ما بين مشاهد الفتور أمام واجبات دين الله رغم عظم مكانتها؛ وبين مشاهد الحرص الجاد على الدنيا رغم تأخر رتبتها؛ يتضح بالتأمل أي الدارين أعظم في القلوب.

مقدمة

ثمة مشهد لا أمل من التأمل فيه، ولا أمل من حكايته لأصحابي وإخواني، هو ليس مشهداً طريفاً، بل والله إنه يصيبني بالذعر حين أتذكره، جوهر هذا المشهد هو بكل اختصار “المقارنة بين الساعتين الخامسة والسابعة صباحاً” في مدينتي الرياض التي أعيش فيها، أقارن تفاوت الحالة الشعبية بين هاتين اللحظتين اللتين لا يفصل بينهما إلا زهاء مائة دقيقة فقط.

في الساعة “الخامسة” صباحاً، والتي تسبق تقريباً خروج صلاة الفجر عن وقتها تجد طائفة موفَّقة من الناس توضأت واستقبلت بيوت الله تتهادى بسكينه لأداء صلاة الفجر، إما تسبح وإما تستاك في طريقها ريثما تكبر ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾.. بينما أمم من المسلمين أضعاف هؤلاء لا يزالون في فُرُشهم، بل وبعض البيوت تجد الأم والأب يصلون ويدعون فتيان المنزل وفتياته في سباتهم.

المقارنة كاشفة

حسناً.. انتهينا الآن من مشهد الساعة الخامسة.. ضعْها في ذهنك ولننتقل لمشهد الساعة السابعة..

ما إن تأتي الساعة السابعة ـ والتي يكون وقت صلاة الفجر قد خرج ـ وبدأ وقت الدراسة والدوام؛ إلا وتتحول الرياض وكأنما أطلقت في البيوت صافرات الإنذار.. حركة موارة.. وطرقات تتدافع.. ومتاجر يرتطم الناس فيها داخلين خارجين يستدركون حاجيات فاتتهم من البارحة.. ومقاهي تغص بطابور المنتظرين يريدون قهوة الصباح قبل العمل.

أعرف كثيراً من الآباء والأمهات يودون أن أولادهم لو صلو الفجر في وقتها، يودون فقط، بمعنى لو لم يؤدها أبناؤهم فلن يتغير شئ، لكن لو تأخر الابن “دقائق” فقط، نعم أنا صادق “دقائق” فقط عن موعد الذهاب لمدرسته فإن شوطاً من التوتر والانفعال يصيب رأس والديه، وربما وجدت أنفاسهم الثائرة وهم واقفون على فراشه يصرخون فيه بكل ما أوتو من الألفاظ المؤثرة لينهض لمدرسته.

هل هناك عيب أن يهتم الناس بأرزاقهم..؟ هل هناك عيب بأن يهتم الناس بحصول أبنائهم على شهادات يتوظفون على أساسها..؟ أساسا لا .. طبعاً، بل هذا شئ محمود، ومن العيب أن يبقى الإنسان عالة على غيره؛ لكن هل يمكن أن يكون الدوام والشهادات أعظم في قلب الإنسان من الصلاة..؟

لاحِظ معي أرجوك؛ أنا لا أتكلم الآن عن “صلاة الجماعة” والتي هناك خلاف في وجوبها (مع أن الراجح هو الوجوب قطعاً)، لا.. أنا أتكلم عن مسألة لا خلاف فيها عند أمة محمد طوال خمسة عشر قرناً، لا يوجد عالم واحد من علماء المسلمين يجيز إخراج الصلاة عن وقتها، بل كل علماء المسلمين يعدّون إخراج الصلاة عن وقتها من أعظم الكبائر.

اختلاف طرق التناول

بالله عليك أعد التأمل في حال ذينك الوالدين اللذين يلقون كلمة عابرة على ولدهم وقت صلاة الفجر “فلان قم صل الله يهديك” ويمضون لحال شأنهم، لكن حين يأتي وقت “المدرسة والدوام” تتحول العبارات إلى غضب مزمجر وقلق منفعل لو حصل وتأخر عن مدرسته ودوامه.

بل هل تعلم يا أخي الكريم أن أحد الموظفين ـ وهو طبيب ومثقف ـ قال لي مرة: إنه منذ أكثر من عشر سنوات لم يصل الفجر إلا مع وقت الدوام.. يقولها بكل استرخاء.. مطبِق على إخراج صلاة الفجر عن وقتها منذ ما يزيد عن عشر سنوات.

وقال لي مرة أحد الأقارب إنهم في استراحتهم التي يجتمعون فيها، وفيها ثلة من الأصدقاء من الموظفين من طبقة متعلمة، قال لي: إننا قمنا مرة بمكاشفة من فينا الذي يصلي الفجر في وقتها؟ فلم نجد بيننا إلا واحداً من الأصدقاء قال لهم إن زوجته كانت تقف وارءه بالمرصاد (هل تصدق أنني لازلت أدعوا لزوجته تلك)..؟

يا الله .. هل صارت المدرسة ـ التي هي طريق الشهادة ـ أعظم في قلوبنا من عمود الإسلام..؟! هل صار وقت الدوام ـ الذي سيؤثر على نظرة رئيسنا لنا ـ أعظم في نفوسنا من رُكن يترتب عليه الخروج من الإسلام..؟

هذه المقارنة الأليمة بين الساعة “الخامسة” و”السابعة” صباحاً هي أكثر صورة محرجة تكشف لنا كيف صارت الدنيا في نفوسنا أعظم من ديننا؛ بل وانظر إلى ما هو أعجب من ذلك؛ فكثير من الناس الذي يُخرج صلاة الفجر عن وقتها إذا تأخر في دوامه بما يؤثر على وضعه المادي يحصل له من الحسرة في قلبه بما يفوق ما يجده من تأنيب الضمير إذا أخرج الصلاة عن وقتها.

حتى يأتي الله بأمره

كلما تذكرت “كارثة” الساعة الخامسة والسابعة صباحاً، وأحسست بشغفنا بالدنيا وانهماكنا بها بما يفوق حرصنا على الله ورسوله والدار الآخرة؛ شعرت وكأن تالياً يتلوا عليّ من بعيد قوله تعالى في سورة التوبة: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾.

ماذا بقي من شأن الدنيا لم تشمله هذه الآية العظيمة..؟! هل بلغْنا هذه الحال التي تصفها هذه الآية..؟! ألم تصبح الأموال التي نقترفها والتجارة التي نخشى كسادها أعظم في نفوسنا من الله ورسوله والدار الآخرة..؟! كيف لم يعُد يشوّقنا وعْدُ ربنا لنا في سورة النحل إذ يقول: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾..!

أخي الغالي..

حين تتذكر “شخير” الساعة الخامسة صباحاً، في مقابل “هدير” السابعة صباحاً، فأخبِرْني هل تستطيع أن تمنع ذهنك من أن يتذكر قوله تعالى في سورة الأعلى ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾.

قال لي أحد أهل الأهواء مرة “المشايخ يمارسون التهويل في تصوير الخلل الديني في مجتمعنا، ولو ركَّزو على الكبائر لعلموا أن أمورنا الدينية جيدة، والمشكلة عندنا في دنيا المسلمين فقط”. يا ألله .. كلما وضعت عبارته هذه على كفة، ووضعت الساعتين “الخامسة” و”السابعة” صباحاً على كفة، طاشت السجلات، وصارت عبارته من أتفه الدعاوى .

المقارنة بين مشهدي الساعة الخامسة والسابعة صباحاً هي أهم مفتاح لمن يريد أن يعرف منزلة الدنيا في قلوبنا مقارنة بدين الله. لا أتحدث عن إسبال ولا لحية ولا غناء “برغم أنها مسائل مهمة”؛ أتحدث الآن عن رأس شعائر الإسلام .. إنها “الصلاة” .. التي قُبضت روح رسول الله وهو يوصي بها أمته ويكرر «الصلاة..الصلاة» وكان ذلك آخر كلام رسول الله كما يقول الصحابي راوي الحديث.

بل هل تدري أين ما هو أطم من ذلك كله..؟

انحراف الأهواء الفكرية

أن كثيراً من أهل الأهواء الفكرية يرون الحديث عن الصلاة هو شغلة الوعّاظ والدراويش والبسطاء..! أما المرتبة الرفيعة عندهم فهي ما يسمونه “السجال الفكري” و”الحراك الفكري” وهي ترَّهات آراء يتداولونها مع أكواب اللاتيه.. يسمون الشبهات وتحريف النصوص الشرعية والتطاول على أئمة أهل السنة “حراك فكري”..! الصلاة التي عظمها الله في كتابه وذكرها في بضعة وتسعين موضعاً تصبح شيئاً هامشياً ثانوياً في الخطاب “النهضوي” و”الاصلاحي” .. ألا لا أنجح الله نهضة وإصلاحاً تجعل الصلاة في ذيل الأولويات.

المهم.. لنعد لموضوعنا؛ فمن أراد أن يعرف منزلة الدنيا في القلوب مقارنة بدين الله فلا عليه أن يقرأ النظريات والكتابات والأطروحات؛ عليه فقط أن يقارن بين الساعتين “الخامسة” و”السابعة صباحاً” وسيفهم بالضبط كيف صارت الدنيا أعظم في نفوسنا من الله جل جلاله.

وتأمل يا أخي الكريم في قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.. بل تأمل في العقوبة التي ذكرها جماهير فقهاء المسلمين لمن أخرج الصلاة عن وقتها حيث يصور هذا المذهب الإمام ابن تيمية فيقول:

“وسئل شيخ الاسلام ابن تيمية عن أقوام يؤخرون صلاة الليل إلى النهار، لأشغال لهم من زرع أو حرث أو جنابة أو خدمة أستاذ، أو غير ذلك، فهل يجوز لهم ذلك..؟

فأجاب: لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل، ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال، لا لحصد، ولا لحرث، ولا لصناعة، ولا لجنابة، ولا لخدمة أستاذ، ولا غير ذلك؛ ومن أخّرها لصناعة أو صيد أو خدمة أستاذ أو غير ذلك حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب، فإن تاب والْتزم أن يصلي في الوقت أُلْزِم بذلك، وإن قال: “لا أصلي إلا بعد غروب الشمس” لاشتغاله بالصناعة والصيد أو غير ذلك، فإنه يقتل”. (1الفتاوى، 22/ 28)

خاتمة

عزيزي القارئ .. هل لا زال هناك من يقول أن “مشكلتنا هي أننا عظمنا الدين وأهملنا دنيا المسلمين”..؟ بل هل قائل هذا الكلام جاد..؟!

وأي دين بعد عمود الإسلام..؟! حين تجد شخصاً من المنتسبين للتيارات الفكرية الحديثة يقول لك “مشكلة المسلمين في دنياهم لا في دينهم” فقل له فقط: قارن بين الساعة الخامسة والسابعة صباحاً وستعرف الحقيقة.

…………………………………

الهوامش:

  1. الفتاوى، 22/ 28.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة