إن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه، ولهذا كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما، لا تسأل نبيها لم أمر الله بذلك؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام.

من الثمار العظيمة للتسليم

إن للتسليم لله عز وجل في أخباره وأحكامه الشرعية والقدرية والإخلاص له وعبادته وحده سبحانه آثارا طيبة وثمارا يانعة في الدنيا والآخرة، يذوق المسلم حلاوتها، ويتفيأ ظلالها، ويشعر فيها بالقيمة الحقيقية للحياة وغايتها، التي يرحل كثير من الناس من هذه الدنيا ولم يذوقوا لها طعما. ولذا فإن أعظم ثمرة للتسليم لله عز وجل يمن بها سبحانه على من يشاء من عباده، هو أن يدخله جنة الدنيا قبل جنة الآخرة. وجنة الدنيا هي السعادة القلبية، والطمأنينة النفسية، وتذوق حلاوة الإيمان، وجنة الآخرة التي فيها ما تشتهيه النفوس وتلذه الأعين، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

الثبات أمام الشبهات وسلامة القلب من الحيرة والشكوك واضطراب الموازين

لقد ذكر الله في كتابه الكريم انقسام الناس أمام الشبهات، وذلك في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران:7-8] ، فالناس أمام المتشابه مما لا قدرة للعقول على إدراکه قسمان:

القسم الأول: أهل الزيغ والهوى، فهؤلاء يتبعون المتشابه، ويؤولون الأخبار والأحكام بما يوافق عقولهم، ومآل هؤلاء إلى الحيرة والشكوك، ووقوعهم في الاضطراب واختلال الموازين.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن هؤلاء المتحيرين الذين كثر في باب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم، بما انتهى إليه من مرامهم، وأنه الشك والحيرة، حيث يقول:

لعمري قد طفت في تلك المعاهد كلها            وسیرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر                    على ذقن أو قارعا سن نادم

وقال الآخر: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. وقال آخر: أكثر الناس شكا عند الموت أصحاب الكلام)1(1) الصواعق المرسلة 1/166-168..

القسم الثاني: أهل العلم والإيمان الراسخون في العلم، الذين امتلأت قلوبهم من الإيمان بالله عز وجل ، والتسليم لأخباره وأحكامه، لا يعترضون على أخباره بكيف، ولا على أحكامه بلماذا؟ بل هم کما وصفهم الله عز وجل بقوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]، فلا يعارضون بعض الكتاب ببعض، ولا يعترضون على آیاته مما لا تدركه عقولهم بشيء، وإنما هو التسليم والإذعان واليقين والانقياد، وكفى بذلك اطمئنانا وإخباتا، يسلم صاحبه بذلك مما يعتري أصحاب القلوب المريضة الزائغة من الحيرة والاضطراب والشكوك والوساوس، وهذا التسليم والإذعان لله عز وجل إنما فاز به من فاز بمعرفته لربه عز وجل ومعرفة أسمائه الحسنى ومعانيها وآثارها في الخلق والأمر، التي تثمر في القلب تعظيم الله عز وجل وإجلاله، والإخبات له، والرضا بحكمه، والحياء منه، والمحبة له سبحانه وتعالى.

وهؤلاء قد من الله عز وجل عليهم بأعظم نعمة وهي نعمة اليقين والتسليم، وسلامتهم من الحيرة والاضطراب واختلال الموازين .

وصايا واجبة للمغتربين

وبمناسبة الكلام عن هذه الثمرة العظيمة من ثمار التسليم لله عز وجل أوصي إخواني المسلمين ولا سيما الدارسين في بلاد الغرب أو الذين قد يواجههم بعض الشبهات في بعض الكتب أو في الشبكة العنكبوتية التي يثيرها بعض الكفار أو المنافقين أو أصحاب القلوب المريضة.. أوصيهم بالوصيتين التاليتين:

الوصية الأولى..الحذر من مخالطة أهل الأهواء والبدع

الحذر من أهل الشبهات والزيغ، وهجر كتبهم ومواقعهم أو الجلوس معهم، ولا سيما لمن بضاعته في العلم الشرعي ضعيفة مزجاة، فكم ممن ألقى بسمعه لهم، أو قرأ في كتبهم ومواقعهم، فعلقت بعض شبهاتهم في القلب، ولم يستطع بعد ذلك التخلص منها، فكانت سببا لفساد دينه وسوء عاقبته، عافانا الله من ذلك.

ويقابل ذلك الحرص على طلب العلم الشرعي ولزوم أهله المتبعين للسلف الصالح، ولزوم منهجهم، والكف عن تتبع الشبهات وعن كل ما لم يكلفنا الله عز وجل العلم به: إما لعدم حاجتنا إليه، أو لقصور عقولنا عن إدراکه.

وهذا المنهج هو الذي سار عليه سلفنا الصالح، وأوصوا به أتباعهم.

– يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم)2(2) السنة للالكائي 4/704 ..

– وكان ابن طاوس جالسا فجاء رجل من المعتزلة: فقال: فجعل يتكلم، فأدخل ابن طاوس أصبعيه في أذنيه، قال، وقال لابنه: أي بني أدخل أصبعك في أذنيك واشدد، لا تسمع من كلامه شيئا.

قال معمر: يعني أن القلب ضعیف3(3) أخرجه ابن بطة في الإبانة (2/ 215 رقم 1778)، وعبدالرزاق في مصنفه (11/125 رقم 20099)..

– وذكر ابن عبد البر رحمه الله تعالى في كتاب العلم قال: قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فولع بي الشيطان في ذكر عیسی بن مريم عليه السلام وكيف خلقه الله تعالى؟ ونحو هذا. فشكوت ذلك إلى شيخ فقال لي: ابن وهب قلت: نعم. قال: اطلب العلم فكان سبب طلبي العلم4(4) سير أعلام النبلاء 9/224..

الوصية الثانية..المنهج الأمثل في الرد على الشبهات

إذا وافق وأن أثيرت شبهة حول خبر غيبي أو حكم شرعي کتشریع تعدد الزوجات أو الرق وغيرهما من مشبه كافر أو منافق أو ضعيف الإيمان أو سائل متأثر بشبهة، فإن المتعين في هذه الحالة التوجه لمثير الشبهة بالسؤالات التالية:

السؤال الأول:

يسأل مثير الشبهة: هل أنت مؤمن بوجود الله عز وجل ، وأنه خالق كل شيء، المستحق للعبادة وحده لا شريك له؟ فإن أجاب بالنفي، فمن العبث أن يضيع الوقت في الرد على شبهة شرعية لا يؤمن مثيرها بوجود شارعها، وأنه خالق الخلق المستحق للعبادة وحده. وإنما ينبغي أن يتوجه الكلام إلى بسط الأدلة على وجود الله تعالى، وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له.

وإن كان يؤمن بوجود الله عز وجل وأنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فحينئذ يطرح عليه السؤال الثاني.

السؤال الثاني:

ألا وهو: هل أنت مؤمن بأن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من الله عز وجل إلى الثقلين الإنس والجن، وأن هذا القرآن الذي يتضمن الأخبار والأحكام هو کلام الله عز وجل ووحيه، أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فإن أجاب بالنفي فمن العبث ضياع الوقت في مناقشة شبهة شرعية لا يؤمن مثيرها بأن هذا الشرع الذي تضمنه القرآن أو جاءت به السنة الصحيحة من عند الله !! بل ينبغي أن يتوجه النقاش إلى إثبات أن القرآن كلام الله عز وجل ، والشرع الذي فيه هو شرعه، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الوحي الثاني، لأنه لا ينطق عن الهوى. فإن كان يؤمن بأن هذا الشرع الذي تضمنه القرآن هو من عند الله عز وجل ، وهو كلامه ووحيه إلى رسوله، فحينئذ تسهل معالجة الشبهة بإلقاء السؤال الأخير.

السؤال الثالث:

هل تؤمن بأن الله عز وجل الخالق المدبر له الأسماء الحسني العالم بما خلق وبما يصلح لخلقه من تشريع. الحكيم فيما يخبر به ويحكم، الكامل في علمه وحكمته ولطفه ورحمته وقدرته وعظمته. فإن كان عنده شبهة في ذلك أزيلت الشبهة ببيان معاني أسماء الله الحسني وآثارها، فإن آمن بذلك سهل علاج الشبهة بقولنا: إن شجرة الإيمان لا تقوم إلا على ساق التسليم والإذعان والانقياد، وانتهينا إلى قول الراسخين في العلم ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]، وأنه ما من أمر حرمه الله عز وجل على عباده إلا وفيه شر وعنت عليهم، وما من أمر أحله الله لهم أو أوجبه عليهم إلا وفيه خير ومصلحة وتيسير لهم، سواء أدركت العقول حكمته أم لم تدرك.

فإن وصل صاحب الشبهة إلى هذه النتيجة وآمن بها وانقاد لها، فإنه ينظر إلى ما بقي في نفسه من تطلع إلى بعض الحكم الربانية من هذا التشريع أو ذاك، فإن كانت هذه الحکم معروفة فإنها تتبين له، وإن لم تكن معروفة فالرجوع إلى التسليم والانقياد والقبول من غير حرج ولا شك في ذلك.

التسليم والانقياد والقبول حال ورثة الأنبياء

وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (إن مبنی العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة، فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها. ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها، وكان رسولها أعظم في صدرها من سؤالها عن ذلك، كما في الإنجيل: یا بني إسرائيل لا تقولوا لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا بم أمر ربنا؟ ولهذا كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولا ومعارف وعلوما، لا تسأل نبيها لم أمر الله بذلك؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام. وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلا بتعظیم أمره ونهيه. فعلى قدر تعظيم العبد لله سبحانه یکون تعظيمه لأمره ونهيه، وتعظيم الأمر دليل على تعظيم الآمر. وأول مراتب تعظیم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة والمبادرة به برغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورا به، بحيث لا يتوقف الإنسان على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فهذا من عدم عظمته في صدره، بل يسلم لأمر الله وحكمته ممتثلا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر. فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر أو فقهها العقل كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال. وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده ولم يقدح في امتثاله، فالمعظم لأمر الله يجري الأوامر والنواهي على ما جاءت، لا يعللها بعلل توهنها، وتخدش في وجه حسنها، فضلا عن أن يعارضها بعلل تقتضي خلافها، فهذا حال ورثة إبليس، والتسليم والانقياد والقبول حال ورثة الأنبياء)5(5) الصواعق المرسلة 4/1562..

الهوامش

(1) الصواعق المرسلة 1/166-168.

(2) السنة للالكائي 4/704 .

(3) أخرجه ابن بطة في الإبانة (2/ 215 رقم 1778)، وعبدالرزاق في مصنفه (11/125 رقم 20099).

(4) سير أعلام النبلاء 9/224.

(5) الصواعق المرسلة 4/1562.

اقرأ أيضا

التسليم لله رب العالمين..ثمار وآثار (1)

أركان التسليم لله رب العالمين

أصل الإسلام والتسليم .. لماذا الحديث عنه؟

 

التعليقات غير متاحة