التدرج سنة، للأحياء وللمعاني، والانحراف القائم اليوم يوجب بُعد النقلة. ولهذا وذاك يجب العزم كما يجب التدرج، لكن في سياق صادق وعزم جازم وإرادة واضحة.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد

فطر الله تعالى الحياة على سُنة التدرج، وجعله تعالى سنةً في الخلق، وسنة في التعلم، وسنة في نمو للأحياء، وفي نمو المعاني للقلوب.

وذكر تعالى تلك السنة في نمو أصحاب رسول الله ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ..﴾ (سورة الفتح: 29)

وعند توغل المجتمعات في انحراف متراكم، متماسك! قد خطوا فيه عقدةً عقدةً؛ قد أحكمها المنحرفون على تراكم العقود أو القرون؛ فهنا لا بد من عزم وإرادة قوية لبُعد النقلة، كما يجب التدرج ليكون الأمر في المستطاع المقدور، ولتقبله النفوس فلا تنفر منه جملة واحدة.

ولهذا التدرج شروطه ليكون صادقا، ولنا في سلفنا أسوة.

موقف للعبرة

روى لنا صاحب الحلية أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه عمر بن عبد العزيز فقال: «يا أمير المؤمنين! إن لي إليك حاجة؛ فأخْلِني. وعنده مسلمة بن عبد الملك؛ فقال له عمر: أسِرٌّ دون عمك؟ فقال: نعم!

فقام مسلمة وخرج، وجلس بين يديه فقال له: يا أمير المؤمنين! ما أنت قائل لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم تُمِتْها، أو سنة لم تُحْيِها؟ فقال له: يا بني أشيء حَمَّلَتْكَهُ الرعية إليَّ، أم رأي رأيته من قِبَل نفسك؟ قال: لا واللهِ، ولكن رأي رأيته من قِبَل نفسي، وعرفت أنك مسؤول؛ فما أنت قائل؟

فقال أبوه: رحمك الله وجزاك الله من ولد خيراً؛ فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير.

يا بني! إن قومك قد شدُّوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريدُ مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء، واللهِ لَزوالُ الدنيا أهون عليَّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم.

أَوَ ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين؟». (1حلية الأولياء 5/ 382)

دروس مهمة

وبعد هذا الحوار الطيب الحكيم بين خليفة المسلمين العادل وابنه الورع الزاهد رحمهما الله تعالى يمكن لنا تسجيل الدروس الآتية:

البطانة الصالحة

دور البطانة الصالحة للحاكم المسلم وبخاصة إذا كانت من قرابته كما هو ظاهر في نصح هذا الابن البار المشفق على أبيه الخليفة العادل، وهذا من علامة توفيق الله للحاكم المسلم.

ولكن متى يظهر أثر البطانة الصالحة؟

إنها لا تظهر إلا إذا وجد الاستعداد الصادق عند الحاكم؛ بحيث يظهر عليه حب أهل الخير والسعي إلى تقريبهم، وبُغض أهل الشر والنفاق والنفور منهم، وأما إذا وجد العكس من ذلك فإن الأثر سيكون ضعيفاً؛ بل وربما كان معدوماً.

التماس العذر

التماس العذر لمن لم يتمكن من أهل الخير من الإصلاح السريع وتغيير كل الفساد الذي يقوم به مَنْ تحت أيديهم، ويكفينا أن نرى السعي الجاد للتغيير من قِبَلهم، وأن نرى الخير يزداد والشر يتناقص يوماً بعد يوم ولو كان ذلك قليلاً.

وهذا الكلام يسري من باب أوْلى على من تولى من أهل الخير الحكم في بلد من بلدان المسلمين وأراد صادقاً أن يحكم بشريعة الله وأن يحارب الفساد العظيم في مرافق الحياة الذي ورثه ممن سبقه؛ فهنا يجب أن نطبق ما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لابنه حينما طالبه بالتغيير السريع الشامل، ونلتمس العذر فيما يقوم به الحاكم الصادق من التغيير المتدرج، ويكفي أن نلمس الصدق والإرادة الحازمة منه في التغيير.

قرينة البطانة

وأوضح القرائن على ذلك الصدق في العزيمة والبدء في إبعاد البطانة الفاسدة عن مواقع التأثير، وتقريب البطانة الصالحة .

أما أن يبقى أهل السوء والفساد في مواقعهم ويظل أهل الصلاح مبعَدين فإن هذا يدل على عدم المصداقية وكذب ما يعلن؛ وإنما هو للاستهلاك وكسب عواطف المسلمين.

وهذا يذكرنا بما نسمعه بين الفينة والأخرى من أن حاكم البلد الفلاني قد أعلن تطبيق الشريعة وتحكيمها فيغتر بهذا الادعاء من يغتر من المسلمين مع أن القرائن تدل على كذبه ونفاقه؛ وذلك لأنه لو كان صادقاً لبدأ أول خطوة في التغيير ألا وهي تغيير البطانة الفاسدة، وإبدالها ببطانة صالحة تستلم مواقع التغيير، وهنا يُلتَمَسُ العذر له في التدرج وعدم العجلة في التغيير.

أما أن يبقى أهل الشر في تسلطهم، ويظل أهل الخير مبعَدين أو مغيَبين في السجون، والشر والفساد في زيادة واستفحال، وهو أبعد ما يكون عن الإسلام؛ فإن هذا لا يجدي شيئاً، وإنما هو مجرد نفاق ولعب على جهلة المسلمين ومغفليهم.

ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ حيث يقول: «لست بالخِبِّ ، ولا الخِبُّ يخدعني»

التدرج في دعوة الناس

وعدم مطالبتهم بالتغيير السريع في أنفسهم؛ وذلك لما ألِفوه وتلبّسوا به دهراً طويلاً من الزمان من المنكرات والمخالفات، وضرورة أخذهم بالرفق والبدء بالأهم فالمهم .

ومما يدخل في ذلك ما ينبغي أن يقوم به المربّون في تربيتهم لأولادهم وطلابهم، وأن لا يطالبوهم في بداية تربيتهم بما يطالبون به أنفسهم أو من أمضى سنوات في التربية والتزكية، ولذلك قيل:

“على الزاهد أن لا يجعل زهده عذاباً على أهله وإخوانه”.

ومما يلحق بذلك أيضاً التدرج في دعوة الداخلين في الإسلام حديثاً، وأن يبدأ معهم بالأهم وهو توحيد الله عز وجل وبيان ما يضرهم من الشرك بجميع أنواع، ثم إعلامهم بواجبات الإسلام العينية ومنهياته.

ولا يعني هذا التسويفَ، واتخاذ التدرج وسيلة للإبطاء بالالتزام بأحكام الله تعالى، وتطبيق شرعه؛ بل المقصود الرفق بالمدعو وأن يبدأ بالأهم الذي هو الأصل في النجاة من عذاب الله تعالى؛ إذ ما قيمة أن يصلي الداخل في الإسلام أو يحج أو يصوم وهو لا يعرف التوحيد، أو لا يزال متلبساً بما كان عليه في ديانته السابقة من شرك بالله تعالى؟

خاتمة

لم يترك هذا الدين العظيم أمرا يحتاجه المسلمون في عقيدةٍ أو حركةٍ بهذه العقيدة، أو حكم من الأحكام في أي مجال إلا وأوضحه.

وقد رأينا تلك السياسة الشرعية في التدرج كيف تقبلها النفوس ويكون التغيير في طاقة الجموع إذا وجدوا صفوة صادقة تقود أمتها الى التغيير المنشود.. والله تعالى الموفق.

________________________

هوامش:

  1. حلية الأولياء 5/ 382.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة