النفاق خطر ممتد، منذ ابن سلول الى يومنا هذا. كان يختفي زمن قوة الإسلام، واليوم يستعلن ويقود ويجاهر. خطرهم أكبر ولخطورته أسباب.

مقدمة

تثبت الوقائع يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات، وأن نكايتهم فيها وجنايتهم عليها تزيد على كل النكايات والجنايات؛ فالكُفر الظاهر ـ على خطره وضرره ـ يعجز في كل مرة يواجه فيها أمة الإسلام أن ينفرد بإحراز انتصار شامل عليها، ما لم يكن مسنوداً بطابور خامس من داخل أوطان المسلمين ويتسمى بأسماء المسلمين، يمد الأعداء بالعون، ويخلص لهم في النصيحة، ويزيل من أمامهم العقبات، ويفتح البوابات.

رأينا ذلك في عصرنا وسمعنا عنه قبل عصرنا؛ فمنذ أن افتتح “ابن سلول” طريق النفاق، سارت فيه من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ. وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح النفاق الظاهر المتظاهر مع الكافرين في القضايا الكبرى من قضايا المسلمين.. رأينا ذلك في تركيا قبل سقوطها وبعد سقوطها خلال أكثر من ثمانين عاماً، ورأيناه في فلسطين بعد احتلالها منذ ما يزيد على خمسين عاماً، كما لا نزال نرى صوراً من ذلك في أكثر بلدان المسلمين التي سلخها المنافقون لصالح الكافرين عن هويتها الإسلامية وبنيتها الاعتقادية.

آثار تخريب النفاق

وها نحن اليوم نُفجع مرات أخر بما يحدث في بقاع شتى في بلاد المسلمين من البلدان التي يتهيأ المنافقون فيها لجولة جديدة من قهر الأمة وإذلالها أمام أعدائها بتعلاّت ومسوّغات متعددة، لا يقف خلفها شيء من المبادئ والثوابت إلا الثبات أو الوصول إلى مقاعد السيادة وكراسي القيادة، التي يهون عندهم في سبيلها كل شيء، ويحل لأجل الوصول إليها كل شيء، ويحرم دون المساس بها أي شيء!!.. إنه الكرسي الذي يكاد يُعبد، ويُركع له ويُسجد.

راقب معي دور النفاق السياسي عبر التاريخ؛ فستجد ذلك الصنم من ذوات الأربع قابعاً خلف كل حركة نفاق خائنة لله ولرسوله وللمؤمنين.

وفي عصرنا، وفي ظل غياب الشريعة عن الحكم في الغالب الأعم من أوطان الإسلام، وفي ظل ضياع الضوابط التي يُختبر بها من يصلح ومن لا يصلح لقيادة المسلمين؛ خلا الجو لكل طاغية أفَّاك، من أهل النفاق لأن يركب شعباً من الشعوب بعد الوثوب إلى سدَّة الحكم، عبر طرق ومسالك وعرة، يعرف المنافقون وحدهم كيف يذللونها ويسبرون غورها ويعْبرون من فوقها إلى القمة التي لا يسقطهم من فوقها إلا هازم اللذات.

دور مزدوج

يقوم المنافقون في كل مرة ينجحون فيها في ركوب شعب من الشعوب بدور عدائي مزدوج يستهدف أمرين لا ثالث لهما:

استمداد أسباب البقاء على القمة من ظهير خارجي مقابل إمداد ذلك الظهير بأسباب استبقاء المصالح في الداخل الوطني.

وما عدا ذلك تفاصيل؛ فكيفية الحكم، ودستور الحكم، تمثيل الفئات، النيابة عن الشعب، المعارضة باسم الشعب، الخطط الخمسية، المشاريع التنموية، الصراعات الحزبية، المعارك الجانبية، خارجية أو داخلية.. قصة واحدة والمحصلة في النهاية واحدة وهي دعواهم العريضة: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11-12].

لا فارق كبيراً بين نفاق الأمس ونفاق اليوم من حيث الجوهر.. أما الظروف فقد اختلفت؛ فالنفاق بالأمس البعيد أيام تمكين الدين كان ذُلاً يستخفي، وضعفاً يتوارى، وخضوعاً مقموعاً يمثله عمالقةٌ أقزام ورؤوس أزلام، حيات وعقارب موطوءة تكاد ألاَّ تنفث السم إلا وهي تلفظ الحياة.

كان تمكين الدين وقتها يمكِّن المؤمنين من جهاد أولئك الأسافل باليد واللسان والقلب وبإقامة الحدود، فلا يُرى أحدهم إلا وهو محاصَر مكدود، أو محدود مجلود.

أما اليوم؛ فالنفاق صرح ممرد، وقواعد تتحرك، وقلاع تشيد، إنه اليوم دولة بل دول ذات هيئات وأركان، إنه أحلاف وتكتلات وكيانات، بل معسكرات ذات قوة وسلطان.. سلطان سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي، يمارس الضِرار في كل مضمار.

خطر ممتد

نخطئ كثيراً عندما نظن أن النفاق الذي أفاض القرآن في الحديث عنه، وأسهب في التحذير منه، كان يمثل مرحلة تاريخية انقضت بدخول الناس في دين الله أفواجاً؛ فالعصر الذهبي للبشرية الذي شهدته الأرض أيام الرسالة الخاتمة لم يخل من ظلم النفاق وظلماته؛ فهل تُعصم من ذلك العصور التالية..؟!

قد يُقال إن النفاق وقتها كان مقموعاً ممنوعاً فلهذا كان يستتر من الدين بالدين، وهو اليوم ليس في حاجة إلى ذلك؛ فاليوم مؤمن وكافر، أو مسلم ومرتد..

