ليس أنفع للعبد من المسارعة الى ربه، وارتمائه بين يديه وانطراحه فقيرا أمام ربه؛ يعترف بذله وعبوديته ويشهد قيومية الله ومعموم مشيئته ويبرأ من التوجه إلا اليه.

مقدمة

لما كانت الأمور كلها بيد الله، وهو تعالى خالق كل شيء؛ فما من نفع ولا ضر إلا والله تعالى خالقه، وهو تعالى خالق فاعله، ولا يبلغ أحدٌ ضر أحدٍ ولا نفعه إلا بإذن الله، بقدَره وعلمه. ولما كان الأمر كذلك فالفرار الى الله واللجأ اليه هو أنفع ملجأ للعباد.

وكذلك لما كانت الذنوب أصل شرور العالَم وسبب المقضيات بالشرور؛ كانت التوبة من عمل المعاصي بعمل الطاعات هي أنفع ما يدرأ عن العبد ما يخافه ومن يجتبه من العقوبات. وهذا هو الفرار الى رب العالمين بطاعته وترك معصيته.

عن النداء الحبيب ﴿فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ﴾

قال الله عز وجل في سورة الذاريات: ﴿فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الذاريات: 50]. يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسير هذه الآية:

“..لمّا تقدم ما جرى من تكذيب الأمم لأنبيائهم وإهلاكهم؛ لذلك قال الله تعالى لنبيه: قل لهم يا محمد؛ أي قل لقومك: ﴿فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي فروا من معاصيه إلى طاعته.

وقال ابن عباس: «فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم». وعنه «فروا منه إليه واعملوا بطاعته». وقال محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: «ففروا إلى الله اخرجوا إلى مكة». وقال الحسين بن الفضل: «احترزوا من كل شيء دون الله؛ فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه». وقال أبو بكر الوراق: «فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن». وقال الجنيد: «الشيطان داع إلى الباطل ففروا إلى الله يمنعكم منه». وقال ذو النون المصري: «ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر». وقال عمرو بن عثمان: «فروا من أنفسكم إلى ربكم». وقال أيضا: «فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم». وقال سهل بن عبد الله: «فروا مما سوى الله إلى الله. ﴿إني لكم منه نذير مبين﴾ أي أنذركم عقابه على الكفر والمعصية». (1تفسير القرطبي، سورة الذاريات)

وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى معلقاً على الآية نفسها:

“فلما دعا العباد إلى النظر إلى آياته الموجبة لخشيته، والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه. أي: الفرار مما يكرهه الله، ظاهراً وباطناً؛ إلى ما يحبه، ظاهراً وباطناً، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى الذكر. فمن استكمل هذه الأمور؛ فقد استكمل الدين كله، وزال عنه المرهوب، وحصل له غاية المراد والمطلوب.

وسمى الله الرجوع إليه “فرارَا”، لأن في الرجوع لغيره، أنواع المخاوف والمكاره، وفي الرجوع إليه، أنواع المحابّ والأمن، والسرور والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خِفْت منه فررت منه إلى الله تعالى، فإنه بحسب الخوف منه، يكون الفرار إليه”. (2تفسير السعدي، سورة الذاريات)

ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في “منزلة الفرار”:

“قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ﴾ فحقيقة “الفرار”: الهرب من شيء إلى شيء. وهو نوعان:

فرار السعداء: الفرار إلى الله عز وجل. وفرار الأشقياء: الفرار منه لا إليه.
وأما الفرار منه إليه ففرار أوليائه ، قال ابن عباس في قوله تعالى ففروا إلى الله: «فروا منه إليه، واعملوا بطاعته»، وقال سهل بن عبد الله: «فروا مما سوى الله إلى الله»، وقال آخرون: «اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة». (3مدارج السالكين: (1/ 469))

وأغلب أقوال المفسرين لا تخرج عن تلك المعاني السابقة في تفسير الآية؛ فكلها ترجع إلى معنى واحد في أن المقصود هو الفرار من المعصية إلى الطاعة؛ أي: الفرار من أسباب غضب الله تعالى إلى أسباب رحمته. والمراد منه الفرار من غضب الله عز وجل وما يترتب عليه من العقوبة، إلى رحمته وما يترتب عليها من المعافاة.

آيات في معنى الفرار الى الله

ومن الآيات التي تدخل في معنى الفرار واللجوء إلى الله عز وجل:

قوله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: ﴿حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيْهِ﴾ [التوبة: 118].

وقوله تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ﴿وَقَالَ إنِّي ذَاهِبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: 99].

وقوله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133].

فاللجوء إليه سبحانه والذهاب والهجرة إليه، والمسارعة إلى مغفرته وجناته؛ كلها من معاني الفرار والهجرة إليه سبحانه؛ وذلك بتوحيده والسعي إلى مرضاته وجنته هرباً من سخطه وعقوبته؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وله في كل وقت هجرتان:

هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجأ والافتقار في كل نفس إليه.

وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته”. (4مقدمة طريق الهجرتين: ص 9 ط دار الحديث)

أحاديث في معنى الفرار الى الله

ومن الأحاديث الواردة في معنى الفرار إلى الله عز وجل واللجوء إليه:

قوله: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». (5رواه مسلم (486) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود)

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لهذا الدعاء العظيم:

“فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره يستعيذ منها المستعيذ به كما يستعيذ من رجل ظلمه وقهره برجل أقوى أو نظيره. فالمستعاذ منه هو الذنوب وعقوباتها والآلام وأسبابها. والسبب من قضائه، والمسبَب من قضائه، والإعاذة بقضائه؛ فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه؛ فلم يعذ إلا بما قدَّره وشاءه وذلك الاستعاذة منه وشاءها، وقدَّر الإعاذة وشاءها. فالجميع قضاؤه وقدره وموجَب مشيئته؛ فنتجت هذه الكلمة ـ التي لو قالها غير الرسول لبادر المتكلم الجاهل إلى إنكارها وردها ـ أنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك، وأن المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ومخلوق من خلقك فما استعذت إلا بك ولا استعذت إلا منك.

وهذا نظير قوله في الحديث الآخر: «لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك»؛ فهو الذي ينجي من نفسه بنفسه ويعيذ من نفسه بنفسه، وكذلك الفرار يفر عبده منه إليه، وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدَر وأنه لا رب غيره ولا خالق سواه ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؛ بل الأمر كله لله ليس لأحد سواه منه شيء؛ كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحسنهم إليه: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾، وقال جوابا لمن قال هل لنا من الأمر شيء: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ فالملك كله له والأمر كله له والحمد كله له والشفاعة كلها له والخير كله في يديه. وهذا تحقيق تفرده بالربوبية والألوهية فلا إله غيره ولا رب سواه: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾، ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾.

فاستعِذ به منه، وفِر منه إليه، واجعل لجأك منه إليه؛ فالأمر كله له لا يملك أحد معه منه شيئا؛ فلا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا يضر سم ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته؛ يصيب بذلك من يشاء ويصرفه عمن يشاء.

فأعرَفُ الخلق به وأقومهم بتوحيده من قال في دعائه «وأعوذ بك منك»؛ فليس للخلق معاذ سواه، ولا مستعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره وسلطانه.

ثم ختم الدعاء بقوله «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» اعترافا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجلُّ من أن يحصيها أحد من الخلق أو بلغ أحد حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه، فهو توحيدٌ في الأسماء والصفات والنعوت، وذاك توحيد في العبودية والتأله وإفراده تعالى بالخوف والرجاء والاستعاذة وهذا مضاد الشرك وذاك مضاد التعطيل وبالله التوفيق”. (6شفاء العليل 2/ 265)

ومنها أيضاً: ما رواه الإمام البخاري، رحمه الله تعالى، في صحيحه عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن». (7البخاري في كتاب الفتن (7088))

خاتمة

إن المستقر هو الى الله وعنده، والمؤمن يطلب العيش هناك عند ربه تعالى وبجواره في جنته. وغدا تتساقط الانشغالات ويبقى الله تعالى وما عمل العبد له.

فالخير كل الخير في المبادة قبل ذلك والتخلي له طوعا قبل ألا تكون هناك فرصة، والخير في إسقاط كل ما يتعلق به القلب رؤية وتوجها؛ ليخلُص لربه تعالى تعلقا ونظرا، وقصدا وعملا.

………………………….

الهوامش:

  1. تفسير القرطبي، سورة الذاريات.
  2. تفسير السعدي، سورة الذاريات.
  3. مدارج السالكين: (1/ 469).
  4. مقدمة طريق الهجرتين: ص 9 ط دار الحديث.
  5. رواه مسلم (486) في الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود.
  6. شفاء العليل 2/ 265.
  7. البخاري في كتاب الفتن (7088).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة