إن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر. وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].

الجهاد في سبيل الله

يقول الله عز وجل: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 109].

ومما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك، أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغیت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى. وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى.

إحياء الجهاد وتحديث النفس به

ومع إيماننا بحتمية الصراع بين الحق والباطل، ومع أن جهاد الكفار أصبح أمرا مفروضا على المسلمين دفاعا عن الدين والعرض حتى لا تكون فتنة، إلا أن المسلم الناظر في أحوالنا اليوم وما هي عليه من ضعف إيمان، وركون إلى الدنيا، وترهل في الهمم والأجسام، ويأس وإحباط ليشعر بالخطر على نفسه وعلى أمته، ويفرض عليه ذلك المبادرة مع إخوانه في وضع برامج علمية وعملية لإعداد النفوس وانتشالها من نومها أو موتها، وإحياء الجهاد وتحديث النفس به. فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق»1(1) رواه مسلم: (1910)..

وتحديث النفس بالغزو ليس المراد منه خاطرة تمر في النفس ثم تدفن في أودية الدنيا وزينتها التي سيطرت على كثير منا؛ وإنما المراد به العزيمة الصادقة على ذلك، ومن علاماتها الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة الشاملة للجهاد في سبيل الله تعالى علما وعملا وحالا. قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) [التوبة: 46].

استفاضة البلاغ قبل الجهاد ومراعاة القدرة وحال الاستضعاف

وفي المقابل لأحوال المفرطين في إعداد العدة لجهاد الكفار وتربية النفوس على ذلك، توجد طائفة أخرى قد أفرطت وتعجلت في مواجهة الكفار والمنافقين بالصدام المسلح دون إعداد شامل لهذه المواجهة، وقبل أن يأخذ البلاغ العام للناس حقه كي تستبين لهم سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، ويزول اللبس والاشتباه بينهما ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة. فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة على الدعوة وأهلها وعلى عامة المسلمين الذين لبس الأمر عليهم ولم يستبينوا سبيل المجرمين.

وعندما نذكر المستعجلين للجهاد قبل الإعداد له فإنما نقصد أولئك الذين بادروا إلى المواجهة مع الأنظمة الكفرية المستقرة المتمكنة قبل الإعداد لذلك، وقبل وضوح الراية الكفرية للناس في هذه الأمكنة. أما الساحات الجهادية التي قد اتضحت فيها رايات الكفار فهذا جهاد مشروع ومطلوب كما هو الحال في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين.

والمقصود مما سبق أن كلا الفريقين: سواء المهملون للتربية الجهادية في برامجهم ومناهجهم وسيطرة حياة الترف والترهل على حياتهم، أو المستعجلون للجهاد المسلح قبل استكمال عدته في النفس والواقع أن كلا الفريقين محتاج لإعداد العدة للجهاد في سبيل الله تعالى بمفهومه الشامل.

المعنى الخاص للجهاد: القتال في سبيل الله

المعنى اللغوي:

قال الراغب في مفردات القرآن: (الجَهد والجُهد: الطاقة والمشقة. وقيل الجهد بالفتح: المشقة، والجهد: الوسع)2(2) المفردات»: (ص99)..

وقال ابن حجر: (والجهاد بكسر الجيم: أصله لغة: المشقة)3(3) «الفتح»: (6/3). ..

المعنى الشرعي:

يدور المعنى الشرعي عند أغلب الفقهاء: على قتال المسلمين للكفار بعد دعوتهم إلى الإسلام أو الجزية ثم إبائهم.

– فهو عند الأحناف: (بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عز وجل بالنفس والمال واللسان أو غير ذلك أو المبالغة في ذلك)4(4) «بدائع الصنائع »: ( 9/4299 ) ..

وبأنه: (الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله)5(5) «حاشية ابن عابدين»: (4/ 121)..

– وعند المالكية هو: (قتال مسلم کافرا غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله تعالى)6(6) «الشرح الصغير على أقرب المسالك»: (2/ 267)..

– وعند الشافعية كما قال الحافظ ابن حجر: (وشرعا: بذل الجهد في قتال الكفار)7(7) «فتح الباري»: (6/3)..