أقول: إن القرآن الذي أمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأتباعَه بجهاد المنافقين والكافرين سيظل يُتلى إلى يوم الدين. بقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [التوبة: 73] والآية تدل على أن النفاق سيظل موجوداً وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص تُرى فيهم آيات النفاق. والنفاق المقصود في الآية ليس قاصراً على النفاق ذي المرامي السياسية والأهداف التسلطية؛ بل هو النفاق بكافة أشكاله وصوره عندما يكون موجهاً إلى ضرر الدين وأصحاب الدين، سواء كان صادراً من أهل السياسة أو من أهل الثقافة أو أهل الفن والقلم أو حتى بعض المنسوبين للعلم والفتوى في بعض البلدان.

نحن هنا لا نجادل في أن النفاق درجات أو دركات، وأن خطره يتفاوت بتفاوت كبره أو صغره؛ إذ من النفاق ما هو أكبر مخرج عن الملة: ومنه ما هو أصغر لا يخرج عن الملة، وفي كلا الحالين فنحن مأمورون بمجاهدة النفاق ولو كان ساكناً بين أضلعنا أو مختبئاً بين جوانحنا، ومَن ذا الذي يأمن النفاق على نفسه وقد خافه على نفسه الفاروق عمر رضي الله عنه..؟!

ومن ذا الذي يضمن السلامة منه وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه التعوذ منه..؟!

غير أني لا أقصد هنا إلى التأصيل والتفصيل في مسائل الإيمان المتعلقة بما يُخرج أو لا يُخرج منه من أعمال الكفر والنفاق، ولا إلى بسط الكلام في أحوال الأعيان من حيث ثبوت أو عدم ثبوت ما يتعلق بهم في ذلك من الأحكام؛ فالأمر الأول يقصر عنه علمي، والآخر يثنيني عنه تقصيري وظلمي، وأسأل الله العفو والعافية لي وللمسلمين؛ ولكن المقصود التماس نوع من القربى في جهاد صنف من أعداء الدين، طالما غفل أو تغافل عن جهادهم الكثيرون من أصحاب الدين، إما لذهنٍ شارد أو ورعٍ بارد، وهذا وذاك لا يعفيان من مسؤولية الذود عن الدين ضد شؤم النفاق ولؤم المنافقين. فتقصيرنا في جهادهم لا ينفي حقيقة أن جهادهم من فرائض الدين، بل من أجلّ فرائض الدين التي لا تقلّ شأناً عن فريضة الجهاد ضد الكافرين.

بين فريضتين

وصف الإمام الفقيه المفسر “أبو بكر ابن العربي” واجب الجهاد باللسان ضد المنافقين بأنه فريضة دائمة. (1أحكام القرآن لابن العربي (2/ 966) بتحقيق محمد على البجاوي)، وقد تأملت في هذا الوصف، فألفيته وصفاً دقيقاً يحكي فروقاً كثيرةً بين فريضتي جهاد الكفار وجهاد المنافقين من أوجه متعددة:

منها أن جهاد الكفار يجيء ويذهب باختلاف الأزمنة والأمكنة، وبحسب وجود دواعيه ومسبِباته من مداهمة الكفار لبلدان المسلمين، أو فتح المسلمين لمعاقل الكفار الصادّين عن سبيل الله.. أما المنافقون فجهادهم قائم ودائم في السلم والحرب؛ لأن أذاهم للدين موصول في السلم والحرب.

ومنها أن عداء المنافقين في الغالب مستتر خفي، وعداء الكفار معلن جليّ، ولا شك أن المستعلِن بالعداء يعطي من يعاديهم فرصة للتحفز والاستعداد وأخذ الحذر، بخلاف من يتآمر في الخفاء، ويموه العداء.

ومنها أن خطر المنافقين ينطلق من الداخل بين صفوف المسلمين، بينما يجيء خطر الكفار الظاهرين في أكثر الأحيان من الخارج، وخطر الخارج لا يستفحل دائماً إلا بمساندة من الداخل.

ومنها أن عداوة المنافقين شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تبدأ من الكلمة همزاً ولمزاً وسخرية وغمزاً، وتنتهي إلى الخيانة العظمى بالقتال في صف الكفار وتحت راياتهم والتآمر معهم على المسلمين وكشف أسرارهم.

ومنها أن جهاد الكفار قد يكون عينياً أو يكون كفائياً، وقد يسقط بالأعذار أو الإعذار، أما جهاد المنافقين فهو غير قابل للسقوط إذا وُجدت مسوغاته، فهو واجب على كل مكلف بحسبه، ففي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسننه ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل». (2أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب 20 ح (80) (1/ 69))

لهذا فإن جهاد المنافقين المأمور به في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ﴾ [التوبة: 73]، يبدأ بالقلب حتى ينتهي إلى السيف.

خاتمة

إن الأمة تعاني اليوم كثيرا من آثار حرب المنافقين وإفسادهم، وقد تمخضت عنها حرائق وخراب، وضلال قلوب، وتفتيت البلاد، وغلبة العدو وتمكّنه واستقرار قواعده، وامتدت آثاره المرة الى العقول والمفاهيم، والعقائد والأخلاق ﴿يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف﴾. ومواجهتهم فريضة لازمة بل ومتقدمة قبل غيرها؛ فما بعدها من المواجهات لن تنجح إلا عندما تنجح الخطوة الأولى في قهر ودحر وقمع هؤلاء.

…………………………..

الهوامش:

  1. أحكام القرآن لابن العربي (2/ 966) بتحقيق محمد على البجاوي.
  2. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان، باب 20 ح (80) (1/ 69).

المصدر:

  • عبد العزيز كامل، مجلة البيان، العدد:171.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة