشع وتحصيل الأموال بأي وسيلة كانت، فالمهم كسب المال بأي طريقة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ»3(3) مسلم (2962)..

4 – غزو أسواق المسلمين بأفكار وأساليب الدعاية والتسويق القائمة على الكذب والتضليل، وابتزاز أموال الناس بالباطل، وتوظيف الإعلام المقروء والمسموع أو المرئي في خداع الناس، ودفع الناس دون رغبة منهم في شراء السلع القائم ترويجها على الكذب والغش والخداع، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا»4(4) البخاري (2563)..

5- ومن ممارسات الكفار في إضعاف الاقتصاد الإسلامي سعيهم إلى أن تكون المجتمعات المسلمة مجتمعات مستهلكة لسلع الكفار وإبعاد المسلمين من أن يكون لديهم الاكتفاء الذاتي في طعامهم وشرابهم وضرورياتهم الأخرى، وذلك ليبقوا تابعين لدول الكفر الغازية التي تتحكم في غذائهم واحتياجاتهم، ومن ثم تضمن تبعيتهم وإذلالهم وخنوعهم، وصدق من قال من علماء الاقتصاد الإسلامي: (من لم ينتج ويملك غذاءه لا يملك أمنه).

ومن ذلك أيضا إيهام الكفار لأصحاب الأموال في بلدان المسلمين بأن بلدانهم المسلمة غير آمنة ومعرضة للتقلب ولعدم الاستقرار، فيغرونهم بهذه الشبهات والدعوات إلى هجرة المال الإسلامي إلى بنوكهم، واستثمارها في دول الكفر وحفظها فيها؛ لأنها أكثر أمانا واستقرارا، فهاجرت –وللأسف- كثير من رؤوس أموال المسلمين وأودعت في بنوك الغرب، ولا يخفى ما في ذلك من دعم لاقتصاد الكفار القائم على الربا والجشع والظلم والاستبداد.

6- غزو أسواق المسلمين بمطاعم ومشارب مشتبهة كلحوم الميتة أو التي تحتوي على مشتقات الخنزير أو دهونها، وكذلك غزو أسواق المسلمين ببعض الملبوسات التي عليها صور، أو كتب عليها ما فيه تعظیم بعض رموز الكفار أو شعاراتهم وطقوسهم.

الهوامش

(1) انظر: (العلمانية) للدكتور سفر الحوالي (ص 535).

(2) «مذاهب فكرية معاصرة» (ص 512) وما بعدها (باختصار).

(3) مسلم (2962).

(4) البخاري (2563).

اقرأ أيضا

إثارة الشبهات حول أصول الإسلام وأحكامه

الغزو الفكريّ .. حقيقته وركائزه ووسائله

المنافقون.. الاستهزاء والطعن في أحكام الشريعة

 

التعليقات غير متاحة