في العقائد تبرز سمة هذا الدين في عدله وتوازنه لأول وهلة ولكل ناظر، تجد هذا في موقفها من الرسل عامة أو المسيح خاصة، أو الشرائع، أو القدَر. وهذا العدل والتوازن من سمات الحق الأصيل.

مقدمة

لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلوّ والإفراط وبين التفريط والتقصير، وسلَّم الله عز وجل من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسَط، وهم أهل السنة والجماعة والاتّباع للكتاب والسنة بفهْم الصحابة رضي الله عنهم.

ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ عن أهل السنة والجماعة وأنهم وسط في دين الله عز وجل بين الغالي والجافي.

وسط وعدول في شأن “الرسل”

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:

“وهذه الفرقة الناجية «أهل السنة» وهم وسط في النِّحَل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل؛ فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ لم يغْلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.

بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقـّروهم وأحبـّوهم وأطـاعـوهـم، ولـم يعبـدوهم ولم يتخذوهم أربابًا”. (1)

وسط وعدول في شأن “المسيح”

“ومن ذلك أن المؤمنين توسّطوا في “المسيح”؛ فلم يقولوا “هو الله” ولا “ابن الله” ولا “ثالث ثلاثة”، كما تقوله النصارى.

ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغيّة كما زعمت اليهود، بل قالوا “هذا عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه”. (2)

وسط وعدول في شأن “الشرائع”

وكذلك المؤمنون وسط في “شرائع دين الله”؛ فلم يحرّموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويُثْبت، كما قالته اليهود.

ولا جوَّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى.

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم». (3)

وسط وعدول في الجمع بين الخلق والأمر

والمؤمنون قالوا: «لله الخلق والأمر» فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه.

وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به، وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا. (4)

وسط وعدول في شأن “صفات الله”

وكذلك في صفات الله تعالى؛ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة؛ فقالوا: “هو فقير ونحن أغنياء”، وقالوا: “يد الله مغلولة”، وقالوا: “إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت”، إلى غير ذلك.

والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به؛ فقالوا: “إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب”.

والمؤمنون آمنوا بالله تعالى، ليس له سَمِيٌّ ولا نِدٌّ، ولم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فُقَرَاء إليه. (5)

وسط وعدول في أمر “الحلال والحرام”

ومن ذلك أمر الحلال والحرام؛ فإن اليهود كما قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النساء: 160]؛ فلا يأكلون ذوات الظُفر؛ مثل الإبل والبط، ولا شحم الثرب والكليتين؛ ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما؛ حتى قيل: “إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا، والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرًا”، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.

وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: ﴿ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم﴾. (6)

أهل السنة في الاسلام كأهل الاسلام في الأديان

في باب “أسماء الله وصفاته”

وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَق؛ فهم في “باب أسماء الله وآياته وصفاته” وسط بين “أهل التعطيل” الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطّلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين “أهل التمثيل” الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.

فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل. (7)

في باب “الخلْق والأمر”

وهم في “باب خلقه وأمره” وسط بين المكذبين بقدرة الله؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل؛ فيعطّلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148].

فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير؛ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن”؛ فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.

ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا؛ إذ المجبور من أُكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله؛ فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء؛ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. (8)

في “باب الأسماء والاحكام والوعد والوعيد”

وهم في “باب الأسماء والاحكام والوعد والوعيد” وسط بين الوعيدية؛ الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلَّدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذّبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفُساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذّبون بالوعيد والعقاب بالكلية.

فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فُسّاق المسلمين معهم “بعض الإيمان وأصله” وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يُخلَّدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته. (9)

في شأن “أصحاب رسول الله”

وهم أيضًا في “أصحاب رسول الله” صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم، وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفّروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا..

وبين الجافية الذين يعتقدون كُفره، وكُفر عثمان رضي الله عنه، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما. ويستحبون سبّ عليّ وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته”. (10)

في سائر الأبواب

وكذلك في سائر «أبواب السنة» هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان”. (11)

خاتمة

مما أكرم الله به هذه الأمة أن تصوراتها العقدية ومواقفها المختلفة تتلقاها من منهج رباني، وربُنا تعالى ﴿على صراط مستقيم﴾ في كل ما شرعه وأمر به، كما في خلقه للحياة المتزنة.

وقد نهى تعالى عن أي جموح، وأمر بالتوسط والاعتدال في كل أمر.

وهذا الدين مصدره خالق هذا الوجود، وقد ظهرت آثار أسمائه تعالى وصفاته الحسنى على هذا المنهج، كما ظهرت آثار أسمائه وصفاته على هذا الخلق.. فأسعد الخلق من تلقى من ربه والتزم منهجه، عقيدة وخُلقا وسلوكا.

………………………………………

الهوامش:

  1. «مجموع الفتاوى» (3/370-375).
  2. المصدر السابق.
  3. أخرجه الطبري في «التفسير» (14/210)، ورواه مختصرًا الترمذي في تفسير سورة براءة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب.
  4. «مجموع الفتاوى» (3/370-375).
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر نفسه.
  7. المصدر نفسه.
  8. «مجموع الفتاوى» (3/370-375).
  9. «مجموع الفتاوى» (3/370-375).
  10. فهم وسط بين هؤلاء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم، ولا يغلون فيهم ولا يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها.
  11. «مجموع الفتاوى» (3/370-375).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة