التعبد لله تعالى لا يكون بما نتصور نحن العباد؛ بل بما أنزله الله وعرَّف به. فعنه نتلفى المفهوم والتطبيق، والنموذج الذي يرضاه تعالى؛ وإلا رُدت العبادة المتوهَمة في وجه صاحبها؛ عياذا بالله.

ما العبادة؟

اختلفت أقوال العلماء في مفهوم العبادة وتعريفها، وهذا الاختلاف هو من اختلاف التنوع لا التضاد، أي إن هذه التعريفات يكمل بعضها بعضاً، والإلمام بكل هذه الأقوال ينتج عنه المفهوم الصحيح للعبادة، ومن هذه الأقوال: قول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته. وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه، وإذا كانت المحبة له حقيقة عبوديته وسرها: فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه”. (1مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 91)

وقوله في موطن آخر:

“العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع”. (2مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 77)

ويعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فيقول:

“العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة”. (3العبودية لابن تيمية، ص4، ت: بشير عيون)

وعلى ضوء ذلك لا يكون العبد متحققاً بوصف العبودية إلا بأصلين عظيمين:

1- الإخلاص لله جل وعلا.

2- متابعة الرسول.

المعنى الصحيح للعبادة

ومما سبق من النقولات وغيرها يتضح لنا جليّاً معنى العبادة الحقة التي أمرنا الله عز وجل أن نتعبد له بها، ويمكن تلخيص هذا المعنى العظيم وتلك الحقيقة الضخمة فيما يلي:

أولا: العبادة الحقة تعني تمام المحبة مع تمام الخضوع والتذلل لله عز وجل الذي يعني طاعته سبحانه والانقياد لأمره، ومحبة ما يحب، وبغض ما يكره، واتباع رسوله، صلى الله علييه وسلم، فيما أمر ونهى وما سَنَّ وما شرع، من غير زيادة ولا نقصان؛ وإلا فما قيمة محبة وخضوع لا يثمران طاعة واتباعاً وقبولاً والتزاماً..؟

ثانيا: العبادة الحقة تفرض على العبد أن يكون في كل أوقاته وتحركاته وسكناته مصبوغاً بصبغة العبودية، لا يخرج عنها في أي لحظة من اللحظات.

ثالثا: ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله تعالى فهو مشرك تجب البراءة منه ومن شِركه، ولا تصح العبادة إلا بهذه البراءة.

بعض مظاهر الضعف والانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها

بعد أن اتضح لنا مفهوم العبادة الحقة كما عرضناها من فهم العلماء الربانيين للكتاب والسنة؛ فلا بد بعد ذلك من عرض هذه المفاهيم العظيمة والحقائق الضخمة على واقعنا نحن المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة، وهل هذا الفهم الصحيح للعبادة هو السائد اليوم بين المسلمين..؟ أم أن هذا الفهم قد اعتراه من الضعف والانحراف الشيء الكثير..؟

إن المتأمل في حال المسلمين الأليم، والغربة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم لَيجد كثيراً من المفاهيم العقدية قد انحرفت عند كثير من عامة المسلمين إلا من رحم الله عز وجل؛ فهناك انحراف في معنى التوحيد والعبادة، وانحراف في عقيدة اليوم الآخر، وانحراف في عقيدة القضاء والقدر، وانحراف.. وانحراف..

ولقد ساهم في هذه الانحرافات غزو أعداء المسلمين لديار المسلمين بثقافاتهم الكافرة وأفكارهم المنحرفة، وقابل هذا الغزو من الأفكار جهلٌ عند كثير من الأجيال المسلمة بدينها وعقيدتها، وعجز عند أكثر علماء الأمة عن تعليم الناس والوقوف في وجه هذا الغزو.

فوافق الغزو قلباً خالياً فتمكنا..!!

من مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم العبادة

من هنا سيتوجه التركيز على بعض مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم العبادة، فمن ذلك ما يلي:

الانحراف في تطبيق شرطي العبادة

من مظاهر الانحراف في العبادة فهماً وتطبيقاً ما هو منتشر بين أهل البدع والخرافة في القديم والحديث من تركٍ لأحد شرطي العبادة أو كليهما واللذين لا تصح العبادة إلا بهما، ألا وهما: الإخلاص والمتابعة.

ثمة انحراف يترتب على ترك هذين الشرطين أو أحدهما؛ فترك الإخلاص في العبادة نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق ولو كانوا أنبياء أو ملائكة أو أولياء. وهذا صرف للعبادة عن مستحقها، وحجتهم الداحضة عند ربهم؛ أنهم يؤمنون بأن الله الخالق الرازق بيده الضر والنفع، ولكنهم يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى؛ وهذا هو الشرك الأكبر الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، فترى هؤلاء يصرفون العبادة بأنواعها المختلفة من ذبح، ونذر، وخوف، ورغبة … وغير ذلك من أصناف العبادة إلى غير الله عز وجل.

وهذا من أشد مظاهر الانحراف في العبادة؛ لأنه شرك أكبر يضاد الإخلاص لله عز وجل، الذي هو شرط من شروط كلمة التوحيد وقبول العبادة.. ومحل الكلام عن هذا الشرك وأنواعه مبسوط في كتب التوحيد والعقائد. (4مثل: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله)، وشروحه المعروفة، ومن أشهرها: (فتح المجيد) و(تيسير العزيز الحميد))

أما ترك الشرط الثاني لصحة العبادة، وهو المتابعة؛ فينتج عنه انحرافات كثيرة في العبادة وتطبيقاتها، حيث ظهرت ألوان وصور من العبادات التي لم يأذن بها الله عز وجل، ولم يشرعها الرسول لأمته، وبخاصة بين المتصوفة الذين يعطون لمشائخهم حق التشريع، ويعتبرون أقوالهم وأفعالهم مصدراً من مصادر الاستدلال، فظهرت بذلك هيئات وصور متعددة للعبادة والأوراد والأذكار، كلها مبتدعة؛ سواء أكان ذلك في كيفيتها، أو كمها، أو هيئتها، أو طريقة أدائها، أو زمانها، أو مكانها.

وهذه كلها مردودة على أصحابها، لأنها تشريع لم يأذن به الله، قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاًذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى: 21]، ولقوله، صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». (5رواه البخاري من حديث عائشة (رضي الله عنها)، ك/ الصلح، ح/ 2697، ومسلم، ك/ الأقضية، ح/ 1343)

الانحراف في مفهوم العبادة

وهو النظر إلى العبادة على أنها أداء للشعائر التعبدية من: صلاة، وصيام، وحج، وذبح، وقراءة قرآن … فحسب. وأن ما سوى ذلك من معاملات، وأخلاقيات، ومباحات.. وغيرها، كل ذلك لا يدخل في العبادة.

نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين، سواء أقالوه بلسان مقالهم أم بلسان حالهم وأعمالهم، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي، الصائم، القارئ للقرآن، بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ، أو يرابي، أو يظلم، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم، وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع، من سفور، أو زينة محرمة، أو اختلاط.. أو غيره.

وإذا نُصح مثل هؤلاء الناس، قالوا: إنهم من المصلين العابدين، وقد انتهى وقت العبادة..!

وهكذا تنحرف الغايات، وتنشأ اللوثات، وتفسد النيات، وذلك كمن يفْصل أمر تعليمه وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله عز وجل، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة، بل يستخدم أي وسيلة توصله إلى ذلك.

إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل المسلم في انفصال وانفصام بين حياته في مسجده وخارج مسجده، لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثاً، ولبقي أكثر الأوقات غير معمور بعبادة الله عز وجل. وهذا لا يرضاه الباري جل وعلا؛ ذلك لأن أوقات الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة، فماذا يكون شأن الساعات الباقية..؟ هل تنفق في غير عبادة..؟! كلا؛ فإن الله سبحانه لا يرضى لعباده هذه الحال.

خاتمة

إن الواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خُلق إلا للعبادة، وأن وقته يجب أن يكون في عبادة؛ سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية، أو ما كان منه في المعاملات، أو ما كان منه في المباحات، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد، وشعور العبادة لله عز وجل يصاحبه؛ فيراقب ربه في كل أعماله، وينوي بها التقرب إليه عز وجل والاستعانة بها على طاعته.

إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله حتى في مباحاته ولذّاته عبداً لله، مسلماً وجهه لربه عز وجل. (6وقد تحدث الأستاذ محمد قطب حول هذا الموضوع حديثا مستفيضاً وفق فيه، عند حديثه عن مفهوم العبادة، انظر كتابه “مفاهيم ينبغي أن تصحح”)

﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162، 163]

…………………………………….

الهوامش:

  1. مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 91.
  2. مدارج السالكين، لابن القيم، 1/ 77.
  3. العبودية لابن تيمية، ص4، ت: بشير عيون.
  4. مثل: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله)، وشروحه المعروفة، ومن أشهرها: (فتح المجيد) و(تيسير العزيز الحميد).
  5. رواه البخاري من حديث عائشة (رضي الله عنها)، ك/ الصلح، ح/ 2697، ومسلم، ك/ الأقضية، ح/ 1343.
  6. وقد تحدث الأستاذ محمد قطب حول هذا الموضوع حديثا مستفيضاً وفق فيه، عند حديثه عن مفهوم العبادة، انظر كتابه (مفاهيم ينبغي أن تصحح).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة