لا تعتريك آفة بسبب طاعة الله إلا جعلها لك ربك سببا في كمال خاص، فموازين الآخرة غير الدنيا. ولفرض الصيام على الأمم دلالة مهمة.

مقدمة

ثمة أسرار وحكم، وغايات مستنبطة يفهمها العبد من خطاب ربه تعالى في فرائضه عموما، وفي شريعة الصيام خصوصا.

وننظر هنا الى النقص أو الآفة التي تعتري العبد بسبب قيامه بما أمر الله تعالى فيجعلها تعالى سببا لخير خاص، بسبب طاعته.

كما ننظر في اشتراك الأمم في فريضة الصيام الكريمة، ودلالة ذلك على عِظم شأن الفريضة وموقعها من الشريعة وأهميتها للنفس البشرية.

صنائع العبادة

إن رؤية الدم المسفوك مُستبشَع للنفس البشرية، حتى أن الإنسان إذا عُرضت له صور القتلى على الشاشات أو في مواقع التواصل الاجتماعي وقد تلطّخت بالدماء ازورّت عينه عنها تلقائياً؛ لماذا؟

لأن صور الدماء في النفوس البشرية بالفعل مُستبشَعة.

ولكن دم الشهيد عند الله له منزلة أخرى، هذه الدماء المُلطَّخة على جسد وملابس الشهيد أمر النبي، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بتركها على حالها كما في البخاري عن جابر في قصة قتلى أحد أنه قال: «وأمر بدفنهم في دماءهم ولم يُغسَّلوا». (1صحيح البخاري – الجنائز (1278)).

أبقى دماءَ الشهداء على حالها في ملابسهم وأجسادهم، برغم أن المؤمن الميِّت يُغسَّل، وشُرع له التغسيل، والتغسيل تكريم؛ لكن هذا تكريم فوق التغسيل.

لماذا تركهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدماءهم؟

لأنه كما في البخاري عن أبي هريرة أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل كَلْمٍ يُكْلَمه المسلم في سبيل الله يكون يوم القيامة كهيئتها ـ يعني كهيئة الجِراحة ـ إذ طُعنت تفجَّر دماً اللون لون الدم والعَرْف عَرْف المِسْك». (2صحيح البخاري – كتاب الوضوء) يعني: الطيب أو الرائحة.

حسناً؛ إذا كان لون الدم المسفوك ورؤية الدماء المُتلطِّخة بالجِراحات تشمئز منها النفوس بطبيعتها البشرية فلماذا أبلغها الله هذه المنزلة الشريفة؟ فنهى عن غسلها وأتى بها يوم المحشر وهي تتضوَّع مِسْكاً يفوح بين الناس؛ لماذا؟

الجواب: لأنها أثر من آثار التعبُّد والطاعة والخضوع لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فبالله عليك انظر كيف تفعل الطاعة في آثارها؛ الله تعالى يُجِل من عبده أثر العبادة عليه، حتى لو كان هذا الأثر مما تَنْفِر منه النفوس البشرية.

قاعدة مطردة

ومما هو من هذا الجنس أن الناس يحبون أن يعتمُّوا وأن يضعوا على رؤوسهم شيئاً من الزينة كعِمامة أو قُبّعة ونحوها، وكشف الرأس هو في الأصل خلاف الزينة العامة. ومن أحسن الزينة أيضاً: الطيب والعطور.

ولذلك فإنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع في الحجِّ ألا يُغطِّي الحاج رأسه، وجعله من محظورات الإحرام، وهكذا نهى المُحْرِم أيضاً عن الطيب وجعله من محظورات الإحرام، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: «بينا رجلٌ واقفٌ مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته (يعني: دقَّت عنقه) فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كفِّنوه في ثوبين ولا تُمِسُّوه طيباً ولا تُخَمِّروا رأسه فإنَّ الله يبعثه يوم القيامة مُلبياً». (3صحيح البخاري (1187) وصحيح مسلم (2092))

المسلم إذا مات يُغطَّى رأسه ويُطيَّب، أما من مات وهو مُحْرِم فلا يُغطَى رأسه ولا يُمسّ بالطيب، لماذا؟ لأن هذه آثار العبادة، والله يُحبها وإن كانت في النفوس البشرية أقل من ضِدِّها جمالاً لكنها عند الله أرفع؛ لماذا؟ لأنها «صنائع العبادة» على الإنسان.

