اجتهدت الأمم المتقدمة في السياحة والانقطاع للعبادة، واختار الله تعالى لهذه الأمة سياحة خاصة في الصوم، وفي الجهاد، تشريفا وتفضيلا وشرع ما هو خير.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

للتعرف على «المغزى الرمضاني»؛ نتناول عِدّة إشارات ومُعطيات في النصوص الشرعية عن الصيام في رمضان.

فلهذه الأمة شرف وفضل، وشرع تعالى لها ما هو خير وأفضل، كما انقطع المتقدمون عن الحياة للتفرغ للعبادة، فقد شرع الله لهذه الأمة ما هو أكثر تعبدا ودفقا للحياة وإعدادا للآخرة. وهنا ننظر في عبادة “السياحة” للمتقدمين وعلاقة الصوم وشريعته العظيمة بهذا العبادة. وما يتبدى من شرف لهذه الأمة الكريمة.

السياحة المقيمة

فقد كان فيمن كان قبلنا من الأمم أقوامٌ تشتد رغبتهم في عبادة الله، فيتقرّبون له بالرهبانية، يتقربون لله بترك اللذائذ والشهوات ودهْس الغرائز والانقطاع عن الناس في الديارات والصوامع، كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الحديد عن النصارى ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ (الحديد:27).

و«الرَهبانية»: بفتح الراء أصلها الرهبة، وتُضم؛ وهي بالضم «رُهبانية» تكون نسبة للرُّهبان.

ولكن لماذا أُخذت من الرهبة؟

لأن مثل هذا المستوى من التقرُّب يكون باعثه شدة الخوف والرهبة وضعف الرجاء فيحمِل العابد نفسه على المشقات من شدة قرص الفَرَق والفزع.

وكان من ألوان وأنواع هذه الرهبانية ما يسمى “السياحة”. هذه عبادة في الأمم السابقة كانوا يتعبدون بها وهي:

أن يأخذ العابد نفسه بالتواري في الأرض؛ يمشي في البرية لغير مقصد، ويصرف نفسه عن التماس الزاد ويتوكل على الله أن يرزقه عند الحاجة.

قال «سفيان بن عيينة»:

“إذا ترك الطعام والشراب والنساء فهو السائح”. (1“تفسير الطبري” (6/36-38))

حكم الاسلام في الرهبنة

وكما جاء النصّ القرآني في أن الرهبانية بدعة فقد جاءت الآثار عن أن السياحة بهذا المعنى بدعة أيضاً، وأنه “لا سياحة في الإسلام” بهذا المعنى الرهباني السابق؛ كما جاء عن «طاووس» أنه قال: «لا سياحة في الإسلام»، وهذا الأثر عند عبد الرزاق في مصنفه.

وفي المرويات التي طاف «الخلال» الدنيا لجمعها عن الإمام أحمد؛ سُئل الإمام أحمد عن الرجل يسيح يتعبّد أحبّ إليك أم المُقام في الأمصار؟

فقال الإمام أحمد:

“ما السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين”. (2أحكام النساء للإمام أحمد، ص62)

وسُئل الإمام أحمد أيضاً في نفس هذا الكتاب قيل له: ما تقول في السياحة يا أبا عبد الله؟ قال:

“لا، التزويج ولزوم المساجد”. (3أحكام النساء للإمام أحمد،  ص62)

ونبّه الإمام ابن تيمية أنَّ السياحة من أفراد الرهبانية فقال في «الاقتضاء»:

“وأما السياحة التي هي الخروج في البرية لغير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة؛ وهي من الرهبانية المبتدعة”. (4اقتضاء الصراط المستقيم، ص292)

فالسياحة من أجناس وأفراد الرهبانية المبتدعة.

وقد أشار شيخ الإسلام في كتبه أشار مرارا إلى هذا المعنى، بل ومنها رسالة مفردة بعنوان: «قاعدة في السياحة ومعناها في هذه الأمة».

ما شرعه الله لنا خير

هل هذا كل شيء في هذا المعنى؟ هل يقتصر الأمر على أن الأمم السابقة كان فيهم رهبانية وسياحة وأن الله منع عنّا الرهبانية؟

لا؛ فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما نهى عن شيء إلا وشرع لهذه الأمة ما هو خيرٌ منه:

  • فإن كان شراً شرع لنا ما هو ضده من الخير.
  • وإن كان خيرا اختلط بشرّ شرع لنا ما هو من جنسه بتخليص ما فيه من الشر.

وهذه الرهبانية والسياحة التي كانت فيمن كان من الأمم، ويعدّونها أعلى مراتب الانقطاع إلى الله وأعلى مراتب الانصراف عن الغرائز ومدافعتها وقطعها؛ شرع الله لنا بدلاً عنها وهي: “عبادة الصوم”.

واللطيف حقاً أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمّاها “السياحة”، فإن الله جلَّ وعلا يقول في سورة التوبة: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (التوبة:112).

تفسير السياحة عند السلف

جماهير السلف على أن «السياحة» هنا في هذا الموضع هي: عبادة الصيام، وجاء فيها أحاديث مرفوعة وموقوفة ومقطوعة، بل إن ابن جرير الطبري على تبحُّره المعروف في نقل خلاف السلف في التفسير -وهذا أمر مشهور- لَمْ يَنْقُلْ في تفسير هذه الآية إلا هذا القول، فما نقل عن أئمة السلف في معنى السياحة إلا هذا القول أنها عبادة الصيام، وهو أن السائحين هم الصائمون.

لكن ما علاقة السياحة بالصيام؟ ولماذا سُمِّيت عبادة الصيام بـ “السياحة”..؟ والتي نعرف أنه كان فيمن كان قبلنا من الأمم من كان يعمل بمثل هذه “السياحة” ونهى الله عنها؛ لماذا اختار الله أن يُعبِّر عن عبادة الصوم بـ “السياحة”..؟

يقول ابن عطية في تفسيره:

“وشبَّه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زادٍ ولا مطعم، وكذلك الصائم يُمسك عن ذلك فيستوي هو والسائح في الامتناع وشظف العيش لفقد الطعام”. (5المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج5، ص 332)

وقال «الأزهري» ـ وهو من أئمة اللغة:

“قيل للصائم سائح؛ لأن الذي يسيح في الأرض مُتعبِّدا لا زاد معه، كان مُمسكاً عن الأكل. والصائم يُمسك عن الأكل، فلهذه المُشابهة سمي الصائم سائحاً”. (6تهذيب اللغة، ج5، ص113)

لعلك تلاحظ الآن أن تسمية الصوم بـ “السياحة” التي بلغت في الأمم السابقة غاية ما يكون من الانقطاع إلى الله؛ فيه إلماحة تشريفية بديعة لعبادة الصوم.

للجهاد نصيب من السياحة

وثمَّة عبادة أخرى شاركت الصوم في هذه التسمية وهي كما قال ابن تيمية في رسالته المفردة في المُفاضلة بين “المرابطة” و”المجاورة” لمَّا سُئل عنها؛ أفرد لها رسالة في المُفاضلة بين المُرابطة والمُجاورة وقال: “فُسِّرت السياحة بالصيام وفُسِّرت بالجهاد، وكلاهما مرويٌّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.

والمقصود أن نلتمس الدلالات والمغزى من تسمية الشارع لعبادة الصوم بـ “السياحة”، فهذا ليس مجرد لقب عفوي، بل فيه تشريف، وتعظيم، وفيه تبجيل لعبادة الصيام.

خاتمـة

وعلى أيّة حال؛ فإن مُتدبِّر القرآن إذا تأمّل وجد:

  • كيف اختار الله للصوم اسماً شَرَفياً وهو «السياحة» وميَّزه عن بقية الشعائر بذلك.
  • وكيف اختار الله للصوم اسماً مُنفردا من أبواب الجنة فلم يسمِّ الباب باسم العبادة ذاتها كباب “الصلاة” وباب “الصدقة” ونحوها؛ بل سمَّاه «باب الريان».

أدرك أن هذه التشريفات رسائل مؤثِّرة في ملء القلب بعظمة هذه العبادة عند ربِّ العباد؛ فكيف يقرأ المؤمن ـ بالله عليكم ـ هذه الرسائل التشريفية المتواطئة المتظاهرة على تأكيد هذا المعنى ويُفلِت من بين يديه استحضار الإخبات لله في هذه العبادة العظيمة؟

إنها عبادة بلغت منزلتها هذه المنزلة:

في تشريعها. في فضائلها. في مناقبها. في أسمائها.

فكيف يَفوت على الإنسان استحضار هذه المنزلة أثناء صومه؟.

…………………………………………

هوامش:

  1. “تفسير الطبري” (6/ 36-38).
  2. أحكام النساء للإمام أحمد، ص62.
  3. أحكام النساء للإمام أحمد،  ص62.
  4. اقتضاء الصراط المستقيم، ص292.
  5. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج5، ص 332.
  6. تهذيب اللغة، ج5، ص113.

المصدر:

  • الشيخ إبراهيم السكران

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة