لما كان الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق كل ذلك لا يقوم ولا يستقيم إلا بالصبر ؛ جاء التأكيد على صفة التواصي بالصبر وأنها من صفات الناجين من الخسران ، ولم يكن من صفاتهم أنهم صابرون فحسب ؛ بل زادوا على ذلك بأن كانوا يتواصون بالصبر ويحض بعضهم بعضا عليه ، وفي قوله تعالى: (وَتَوَاصَوْا) ، معنى الاجتماع والتناصح والترابط ، كما أن فيه الدلالة على أن القيام بتكاليف الإيمان والعمل الصالح والثبات على الحق أمر شاق محتاج إلى الصبر والمصابرة والتواصي على لزومه وحث المؤمنين بعضهم بعضا عليه.

بعض المسائل المتعلقة بالصبر

وأصل الصبر: الحبس والكف ، وأما حقیقته فهو: ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى1(1) عدة الصابرين ص 10 .، والمراد بالتواصي بالصبر هنا التواصي بطاعة الله عز وجل ، ويدخل في ذلك ترك معاصيه والصبر على بلائه ، وترك الجزع والتسخط ؛ يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى: «وقوله : (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يقول: وأوصی بعضهم بعضا بالصبر على العمل بطاعة الله»2(2) تفسير الطبري (سورة العصر)..

وقال في فتح القدير: « (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) أي بالصبر عن معاصي الله سبحانه ، والصبر على فرائضه ، وفي جعل التواصي بالصبر قرينا للتواصي بالحق دليل على عظيم قدره وفخامة شرفه ، ومزید ثواب الصابرين على ما يحق الصبر عليه»3(3) فتح القدير (سورة العصر)..

ولأهمية الصبر والتواصي به ، وارتباطه الوثيق بالإيمان والعمل الصالح وحاجة التواصي بالحق إليه ، ولكونه أصلا عظيما من أصول النجاة لا تتحقق إلا به ؛ رأيت التوسع في بعض المسائل المتعلقة به والتي لا بد منها في الحديث عن الصبر والتواصي به ، ومن هذه المسائل ما يلي:

المسألة الأولى: التواصي بالصبر هو في الحقيقة من التواصي بالحق

وهو من الأعمال الصالحة ؛ وإنما أفرد ذكره هنا لأهميته والتأكيد عليه ، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام ، وهذا كثير في كتاب الله عز وجل وفي اللغة ؛ يقول الشوكاني رحمه الله تعالى : « وأيضا التواصي بالصبر مما يندرج تحت التواصي بالحق ؛ فإفراده بالذكر وتخصيصه بالنص عليه من أعظم الأدلة الدالة على إنافته على خصال الحق ومزيد شرفه عليها وارتفاع طبقته عنها»4(4) فتح القدير ( سورة العصر ) ..

ويقول ابن عاشور في تفسيره : « والتواصي بالصبر عطف علی التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضا ، وإن كان خصوصه خصوصا من وجه لأن الصبر تحمل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق»5(5) التحرير والتنوير 15/533..

المسألة الثانية : التواصي بالصبر يعني التواصي على نوعين من الصبر

1- الصبر على المقدور کالمصائب . 2- الصبر على المشروع بفعل الأوامر وترك النواهي .

ويفصل القول في ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول : « والصبر نوعان : نوع على المقدور کالمصائب ، ونوع على المشروع وهذا النوع أيضا نوعان : صبر على الأوامر وصبر على النواهي ؛ فذاك صبر على الإرادة والفعل ، وهذا صبر عن الإرادة والفعل .

فأما النوع الأول من الصبر فمشترك بين المؤمن والكافر ، والبر والفاجر لا يثاب عليه لمجرده إن لم يقترن به إيمان واختيار ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم في حق ابنته «مرها فلتصبر ولتحتسب»6(6) طرف من حديث أخرجه البخاري (7377) ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه . ، وقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود:11] وقال تعالى : (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) [آل عمران : 120]، وقال: (بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) [آل عمران: 125] ، فالصبر بدون الإيمان والتقوى بمنزلة قوة البدن الخالي عن الإيمان والتقوى ، وعلى حسب اليقين بالمشروع يكون الصبر على المقدور ، وقال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ) [الروم: 60] فأمره أن يصبر ولا يتشبه بالذين لا يقين عندهم في عدم الصبر ، فإنهم لعدم يقينهم عُدم صبرهم وخفوا واستخفوا قومهم ، ولو حصل لهم اليقين والحق لصبروا وما خفوا ولا استخفوا ، فمن قل يقينه قل صبره ، ومن قل صبره خف واستخف ، فالموقن الصابر رزين ؛ لأنه ذو لب وعقل ، ومن لا يقين له ولا صبر عنده خفيف طائش تلعب به الأهواء والشهوات كما تلعب الرياح بالشيء الخفيف والله المستعان»7(7) بدائع التفسير : 5/ 330-331..

المسألة الثالثة : الصبر بمفرده لا ينفع صاحبه

إذا لم يكن مع التواصي بالصبر تواصي بالحق فإن الصبر بمفرده لا ينفع ، وهذا هو سر الارتباط الوثيق بين التواصي بالحق والتواصي بالصبر ؛ حيث إن التواصي بالصبر لا يجدي إذا لم يكن على الحق والتقوى والعمل الصالح ؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: « فلابد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السيء المحظور ، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى وعلى ما يقال ، والصبر على ما يصيبه من المكاره ، والصبر عن البطر عند النعم ، وغير ذلك من أنواع الصبر ، ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويتغذى به وهو اليقين»8(8) مجموع الفتاوی 28/153..

ويقول في موطن آخر : « قال إبراهيم الحربي : أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، ولا بد من الصبر في جميع الأمور قال تعالى : (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر:1-3] فلا بد من التواصي بالحق والصبر ؛ إذ إن أهل الفساد والباطل لا يقوم باطلهم إلا بالصبر عليه أيضا ، لكن المؤمنين يتواصون بالحق والصبر ، وأولئك يتواصون بالصبر على باطلهم كما قال قائلهم : (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ) [ص:6] فالتواصي بالحق بدون الصبر كما يفعله الذين يقولون آمنا بالله فإذا أوذي أحدهم في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ، والذين يعبدون الله على حرف فإن أصاب أحدهم خير اطمئن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة .

والتواصي بالصبر بدون الحق كقول الذين قالوا: (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) ؛ كلاهما موجب للخسران ، وإنما نجا من الخسران الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وهو موجود في كل من خرج عن هؤلاء من أهل الشهوات الفاسدة ، وأهل الشبهات الفاسدة أهل الفجور وأهل البدع)9(9) قاعدة في المحبة 3/208..

المسألة الرابعة : التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة

وكما قرن الله سبحانه بين التواصي بالحق والتواصي بالصبر فقد قرن أيضا بين التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة كما في قوله تعالى : (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 17] والتواصي بالمرحمة هو من التواصي بالحق ، ويبين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى سر اقتران الصبر بالرحمة وأقسام الناس في ذلك فيقول : «وقرن بين (الرحمة والصبر) في مثل قوله تعالى : (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزکاة وغيرها ، فإن القسمة أيضا رباعية ، إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة ، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين . مثل كثير من النساء ومن يشبههن . ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع ، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم ، كما قال الفقهاء في المتولي : ينبغي أن يكون قويا من غير عنف، لينا من غير ضعف ، فبصبره يقوى ، وبلينه يرحم ، و بالصبر ينصر العبد ؛ فإن النصر مع الصبر ، وبالرحمة يرحمه الله تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء»، وقال: «من لا يرحم لا يُرحم» وقال: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» وقال: «الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» والله أعلم»10(10) مجموع الفتاوی 10/677..

المسألة الخامسة : على أي شيء يكون الصبر؟

الصبر المشروع : يكون على فعل الواجب والمستحب وترك المحرم والمكروه ، وما سوى ذلك من الصبر فقد يكون محرما أو مكروها أو مباحا كما يفصل ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله: (وهو – أي الصبر – ينقسم بهذا الاعتبار . أي باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به – إلى واجب ومندوب ومحظور ومكروه ومباح.

فالصبر الواجب ثلاثة أنواع : أحدها: الصبر عن المحرمات ، والثاني ، الصبر على أداء الواجبات ، والثالث : الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها .

وأما الصبر المندوب : فهو الصبر عن المكروهات ، والصبر على المستحبات ، والصبر عن مقابلة الجاني بمثل فعله .

وأما المحظور فأنواع : أحدها الصبر عن الطعام والشراب حتى يموت وكذلك الصبر عن الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة حرام إذا خاف بترکه الموت ، قال طاووس وبعده الإمام أحمد : “من اضطر إلى أكل الميتة والدم فلم يأكل فمات دخل النار” .

فإن قيل : فما تقولون في الصبر عن المسألة في هذه الحال ؟ قيل : اختلف في حكمه هل هو حرام أو مباح على قولين هما لأصحاب أحمد وظاهر نصهما أن الصبر عن المسألة جائز ، فإنه قيل له إذا خاف إن لم يسأل أن يموت ، فقال : لا يموت ؛ يأتيه الله برزقه ، ومتى علم الله ضرورته وصدقه في ترك المسألة قيض الله له رزقا ، فأحمد منع من وقوع المسألة ، وقال كثير من أصحاب أحمد والشافعي : يجب عليه المسألة وإن لم يسأل كان عاصيا لأن المسألة تضمن نجاته من التلف .

ومن الصبر المحظور : صبر الإنسان على ما يقصد هلاکه من سبع أو حيات أو حريق أو ماء أو كافر يريد قتله ، بخلاف استسلامه وصبره في الفتنة وقتال المسلمين فإنه مباح له بل يستحب كما دلت عليه

النصوص الكثيرة ، وهذا بخلاف قتل الكافر فإنه يجب عليه الدفع عن نفسه لأن من مقصود الجهاد أن يدفع عن نفسه وعن المسلمين ، ولا يجوز الصبر على من قصده أو حرمه بالفاحشة .

وأما الصبر المكروه : فله أمثله : أحدها أن يصبر عن الطعام والشراب واللبس وجماع أهله حتى يتضرر بذلك بدنه ، الثاني صبره عن جماع زوجته إذا احتاجت إلى ذلك ولم يتضرر به ، الثالث صبره على المكروه الرابع صبره عن فعل المستحب.

وأما الصبر المباح : فهو الصبر عن كل فعل مستوي الطرفین خُیر بين فعله وترکه والصبر عليه .

وبالجملة فالصبر على الواجب واجب ، وعن الواجب حرام ، والصبر عن الحرام واجب وعليه حرام ، والصبر على المستحب مستحب وعنه مكروه ، والصبر عن المكروه مستحب وعليه مكروه ، والصبر عن المباح مباح ، والله أعلم)11(11) عدة الصاہرین ص22 -23 (باختصار). .

الهوامش

(1) عدة الصابرين ص 10 .

(2) تفسير الطبري (سورة العصر).

(3) فتح القدير (سورة العصر).

(4) فتح القدير ( سورة العصر ) .

(5) التحرير والتنوير 15/533.

(6) طرف من حديث أخرجه البخاري (7377) ومسلم (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه .

(7) بدائع التفسير : 5/ 330-331.

(8) مجموع الفتاوی 28/153.

(9) قاعدة في المحبة 3/208.

(10) مجموع الفتاوی 10/677.

(11) عدة الصاہرین ص22 -23 (باختصار).

اقرأ أيضا

سورة العصر وأصول النجاة الأربعة

التواصي بالحق وعلاقته بالإيمان والعمل الصالح

جهاد النفس في الصبر على الدعوة وبيان الحق وأذى الخلق

 

التعليقات غير متاحة