ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عودها؛ ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدون لها مهما كلفهم من مشقة وكلف الدعوات من تعویق، هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوی الزائفة.

من الحكم الربانية في تقدير الصراع بين الحق والباطل

معرفة بعض الحكم الربانية في تقدير الصراع بين الحق والباطل وحتميته، ومن ذلك تسليط أعداء الله المجرمين على عباده المؤمنين في بعض الأزمنة أو الأمكنة.

إن الأمر كله لله

إن تقلب الكافرين في البلاد وما هم فيه من الغلبة الظاهرة على المسلمين إنما هو بقدر الله -عز وجل- ومقتضى حكمته البالغة، وليس من صنعهم ولا من عند أنفسهم (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، فالنصر منه سبحانه وحده، ومتعلق بقدره وإرادته وحكمته، فالأمر كله لله وحده، وتدبير الأمور كلها بيده سبحانه، وأن شيئا لا يكون في ملكه العلوي أو السفلي إلا بأمره وحكمته.

وبهذا الإيمان واليقين يستعلي المؤمن بإيمانه، ويستقر في قلبه أن الأمر كله لله، كي لا يشوب القلب ما يشوب ضعاف الإيمان من إساءة الظن بالله عز وجل وبوعده، وکي لا يتعلق بالأسباب والوسائل، وإنما يتعلق بمسببها وخالقها ومدبرها سبحانه، ويعتقد أن له سبحانه الحكمة البالغة في تدبير الأمور، ومنها إدالة الكافرين على المسلمين في بعض الأزمنة والأمكنة.

وهنا تنبيه مهم لابد من ذكره ألا وهو: التأكيد على أن يقيننا بأن كل شيء يحدث في هذا الكون إنما هو بقدر الله عز وجل وإرادته وحكمته. إن هذا لا يقتضي الاستكانة لتسلط الأعداء واحتلالهم للبلاد بحجة الرضا بقدر الله عز وجل كما يراه غلاة المتصوفة الجبرية، وإنما الواجب على المسلمين في هذه الأحوال مدافعة قدر الله عز وجل في تسليط الأعداء بقدره سبحانه بجهادهم ودفعهم عن ديار المسلمين، وقل مثل ذلك في دفع قدر المرض بالتداوي والحريق بإطفائه، وكل مصيبة يمكن مدافعتها، وهذا ما أوضحه الإمام ابن القيم الله بقوله:

(ودفع القدر بالقدر نوعان:

أحدهما: دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه – ولما يقع – بأسباب أخرى من القدر تقابله؛ فيمتنع وقوعه كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.

الثاني: دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، کدفع قدر المرض بقدر التداوي، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان، فهذا شأن العارفين، وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز، فإذا غلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء)1(1) «مدارج السالكين» (1/200)..

الصراع والمدافعة سنة ربانية ثايتة

إن حتمية الصراع والمدافعة بين الحق والباطل سنة ربانية مطردة ثابتة ، فقد اقتضت حكمته سبحانه أن يكون هذا الصراع والمدافعة بين أوليائه وأعدائه، ولو شاء الله -عز وجل- لانتشر دينه وعلا في الأرض دون جهد البشر، ولكن الله عز وجل لم يرد هذا، بل أراد خلافه بحكمته البالغة قال الله عز وجل: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [البقرة:253]، وقوله سبحانه: (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) [محمد:4]، وكذلك قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) [الأنعام:112]، وأيضا قوله سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251].

إدراك السنن الإلهية في الصراع والتغيير

إن من ثمرات العلم بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى والإيمان بها ومقتضياتها وآثارها والتعبد له سبحانه بها أن يدرك العبد هذه المسلمات، ويسير في ضوئها وهداها، وينسجم معها ولا يصادمها، وأن ينطلق في تفسيره الحوادث والنوازل والموقف منها من هذا الفهم الصحيح لأسماء الله عز وجل وصفاته العلا، ومن العلم بالسنن الإلهية في الصراع والتغيير، وفي المقابل فإن الجهل بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وسننه التي لا تتبدل هو مصدر التخبط والاضطراب والانحراف في التعامل مع الحوادث والمتغيرات، كما أنه مصدر الوساوس والشكوك في وعد الله عز وجل وسوء الظن به سبحانه .

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ولكن ذكر هنا نكتة نافعة، وهو أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيرا من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من مصائب، وما يصيب كثيرا من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلا، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العاقبة للتقوى، وقول الله تعالى: (وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173] – وهو ممن يصدق بالقرآن – حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط، وقال: أما في الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين، ولهم العزة والنصرة، والقرآن لا يرد بخلاف المحسوس، ويعتمد على هذا فيما إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق، فيقول: أنا على الحق وأنا مغلوب، وإذا ذكره إنسان بما وعده الله من حسن العاقبة للمتقين، قال: هذا في الآخرة فقط.

وإذا قيل له: كيف يفعل الله بأوليائه مثل هذه الأمور؟ قال: يفعل ما يشاء، وربما قال بقلبه أو لسانه، أو كان حاله يقتضي أن هذا من نوع الظلم، لكن يقول: يفعل الله ما يشاء. وإذا ذكر برحمة الله وحكمته لم يقل إلا أنه يفعل ما يشاء، فلا يعتقدون أن صاحب الحق والتقوى منصور ومؤيد، بل يعتقدون أن الله يفعل ما يشاء.

وهذه الأقوال مبنية على مقدمتين:

إحداهما: حسن ظنه بدين نفسه نوعا أو شخصا، واعتقاد أنه قائم بما يجب عليه، وتارك ما نهي عنه في الدين الحق، واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك: أن دينه باطل نوعا أو شخصا، لأنه ترك المأمور وفعل المحظور.

والمقدمة الثانية: أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره. وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا، فلا ينبغي الاغترار بذلك.

والمقدمتان اللتان بنيت عليها هذه البلية مبناهما على الجهل بأمر الله ونهيه، وبوعده و وعیده. فإن صاحبها إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق، فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور، وتارك للمحظور، وهو على عكس ذلك، وهذا يكون من جهله بالدين الحق.

وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين، ولأهل الفجور على أهل البر، فهذا من جهله بوعد الله تعالى.

أما الأول: في أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها، وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها، بل ما أكثر ما يعبد الله بما حرم ويترك ما أوجب، وما أكثر من يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه، ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون معه نوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل.

وحبك الشيء يعمي ويصم، والإنسان مجبول على محبة نفسه، فهو لا يرى إلا محاسنها، ومبغض لخصمه، فلا يرى إلا مساوئه، وهذا الجهل غالبا مقرون بالهوى والظلم، فإن الإنسان ظلوم جهول.

وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم، وتقليدهم في التصديق والتكذيب، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة . كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ) [لقمان :21].

وأما الثاني: فيا أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين بما فيه، بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى أو سبيل آخر، ویکذب بوعد الله بنصرهم.

والله سبحانه قد بين بكتابه كلا المقدمتين، فقال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]. وقال تعالى في كتابه: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 173-171].

وأخبر أن ما يحصل لهم من مصيبة انتصار العدو وغيرها، إنما هو بذنوبهم، فقال تعالى في يوم أحد: قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:165].

وذم في كتابه من لا يثق بوعده لعباده المؤمنين، وذكر ما يصيب الرسل والمؤمنين، فقال تعالى: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) [الأحزاب:10-14].

ولهذا أمر الله رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته، وهو المقدمة الأولى، وأمرهم بانتظار وعده، وهي المقدمة الثانية، وأمرهم بالاستغفار والصبر، لأنهم لابد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار، ولابد مع انتظار الوعد من الصبر فبالاستغفار تتم الطاعة ، وبالصبر يتم اليقين بالوعد، وإن كان هذا كله يدخل في مسمى الطاعة والإيمان، قال تعالى: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) [يونس: 109].

وقال تعالى: (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام: 34]..)2(2) «جامع الرسائل» (ج۲) (قاعدة في المحبة) (ص 336 – 339 باختصار)..

بعض الحكم الإلهية من وجود الصراع بين الحق والباطل

إن تدبر الآيات الكريمات في القرآن الكريم ليقودنا إلى التعرف على بعض الحكم الإلهية، من وجود الصراع بين الحق والباطل، وابتلاء عباد الله المؤمنين بعباده وأعدائه الكافرين، ومن هذه الحكم ما يلي:

أولا: حكمة الابتلاء والتمحيص

وتمییز الخبيث من الطيب التي لا تحصل إلا بصراع الحق مع الباطل، وقد مر بنا قول الله : (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران:142-141]، وقال تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)  [آل عمران:179]، وقال تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31]، وقال سبحانه: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)  [آل عمران:154]. وقال الله في الحديث القدسي: (وإنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك).

وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله بعض الحكم والغايات التي كانت في وقعة غزوة أحد التي ابتلي فيها المؤمنون بلاء عظيما، فقال:

(* ومنها : أن حكمة الله وسنته في رسله وأتباعهم جرت بأن يدالوا مرة ويدال عليهم أخرى، لكن تكون لهم العاقبة، فإنهم لو انتصروا دائما  دخل معهم المؤمنون وغيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انتصر عليهم دائما لم يحصل المقصود من البعثة والرسالة، فاقتضت حكمة الله أن جمع لهم بين الأمرين، ليتميز من يتبعهم ويطيعهم للحق وما جاءوا به ممن يتبعهم على الظهور والغلبة خاصة.

* ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبأتهم، وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا، وعرف المؤمنون أن لهم عدوا في نفس دورهم وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم. قال الله تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران:179] أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين حتی يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، کما ميزهم بالمحنة يوم أحد (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزا مشهودا، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة ..)3(3) زاد المعاد (3/197)..

ويقول سید قطب رحمه الله:

(وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصار من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريا للناس ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية)4(4) «طريق الدعوة في ظلال القرآن» (ص 359)..

وها هي الأحداث المعاصرة والنوازل المزلزلة في بلدان المسلمين في سوريا والعراق وأفغانستان وغيرها كم كشفت من المنافقين والرافضة الباطنيين وعملاء الكافرين، حيث تساقطت الأقنعة عن وجوه هؤلاء، وأظهرت هذه الابتلاءات نفاقهم وزندقتهم وخبث طويتهم وعداءهم للإسلام وأهله، وتمييز الخبيث من الطيب، وفي ذلك خير ومصلحة عظيمة لم تكن لتتحقق لولا هذه الابتلاءات والنوازل، وسبحان الله العليم الحكيم العزیز الرحيم!!

ثانيا: استخراج عبوديات أولياء الله

ما في ذلك من الخير الذي يسوقه الله إلى أوليائه بالابتلاء في استخراج عبوديتهم، وظهور صدقها في السراء والضراء، وظهور من ينصره ورسله بالغيب، وهذا لا يكون إلا بتسليط أعدائه سبحانه على أوليائه، وفي ذلك يقول ابن القيم  :

ومنها: استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء وفيها يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقا، وليسوا کمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية)5(5) «زاد المعاد» (3/198)..

ويقول في موطن آخر:

(والمقصود بالقصد الأول إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته، فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غاية الحكمة، وكان في تمكين أهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إيصال إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه، وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له، فإن تمام العبودية لا يحصل إلا بالمحبة الصادقة، وإنما تكون المحبة صادقة إذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبه والتقرب إليه، فإن بذل له روحه كان هذا أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أن من لوازم ذلك التي لا يحصل إلا بها أن يخلق ذواتا وأسبابا وأعمالا وأخلاقا وطبائع تقتضي معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها، وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها، فكل أحد يحب الإحسان والراحة والدعة واللذة، ويحب من يوصل إليه ذلك ويحصله له، ولكن الشأن في أمر وراء هذا وهو محبته سبحانه، و محبة ما يحبه مما هو أكره شيء إلى النفوس وأشق شيء عليها مما لا يلائمها، فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يحب ممن يحبه لأجل مخلوقاته فقط من المأكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإن أعطي منها رضي، وإن منعها سخط وعتب على ربه وربما شکاه وربما ترك عبادته، فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه، والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية بذل الأرواح والأموال والأولاد والقوى في جهاد أعدائه ومضرته، ولا عبودية مفارقة الناس أحوج ما يكون إليهم عنده لأجله في مرضاته، ولا يتحيز إليهم وهو يرى محاب نفسه وملاذها بأيديهم فيرضى مفارقتهم ومشاققتهم، وإيثار موالاة الحق عليهم، فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار، وأيضا فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيها على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر وجهاد النفس، ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله، وإيثارا لمرضاته وطلبا للزلفى لديه والقرب منه، وأيضا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانية بل كانت ملكية)6(6) «طريق الهجرتين» (ص 202، 203)..

ثالثا: تعريف عباده سوء عاقبة الذنوب والمعاصي

والركون إلى الحياة الدنيا والاغترار بها، ونسيان الآخرة وما فيها، وهذه من رحمة الله عز وجل وحكمته، حيث يكون الابتلاء وتسليط الكافرين على المؤمنين تمحيص لهم وسببا في رجوعهم إلى الله ومعرفتهم لعيوبهم وذنوبهم فيقلعوا عنها ويتوبوا إلى الله وينكسروا له ويرجعوا إليه ويغيروا ما بأنفسهم، ويشهد على ذلك ما حصل للمسلمين في العراق وسوريا وأفغانستان والبوسنة من الرجوع إلى دين الله عز وجل بسبب ما حل بهم من المصائب وغزو الكفار لهم. قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في حديثه عن حكمة الابتلاء الذي حصل للمسلمين في غزوة أحد:

(فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية والفشل والتنازع، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ۖ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 152]. فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم للرسول وتنازعهم وفشلهم كانوا بعد ذلك أشد حذرا ويقظة وتحرزا من أسباب الخذلان: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران:140])7(7) زاد المعاد (3/197)..

ويقول في موطن آخر: (فمن نقص إيمانه نقص نصيبه من النصر والتأييد، ولهذا إذا أصيب العبد بمصيبة في نفسه أو ماله، أو بإدالة عدوه عليه، فإنما هو بذنوبه: إما بترك واجب، أو فعل محرم، وهو من نقص إيمانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141] والتحقيق: أنها انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم)8(8) «إغاثة اللهفان» (2/182 ). .