– وعند الحنابلة: (قتال الكفار)8(8) «مطالب أولي النهى»: (2/ 497)...

المعنى العام للجهاد

وكل هذه التعريفات يرى أنها قد حصرت الجهاد في قتال الكفار، وهذا هو تعريف الجهاد عند الإطلاق. وهناك أنواع أخرى قد أطلق عليها الشارع اسم الجهاد مع خلوها من القتال کجهاد المنافقين، وجهاد النفس.

ولذا فإن لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تعريفا عاما للجهاد قال فيه: «والجهاد هو بذل الوسع – وهو القدرة – في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق»9(9) مجموع الفتاوی: (10/ 192، 193)..

وقال أيضا: «… وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان»10(10) مجموع الفتاوی: (10/191)..

مراتب الجهاد أربعة

وتحت هذا المعنى العام للجهاد يدخل جهاد النفس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين، وجهاد الكفار، ومن ذلك جهاد البيان والبلاغ، ومدافعة الفساد والمفسدين؛ بل إن جهاد الكفار بالسنان إن هو إلا جزء من القيام بفريضة الأمر بالمعروف الأكبر – وهو نشر التوحيد – والنهي عن المنكر الأكبر – وهو الشرك بالله عز وجل والكفر به – وذلك بعد دعوة الكفار إلى التوحيد ورفضهم له أو لدفع الجزية.

المجاهد الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم

ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حقيقة الجهاد بمعناه العام وأنواعه فيقول: «لما كان الجهاد ذروة سنام الإسلام وبنته، ومنازل أهله أعلى المنازل في الجنة، كما لهم الرفعه في الدنيا، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة، كان رسول الله في الذروة العليا منه، واستولى على أنواعه كلها فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان، والدعوة والبيان، والسيف، والسنان وكانت ساعاته موقوفة على الجهاد، بقلبه، ولسانه، ويده. ولهذا كان أرفع العالمين ذكرا، وأعظمهم عند الله قدرا.

وأمره الله تعالى بالجهاد من حين بعثه، وقال: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 51-52]. فهذه سورة مكية أمر فيها بجهاد الكفار، بالحجة، والبيان، وتبليغ القرآن. وكذلك جهاد المنافقين إنما هو بتبليغ الحجة، وإلا فهم تحت قهر أهل الإسلام؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التوبة:73].

فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد في العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه، وإن كانوا هم الأقلين عددا، فهم الأعظمون عند الله قدرا.

ولما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سطوته وأذاه، كان للرسل – صلوات الله عليهم وسلامه – من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا – صلوات الله وسلامه عليه – من ذلك أكمل الجهاد وأتمه.

ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج، وأصلا له؛ فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه، حتى يجاهد نفسه على الخروج.

فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يثبط العبد عن جهادهما، ويدله، ويرجف به، ولا يزال يخيل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان؛ قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر: 1]. والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدو لا يفتر، ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أمر العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بلي بمحاربتها في هذه الدار، وسلطت عليه امتحانا من الله له وابتلاء، فأعطى الله العبد مدد وعدة وأعوانا وسلاحا لهذا الجهاد، وأعطى أعداءه مددا وعدة وأعوانا وسلاحا، وبلا أحد الفريقين بالآخر، وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم، ويمتحن من يتولاه، ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه؛ كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) [الفرقان: 20]، وقال تعالى: (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) [محمد: 4].

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31].

إذا عرف هذا فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس – وجهاد الشيطان – وجهاد الكفار – وجهاد المنافقين.

أقسام الجهاد ومراتبه

جهاد النفس أربع مراتب

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدی، ودین الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه، شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله. فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين؛ فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمي ربانيا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.

وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان

إحداهما: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.

فالجهاد الأول يكون بعدة اليقين، والثاني يكون بعدة الصبر؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24] فأخبر أن إمامة الدين إنما تنال بالصبر واليقين؛ فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب

بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب:

الأولى: باليد – إذا قدر – فإن عجز انتقل إلى اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و(من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق)

وأكمل الخلق عند الله، من كمل مراتب الجهاد گلها، والخلق متفاوتون في منازلهم عند الله، تفاوتهم في مراتب الجهاد، ولهذا كان أكمل الخلق وأكرمهم على الله خاتم أنبيائه ورسله؛ فإنه كمل مراتب الجهاد وجاهد في سبيل الله حقه جهاده..»11(11) «زاد المعاد» ت: الأرناؤوط: (3/ 12-5) مختصرة..

وقال أيضا: «لا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان: 52] فهذه سورة مكية والجهاد فيها هو التبليغ»12(12) «زاد المعاد»: (3/71 )..

من كلام ابن القيم وابن تيمية نخرج من هذا الكلام بثلاث فوائد

الأولى: أن الجهاد بمفهومه العام يشمل جهاد النفس والشيطان في طاعة الله عز وجل وترك معصيته، كما يشمل جهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وجهاد أهل البدع والمنكرات باليد أو باللسان أو بالقلب حسب الاستطاعة، کا یعني جهاد الكفار بالسيف والسنان إما جهاد دفع أو طلب وجهاد الكفار بالسيف هو الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذروة سنام هذا الدين وهو المراد من الجهاد في سبيل الله عند الإطلاق.

الثانية: أن جهاد الكفار في المعارك هو قمة الجهاد وكماله، بل هو قمة الإيمان وهو ثمرة جهاد طويل مع النفس والشيطان وتربية لها على الصبر والتضحية وقوة الصلة بالله عز وجل، ولا يصبر على جهاد الكفار وينتصر عليهم إلا أولئك الذين انتصروا على أنفسهم والشيطان في جهادهم لها وكان لهم نصيب من جهاد البيان وقول الحق والصبر على الأذى فيه؛ إذ إن معركة الجهاد مع الكفار إن هي إلا ساعات أو أيام حاسمة لكنها ثمرة لمعركة سبقتها مع النفس والشيطان، وجهاد بالعقيدة مع الباطل بفضحه وبيان ما يضاده من الحق وقد يستغرق ذلك سنوات أو أجيال، وهذا أمر لا بد منه وهو ضرب من ضروب الجهاد وإعداد للجهاد الحاسم مع الكفار.

الثالثة: أن الكمل من الناس في باب الجهاد من قام بمراتب الجهاد كلها وأعد نفسه بجميع متطلبات الإعداد للانتصار على النفس والهوى؛ والذي هو ممهد للانتصار على الكفار في ساحات الوغى، وممهد للدخول في ذروة سنام هذا الدين، والثبات أمام الأعداء، والاستجابة لداعي الجهاد، والتضحية في سبيل الله عز وجل بالمال والنفس عند النداء، لتكون كلمة الله هي العليا وليكون الدين كله لله، ولكن لا يسارع إلى ذلك إلا من كان له جهاد سابق مع نفسه وهواه وكان النصر له عليها.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «… إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه؛ قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل؟ قال جهادك هواك. وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين؛ فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم»13(13) «روضة المحبين»: (ص 478)..

الهوامش

(1) رواه مسلم: (1910).

(2) المفردات»: (ص99).

(3) «الفتح»: (6/3). .

(4) «بدائع الصنائع »: ( 9/4299 ) .

(5) «حاشية ابن عابدين»: (4/ 121).

(6) «الشرح الصغير على أقرب المسالك»: (2/ 267).

(7) «فتح الباري»: (6/3)  .

(8) «مطالب أولي النهى»: (2/ 497)..

(9) مجموع الفتاوی: (10/ 192، 193).

(10) مجموع الفتاوی: (10/191).

(11) «زاد المعاد» ت: الأرناؤوط: (3/ 12-5) مختصرة.

(12) «زاد المعاد»: (3/71 ).

(13) «روضة المحبين»: (ص 478).

اقرأ أيضا

العدل والتوازن في الجهاد في سبيل الله

منكرات وطوام التطبيع مع اليهود؛ إلغاء فريضة الجهاد

الجهاد في الإسلام: أحکام وآداب

 

التعليقات غير متاحة