المداراة والمداهنة مصطلحان متقابلان، أحدهما مشروع والآخر محرم، أحدهما يخدم الدين بالدنيا، والآخر يخدم الدنيا بالدين، ويجب التفريق بينهما

مقدمة

كم من الشر وإخفاء الحق وكتمانه وتزيين الباطل لأهله وتلبيس الحق بالباطل للناس؛ كم تتم هذه الجرائم تحت شعار المداراة، وهي من المداهنة المحرمة. فلا بد من معرفة الفروق جيدا.

فثمة خلط بين المداهنة المحرمة والمداراة التي أذن الله فيها أو شرعها للمسلمين؛ بينما هناك فرق كبير بينهما إذ هما مصطلحان متقابلان؛ فمن فعل الأولى فإنه يؤزر، ومن حُرم الثانية فقد يفوت مصالح كثيرة له وللمسلمين..

وهذا المقال يوضح الفرق بينهما ويوضح القواعد الشرعية والضوابط لمعرفة كل منهما..

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد

تحديد مصطلحيْ المداراة والمداهنة

فإنَّ من أقوى الأسباب والوسائل التي تساعدُ على تأصيل المفاهيم وإيضاحها، هو التحديد والتحرير، للمصطلحات التي تستخدم وتطلق على مفهومٍ معين، أو موقف محدد، كما أنَّ تحديد الألفاظ والمواضع يساعدُ أيضًا على الفصل في الأمور، وعدم اختلاط بعضها ببعض.

وإنَّ من المصطلحات التي تحتاجُ إلى إيضاحٍ وتحديدٍ وتحرير، هو هذا الموضوع الذي نحن بصدده، ألا وهو تحديد مفهوم المداراة، والمداهنة، والفرق بينهما، وما ينشأ عن كلٍ منهما من مواقف.

أسباب اختيار مصطلحَيْ المداراة والمداهنة

ولقد اخترتُ هذا الموضوع وذلك لخطورةِ الخلط بين هذين الأمرين، وما ينشأُ عن ذلك من مواقف عمليةٍ خاطئة، خاصة في هذا العصر الذي من سماته التناقض والاضطراب، وفي مثل هذه الأجواءِ يتعرض المسـلم لكثيرٍ من المواقف، التي تفرضُ عليه المداراة، وقد يقع في المداهنةِ وهو يحسبِ أنها مداراة.

وقد يحصلُ العكس في هذه القضية، حيثُ يوجدُ من يرفض أي أسلوبٍ للمداراة، والتي قد تكون واجبةً في بعض المواقف، ظانًّا أنها مداهنة، ومعلومٌ ما ينشأ من هذا الخلط من مفاسد أو تفويت مصالح.

من أجل ذلك كله وقع الاختيار على هذا الموضوع.

أسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما فيه، وأن يفقهنا في ديننا، وأن يؤتنا الحكمة بفضله ورحمته، ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾ .

تعريف المداراة

بوَّب البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في المداراة بابًا كاملاً، في كتاب الأدب وأسماهُ «باب المداراة مع الناس».

وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

“أنَّ أصلها الهمز لأنَّهُ من المدافعةِ والمراد به الدفع برفق”. (1فتح الباري: 10 / 545)

وذكر صاحبُ القاموس المحيط، في معنى (درأه):

“أي جعلهُ درءًا، ودرأه أي: دفعه، وتدارأوا: أي تدافعوا في الخصومة”

أما المداهنة

فقد ذكر الحافظُ ابن حجر- رحمه الله تعالى- أنَّ:

“المداهنة من الدهانِ، وهو الذي يظهرُ على الشيءِ ويسترُ باطنه”. (2فتح الباري: 10 / 545)

وذكرَ صاحب القاموس المحيط:

“أنَّها إظهار خلاف ما يضمر”

وبهذا التعريف يتبينُ خطر المداهنة، وما تُؤدي إلى ضياعِ الدين كله أو بعضه، وأنَّ في المداراةِ مندوحة عن المداهنة.

وأزيد هذا الأمر إيضاحًا ببعض الآيات من كتاب الله عز وجل، وبعض الأحاديثِ التي حذرت من المداهنة، وأذنت في المداراةِ مع ذكرِ أقوالِ المفسرين والمحدثين حولها.

تحريم المداهنة

الأدلة الناهية عن المداهنة

يقول الله عز وجل: ﴿فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ (القلم:8- 9). ولعلماء التفسير أقوالٌ مختلفة في معـنى المداهنة، يجمعها معنى واحد كما سيتضحُ ذلك من عرضِ أقوالهم، وأنَّ الاخـتلاف هُنا اختلافُ تنوعٍ لا اختلاف تضاد.

نقـل الـقرطبي، رحـمه الله، في تفسيره عن ابن عباس، رضي الله عنهما، وعطية والضـحاك والسـدي في قوله تعــالى: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾:

ودُّوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم»، وعن ابن عباس أيضًا: «ودُّوا لو ترخص لهم فيرخصون لك»، وقال الفراء والكلبي: «لو تلين لهم فيلينون لك». والإدهان: «التليين لمن لا ينبغي له التليين»، قاله الفراء.

وقال مجاهد: «المعنى ودُّوا لو ركنت إليهم، وتركت الحق فيمالئونك» (إلى أن قال) وقال الحسن: «ودُّوا لو تصانعهم في دينـك فيصانعونكَ في دينهم… إلخ.

ثم قال القرطبي:

قلت: كُلَّها إن شاءَ الله صحيحة على مقتضى اللغةِ والمعنى، فإنَّ الإدهان : اللينُ والمصانعة، وقيل مُجاملة العدو مُمايلتُه»أ.هـ (3تفسير القرطبي 18 / 230)

[عن مواقف المداهنة: القنديل والمنديل؛ وما يجري على الدين من تبديل (4)]

ويعلق سيد قطب، رحمه الله تعالى، حول هذه الآية فيقول:

“..فهو المساومة إذن، والالتقاء في منتصفِ الطريق، كما يفعلون في التجـارة، وفـرقٌ بين الاعتقادِ والتجارة كبير..

فصاحبُ العـقيدة لا يتخلى عن شيءٍ منها، لأنَّ الصغير منها كالكبير، بل ليس في العـقيدة صغير وكـبير، إنَّها حقـيقةٌ واحدةٌ متكاملة الأجزاء، لا يطـيعُ فيهـا صاحبها أحدًا، ولا يتخلى عن شـيءٍ أبدًا.

وما كان يمكنُ أن يلتـقي الإسـلام والجـاهلية في منتصفِ الطريق، ولا أن يلتــقيا في أي طــريق”. (4في ظلال القرآن: 6 / 3658)

يقول الله عز وجل: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾ (الإنسان:24)، ويقول الله عز وجل : ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾ (الإسراء:75).

من الآيات السابقةِ يتبينُ أنَّ المداهنةَ مُحرمةٌ بجميع صورها، لأنَّ محصلةَ أعمال المداهنة هو النقص في الدين والنيل منه.

والحاصلُ أنَّ أيِّ عملٍ تتعارضُ فيه المصالح والمفاسد، فإنَّ ما كان محصلتهُ ثلم الدين أو أهله فإنَّه محرمٌ ولا يجوزُ الإقدامُ عليه، بل تجبُ فيه المداراة.

وما كان محصلتهُ الإبقاء على الدين والمحافظةِ عليه، فإنَّهُ جائزٌ فعله، بل واجبٌ في بعض الأحيان، كما توضحُ ذلك الأدلة التالية:

مشروعية المداراة

أدلة القرآن والسنة على مشروعية المداراة

أولا: أدلة القرآن

الأدلةُ على جوازِ المداراة أو استحبابها أو وجوبها أحيانًا من القرآن ما يلي:

1- يقول الله عز وجل : ﴿وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108).

ففي هـذه الآيـة الكريمة نهيٌ للمؤمنين من أن يسبُّوا المشـركين وآلهتهم، ومعلومٌ جوازُ سبِ آلهة المشركين استقلالاً، ولكن لمَّا كان يترتبُ على ذلك سبٌّ الله عز وجل وتعالى علوًّا كبيرًا، لذلك نُهي المؤمنون عن هذا العمل، وذلك من بابِ المداراة، والتي محصلتها المحافظة على الدين ولو في المآل.

2- يقول الله عز وجل في وصف المؤمنين من أهل الكتاب، ويمدحهم بذلك قوله تعالى : ﴿وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ (القصص: 54).

ذكر القرطبي في قوله تعالى:

“﴿وَيَدْرَءونَ﴾ أي: يدفعون، درأتُ إذا دفعتُ، والدرءُ الدفع. وفي الحديث «ادرءوا الحدود بالشبهات». (5ذكره الترمذي بلفظ: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) (1424))

قيل: يدفعون بالاحتمالِ والكلامِ الحسن الأذى. وقيل: يدفعون بالتوبة والاستغفار الذنوب.

وعلى الأولِ فهو وصفٌ لمكارمِ الأخلاق، أي من قالَ لهم سُـوءًا لا ينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه، وهي في صدر الإسلام، وهي مما نسختُها آيةُ السيف، وبقي حُكمها فيما دُون الكُفرِ، تتعاطاهُ أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة.

ومنه قوله، عليه الصلاة والسلام، لمعاذ رضي الله عنه: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلق حسَن». (6الترمذي (1987)، وقال: حديث حسن)، ومن الخُلق الحسن دفعُ المكروهِ والأذى، والصبر على الجفا، بالإعراض عنهُ ولين الحديث”. أ.هـ (7تفسير القرطبي: 13 / 298)

ثانيا: أدلة السنة

والدليل من السنة ما بوَّبَ له البخاري بقوله «باب المداراة مع الناس» حيث قال:

ويذكرُ عن أبي الدرداء: «إنا لنُكشرُ في وجوهِ أقوامٍ وإن قلوبنا لتلعنهم». وعن عائشة، رضي الله عنها، أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: «ائذنوا له فبئس ابن العشيرة ـ أو بئس أخو العشيرة»  فلما دخل ألانَ له الكلام، فقلت له: يا رسول الله قلتَ ما قلت ثمَّ ألنت له في القول؛ فقال: «أي عائشة: إنَّ شرَّ الناسِ منزلةً عند الله من تركه ـ أو ودَعه ـ الناس اتقاء فحشه. (8فتح الباري: 10 / 544 (دار الريان))

وعلق الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى- على هذين الحديثين بقوله (مختصرًا).

“قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفضُ الجناحِ للناسِ، ولينُ الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة.

وظن بعضهم أنَّ المداراة هي المداهنة فغلط، لأنَّ المداراة مندوبٌ إليها والمداهنة محرمة، والفرقُ: أنَّ المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهرُ على الشيءِ ويستر باطنه.

وفسرها العلماء بأنها مُعاشرةُ الفاسقِ، وإظهارُ الرضا بما هو فيه، من غير إنكارٍ عليه.

والمداراةُ هي الرفقُ بالجاهل في التعلم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطفِ القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألفه ونحو ذلك”. (9فتح الباري: 10 / 545 (دار الريان))

وعلقَ على حديث عائشة، رضي الله عنها، في باب (لم يكـن النـبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا).

“وقال القرطبي: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرهم، ما لم يؤدِّ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى.

ثم قال ـ تبعًا لعياض ـ : والفرق بين المداراةِ والمداهنةِ: أنَّ المداراةَ بذلُ الدنيا لصلاحِ الدنيا، أو الدينِ، أو هما معًا، وهي مُباحةٌ وربما استحبت؛ والمداهنةُ ترك الدين لصلاح الدنيا”أ.هـ (10فتح الباري: 10 / 469 (باختصار) (دار الريان))

[للمزيد عن دور العلماء المحوري: الأمة تفتقدكم فأين أنتم يا معشر العلماء]

كلام السلف في شأن المداراة والمداهنة

ومزيدًا للفائدة حول هذا الموضوع، ننقل مقتطفات مما ذكره الإمام أبو حاتم البستي في كتابه، روضة العقلاءِ ونزهة الفضلاء في “ذكر استعمال لزوم المداراة وترك المداهنة مع الناس”، حيثُ قال:

“أنبأنا محمد ابن قتيبة اللخمي بعسقلان، وعمر بن سعيد بن سنان الطائي بمنبج ـ قالا: حدثنا ابن واضحٍ، حدثنا يوسف بن أسباط، حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مداراة الناس صدقة».

تعليق أبي حاتم البستي

قال أبو حاتم:

“الواجبُ على العاقلِ أن يلزم المداراة مع من دفع إليه في العشرة، من غير مفارقة؛ إذ المداراةُ من المداري صدقة له، والمداهنةُ من المداهنِ تكونُ خطيئة عليه.

وقال: الواجبُ على العاقلِ أن يُداري الناس مداراة الرجل السابح في الماءِ الجـاري، ومن ذهب إلى عشرةِ الناس من حيث هو كَدَّر على نفسه عيشه، ولم تصفِ لـه مودته، لأنَّ وداد الناس لا يُستجلبُ إلاَّ بمساعدتهم على ما هُم عليه، إلاَّ أن يكون مأثمًا، فإذا كانت حالةُ معصيةٍ فلا سمع ولا طاعة.

وروى بسنده عن المدائني قال: قال معاوية رضي الله عنه: «لو أن بيني وبين الناس شعرةً ما تقطعت»؛ قيل: وكيف؟ قال: «لأنهم إن مدوها خليتها وإن خلَّو مددتها».

وكذلك روى بإسنادهِ أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال لأم الدرداء: «إذا غضبتُ فرضيني، وإذا غضبت رضيتك، فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق».”أ.هـ (11روضة العقلاء: ص70 دار الكتب العلمية)

[للمزيد من مواقف السلف في بيان الحق: قناديل من علماء السلف]

تفريق ابن القيم بين المداراة والمداهنة

ويقول الإمام ابن القيم، رحمه الله تعالى، في الفرق بين المداراة والمداهنة، وخطورة الخلط بينهما:

“وكذلك المداراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم.

والفرق بينهما: أنَّ المداري يتلطفُ بصاحبه حتى يستخرج منه الحق، أو يرده عن الباطل، والمداهنُ يتلطفُ به ليقره على الباطل، ويتركه على هواه.

فالمداراةُ لأهل الإيمان، والمداهنةُ لأهل النفاق.

وقد ضُرب لذلك مَثَلٌ مُطابق، وهو حالُ رجلٍ به قرحة قد آلمته، فجاءهُ الطبيب المداوي الرفيق، فتعرف عليه، ثم أخذ في تليينها حتى إذا نضجت، أخذ في بطّها برفقٍ وسهولة، حتى أخرج ما فيها، ثم وضع على مكانها من الدواءِ والمراهم ما يمنعُ فساده، ويقطعُ مادته، ثم تابع عليها بالمراهم التي تنبت اللحم، ثم يذرُ عليها بعد نبات اللحم ما يُنشفُ رُطوبتها، ثم يَشُدُّ عليها الرباط، ولم يزل يُتابعُ ذلك حتى صلحت.

والمداهنُ قال لصاحبها: لا بأسَ عليك منها، وهذه لا شيءَ فاسترها عن العيوب (12(العيوب) كذا بالأصل، ولعل الصواب هو: (العيون)) بخرقة، ثم ألهاهُ عنها، فلا تزالُ مادتها تقوى وتستحكمُ حتى عظُمَ فسادها”. أ.هـ (13الروح ص: 231)

من هذا البيان الشافي يتبين لنا حقيقة المداراة والمداهنة، وأنهما ضدانِ لا يجتمعان؛ إذ أن المداراةِ صفةُ مدح، وهي لأهلِ الإيمان، بينما المداهنةُ صفة ذمٍ، وهي لأهلِ النفاق.

خلاصة التعريفات

مما سبق يتبينُ لنا ذلك الفرق الواضح بين المداهنة والمداراة..
وأنَّهُ لا يجوزُ لنا بحالٍ من الأحوال أن نخلطَ بين هذين المفهومين حتى لا نثلمَ ديننا بحجةِ المداراة، أو أن نُقدم على أمورٍ يعقبها مفاسد على هذا الدين، خوفًا من أنَّ إحجامنا عنها يوقُعنا في المداهنة.

وما أجمل التفريق السـابق الذي نُقل عن الحافظ ابـن حجر في كتاب الفتح، وذلك في كتاب الأدب، في باب مداراة الناس ـ حيث أختصره في القول أن:

المداهنة

أن يتنازلَ المرءُ عن شيءٍ من دينهِ ليحافظ بذلك على دنياهُ أو عرضه.

والمداراة

أن يتنازلَ المرءُ عن شيءٍ من دنياهُ أو عرضه، ليحافظ بذلك على دينهِ، أو دنياه، أو هما معًا

 [للمزيد: قناديل مضيئة من علماء زماننا]

القاعدة الشرعية التي تستند اليها المداراة المشروعة

وأخيرًا.. نستطيع القول بأنَّ حقيقة المُداراة أو المداهنة مبنيٌ على قاعدةٍ شرعيةٍ عظيمة، ألا وهي (قاعدة سد الذرائع)، فما كان ذريعةً لثلمِ الدين أو أهله بصفةٍ خاصة أو عامة، فهو مداهنة.

وما كان ذريعةً لحفظِ الدين وأهله بصفةٍ خاصةٍ أو عامة، فهو مُداراة.

ومن أوضحِ الأمثلةِ للمداراةِ تلك القصة المشهورة عن حذافة السهمي رضي الله عنه، حيثُ دَفع القتل عن أسارى المسلمين بتقبيلهِ رأس ـ النصراني الكافر ـ ملك الروم.

خاتمة ونصيحة

إنني أنصحُ نفسي وإخواني من الدعاة، أفرادًا وجماعات، أن يُولوا هذا الموضوع أهميةً كبيرة، وأن يصنف المسلم أقواله وأعماله على ضوءِ هذه القاعدة الشرعية العظيمة، حتى لا نقع في المداهنة، المعلوم حرمتها، ظناً منا أنها مُداراة أو نُجازفُ في أمورٍ تعودُ بالمفسدةِ على هذا الدين أو أهله، ظنًّا منَّا أنَّ الإحجـام عنها مُداهنة فنكون كالمستجيرِ من الرمضاءِ بالنار.

والأمثلةُ في هذين الجانبين المتقابلين كثيرة وكثيرة، وليس هذا محلُ ذكرها، ولا هو قصدي من هذه المقالة، بل أردتُ الذكرى والتنبيه على ضرورةِ تحديد هذين المفهومين، وإزالةِ ما اشتبك بينهما، حتى يتضحَ كل مفهومٍ عن الآخر، وأنهما شيئانِ متقابلان، ولفظان متغايران لا مترادفان.

أسألُ الله عـز وجل أن يبصـرنا بديننا، وأن يُلهمنا رُشدنا؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

………………………………………….

هوامش:

  1. فتح الباري: 10 / 545.
  2. فتح الباري: 10 / 545.
  3. تفسير القرطبي 18 / 230.
  4. في ظلال القرآن: 6 / 3658.
  5. ذكره الترمذي بلفظ: (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم) (1424).
  6. الترمذي (1987)، وقال: حديث حسن.
  7. تفسير القرطبي: 13 / 298.
  8. فتح الباري: 10 / 544 (دار الريان).
  9. فتح الباري: 10 / 545 (دار الريان).
  10. فتح الباري: 10 / 469 (باختصار) (دار الريان).
  11. روضة العقلاء: ص70 دار الكتب العلمية.
  12. (العيوب) كذا بالأصل، ولعل الصواب هو: (العيون).
  13. الروح ص: 231.

اقرأ أيضا:

  1. من قيم الإيمان
  2. حكم مظاهرة الكفار على المسلمين إذا كانت للدنيا
  3. الغزو المصطلحي (1-2) دلالة المصطلحات على مفاهيم الأمم
  4. الغزو المصطلحي (2-2) تبعية المصطلحات، والصراع الفكري

التعليقات غير متاحة