رابعا: إن في الصراع بين الحق والباطل بيانا للحق وإظهارا لسبيل المجرمين

يقول الشيخ السعدي رحمه الله: (ومن حكمة الله تعالى في جعله للأنبياء أعداء، وللباطل أنصارا قائمين بالدعوة إليه أن يحصل لعباده الابتلاء والامتحان.. ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق وتوضيحا له، فإن الحق يستنير ويتضح إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه، فإنه -حينئذ- يتبين من أدلة الحق وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته، ومن فساد الباطل وبطلانه ما هو من أكبر المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون)9(9) «تفسير السعدي» (ص270)..

وهذا ما نشهده اليوم من اليقظة الشاملة في أوساط المسلمين بحقيقة أعدائهم، وتعرية باطلهم، وتقوية عقيدة الولاء والبراء، وشحذ الهمم لنصرة دين الله عز وجل والجهاد في سبيله، وفي هذا مكاسب كبيرة ومصلحة عظيمة، لاسيما إذا قارنا أحوال الأمة ويقظتها اليوم مما كانت تعيشه سابقا قبل هذه الأحداث من غفلة وانخداع بما يروجه الكفار والمنافقون أنهم دعاة سلام وأمن وحرية.

خامسا: ما ذكره ابن القيم رحمه الله في كلامه عن الحكم المستوحاة من غزوة أحد

(ومنها: أنه سبحانه لو نصرهم دائما وأظفرهم بعدوهم في كل موطن ، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبدا لطغت نفوسهم وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يُصلح عباده إلا السراء والضراء والشدة والرخاء والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده کما یلیق بحكمته، إنه بهم خبير بصير)10(10) «زاد المعاد» ( 3/198)..

سادسا: اصطفاء الله عز وجل لمن يشاء من عباده بالابتلاء، ليكونوا من أوليائه، ويتخذ منهم شهداء، ينعمون في جواره برضاه وجنته، وما كان لهم أن يبلغوا ذلك إلا بالمحنة والبلاء.

يقول ابن القيم رحمه الله: 

(ومنها: أنه سبحانه هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار کرامته لم تبلغها أعمالهم ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه، کما وفقهم للأعمال الصالحة التي هي من جملة أسباب وصولهم إليها)11(11) المصدر نفسه ..

سابعا: تخليص النفوس من الزهو والعجب والطغيان، و تحقیق التوكل على الله وحده وانكسارها له.

يقول ابن القيم رحمه الله:

(ومنها: أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغيانا ورکونا إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه.

ومنها: أنه إذا امتحنهم بالغلبة والكسرة والهزيمة ذلوا وانكسروا وخضعوا، فاستوجبوا منه العز والنصر، فإن خلعة النصر إنما تكون مع ولاية الذل والانكسار. قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران :123]، وقال: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا) [التوبة:25]، فهو -سبحانه- إذا أراد أن يعز عبده ويجبره وينصره کسره أولا، ويكون جبره له ونصره على مقدار ذله وانكساره)12(12) «زاد المعاد» ( 3/199)..

وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله: (وقد يبطىء النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها دون سند من الله لا تكفل النصر.. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها، ثم تكل الأمر بعدها إلى الله..)13(13) «طريق الدعوة في ظلال القرآن» (ص 359)..

ويقول أيضا: (وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل، ولا تجد لها سندا إلا الله، ولا متوجها إلا إليه وحده في الضراء.. وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله .. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به)14(14) طريق الدعوة في ظلال القرآن» (ص 359) ..

ثامنا: ما ذكره ابن القيم رحمه الله في سرده للحكم المستوحاة من غزوة أحد

(ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد ذكر سبحانه وتعالى في قوله: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:141-139])15(15) زاد المعاد (3/200)..

الهوامش

(1) «مدارج السالكين» (1/200).

(2) «جامع الرسائل» (ج۲) (قاعدة في المحبة) (ص 336 – 339 باختصار).

(3) «زاد المعاد» (3/197).

(4) «طريق الدعوة في ظلال القرآن» (ص 359).

(5) «زاد المعاد» (3/198).

(6) «طريق الهجرتين» (ص 202، 203).

(7) «زاد المعاد» (3/197).

(8) «إغاثة اللهفان» (2/182 ).

(9) «تفسير السعدي» (ص270).

(10) «زاد المعاد» ( 3/198).

(11) المصدر نفسه .

(12) «زاد المعاد» ( 3/199).

(13) «طريق الدعوة في ظلال القرآن» (ص 359).

(14) «طريق الدعوة في ظلال القرآن» (ص 359) .

(15) «زاد المعاد» (3/200).

اقرأ أيضا

آيات ناطقات بسنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل

سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

 

التعليقات غير متاحة