وهكذا في عِبادة الصوم، كما أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحب بقاء آثار الشهيد من الدماء عليه، ويحب أن يبقى الحاج في عدم تغطيته لرأسه وفي تركه للطيب؛ فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لَخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك». (4صحيح البخاري (1771))

هذا الأثر الذي يبقى على الصائم بسبب خلوّ الجوف أو خلوّ المعدة. وهي هذه الرائحة المُستكرَهة للنفوس البشرية؛ هي أطيب عند الله من ريح المسك.

التسلية باشتراك الفَرَضية

إن الله تعالى حين أخبرنا عن فرض الصوم علينا زوَّدنا بمعلومة تاريخية فيها قدر زائد على مجرد الحكم بفرض الصوم، ولكن لها دَلالات ومغزى عظيم، فقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ (البقرة:183).

فقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ هذا حُكم وفرض وإيجاب وإلزام؛ ولكن لماذا أردف الله هذا الحكم بخبرٍ عن تاريخ الأمم السابقة؟ لماذا قال الله: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾؟

هذه معلومة تاريخية، الإيجاب والفرض يكون بقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، فلماذا أردف الله هذا الحكم بهذه المعلومة التاريخية؟

دلالات المعلومة التاريخية

هذا له دلالات؛ منها: أن الله تعالى يخبرنا بما يُسهِّل العبادة علينا، فإنّ الشاق إذا عمّ سَهُل، ففيه تسلية للقلوب، هذه الفريضة ليست تشديدا اختصَّت به هذه الأمة، بل هي عبادة يشتركون فيها مع الأمم السابقة، فليس فيها مشقة، فالشاق لا يَعُم، والآصار والأغلال حالات خاصة لدواعي زجرية خاصة؛ فهذا فيه تقريب للقلوب لهذه العبادة.

لكن هل معنى قول الله تعالى: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ أن التشبيه هنا يعني تماثل الفريضة بأن تكون كل الأمم فُرض عليها صيام شهر في السنة كما فُرض علينا؟.

الجواب: لا، فإن التشبيه هنا هو في أصل العبادة لا في كميتها وكيفيتها، وهذا شائع في استعمال أداة التشبيه في لغة العرب وله أمثلة أيضاً في النصوص الشرعية: ·

 ومنها مثلاً: أن ابن القيِّم (5في «جلاء الأفهام») لمَّا تحدَّث عن مسألة تشبيه الصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة على إبراهيم كما في التشهد: «اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».

هنا ورد سؤال عند كثير من أهل العلم: كيف تُشبَّه الصلاة على النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة على إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برغم أن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..؟

ابن القيِّم ذكر هذا المثال وبيّن طبعاً بمناقشات طويلة وكان من ضمنها أنه ذكر هذا المثال، وهو قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ثم قال ابن القيم: «التشبيهُ هنا إنما هو في أصل الصوم لا في عينه وقدره وكيفيته».

وهذا أيضاً مثل قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ﴾ (النساء:163) فالتشبيه هنا بأصل الوحي وليس معناه أنَّ ما أوحي إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو عينه أو قدره أو كيفيته أو كميته الذي أوحي إلى الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام.

الصوم من أمهات الطاعات

ومن المغزى الدقيق أيضاً في هذه الآية ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ إثبات أن عبادة الصوم من العبادات الكُبرى ومن أمهات الطاعات، لماذا؟

لأنها اشتركت فيها الشرائع، وهذا يعني شِدة مناسبتها لكل زمان ومكان.

وهذا يعني أيضاً كمال مناسبة عبادة الصيام للنوع الإنساني والفِطرة البشرية وانتفاعها بها، وإلا لما جعلها الله من الشرائع التي تشترك فيها الأمم الموحى إليها.

فإذا استحضر المؤمن حال الصيام حُبّ الله لهذه العبادة حتى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعها لكل الأمم السابقة امتلأ قلب المؤمن بالواردات الإيمانية والإخبات لله في هذه الطاعة لأنه سيُعظِّمها لعظمتها عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

خاتمة

هذه بعض المعاني فيما يخص فريضة الله تعالى في الصيام وشريعته في فرضه علاقته بكتاب الكريم، لعل المسلم يدرك منها ما يعظم به حرمات الله وشعائره، ويمتليء قلبه بها محبةً وتعظيماً. وليعلم أن فيما شرعه له ربه من الخير فوق ما يدركه، وأن الأمان في الإمتثال.

والله أعلم وأحكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

………………………………………………

هوامش:

  1. صحيح البخاري- الجنائز (1278)
  2. صحيح البخاري -كتاب الوضوء.
  3. صحيح البخاري (1187) وصحيح مسلم (2092).
  4. صحيح البخاري (1771).
  5. في «جلاء الأفهام».

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة