التعب بالعمل والجهد ينفع صاحبه إن صحِبه الإخلاص، فإن انتفى الإخلاص سقط الجهد وضاع التعب، ومن علاج الرياء اليقين بالآخرة، وأثر المخلص يدوم لأن عمله اتصل بالحي الذي لا يموت.

خيبة السعي

مجرم هو .. ومسكين! حابط العمل خائب السعي .. يُطرد يوم القيامة نحو من عمل من أجلهم؛ فهل سيجد عندهم شيئا..؟

ذلك المتشتت القلب والزائغ العين والباحث بأذنه عن الثناء البشرى.. يرتوي قلبه بثناء الخلق غير مهموم برضا الخالق.. تجده غير موضوعي بل سمة عمله البهرجة والطبل والزمر ليسمع الخلق به.

يضعف لو عمل ولم يعلم به أحد، ومصيبة أخرى لو عمل ولم يشكره الناس أو لم يثنوا عليه.

يعاقبه الله تعالى بالهَمّ والضعف وقلة التوفيق مع الخذلان مما يطلب من الناس.. وإن ناله فنكدًا! ويقال له يوم القيامة “قد رضيت بثناء الناس وعملت لهذا، وقد نلتَه؛ فماذا تطلب اليوم؟.”

لا يبحث قلبه عن سمع الله به وبصره إياه وعلمه به، غير مهموم بإرضاء رب العالمين طالما رضي الخلق ولا ينشغل ولا يهتم ولا يخاف من سخطه تعالى بحيث يشغل قلبه.

تعاظم الرياء حتى النفاق

يقول أهل العلم عن هذا الرياء:

“وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله تعالى، أو نوى شيئًا غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته”. (1)

ويقول كذلك أهل العلم:

“أما إذا كان لا يأتي بأصل العبادة إلا رياء ولولا ذلك ما صلى ولا صام ولا قرأ القرآن فهو مشرك شركًا أكبر، وهو من المنافقين الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ إلى أن قال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ (النساء: 142- 146).

وصدق فيهم قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» (2).

“والشرك الأصغر لا يخرج من ارتكس فيه من ملة الإسلام ولكنه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر”. (3)

مشكلة المرائي عدم تصوره الآخرة وعدم تصوره تصورًا كاملاً معنى لقاء الله تعالى، ولم يمتلئ قلبه بإرادة وجه الله تعالى واليقين به بحيث يعظم ربه في قلبه عظمة يحتقر معها أن يلتفت إلى أو يريد ما سواه.

من دواء كتاب الله تعالى .. اليقين بالآخرة وامتلاء القلب بها

وذلك على مآخذ؛ أيها يصيب قلبك فالتزمه.

رجاء لقاء الله

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف: 110)، فالعمل على غير هذا حابط لا ينفع صاحبه.

لكن إن كان من نخاطبه بهذا الكلام لا يهتم بالآخرة فلن ينتفع ولن ينجع فيه شيء من هذا.

ولهذا فأول الدواء في أول الجملة: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾ فإن كان الإنسان لا يرجو هذا اللقاء “بمعنى لا يأمل فيه أو بمعنى لا يخافه على وجهي التفسير، وكلاهما حق”

فلينظر أحدنا كثيرًا كثيرًا في هذه الكلمة: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ﴾ فإن لم تكن موجودة كما ينبغي فهنا الخلل وأصل الداء وإصلاحه أول العلاج.

البحث عن النجاة

﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ (الليل: 14 – 21).

فالذي ينجو من النار التي تلظى التي أنذرها الله تعالى خلقه هو الأتقى الذي له ظاهر وباطن:

أما الظاهر فهو: ﴿يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾، فهذا في الصدقة؛ وكذلك غيرها؛ فهو “تمثيل للعام ببعض أفراده”.

وأما باطن نفس هذا العمل فهو: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾. وكان هذا العمل بظاهره وباطنه من أجل الهروب من هذه النار التي تلظّى؛ فلو لم يكن منشغلاً بها وبالهروب منها ولو لم يكن مستحضرًا لها فلن يكون هناك هذا العمل والإخلاص.

ثم إن المقصود بالآيـات أن عملـه على هـذا المنـوال في الصدقـة وفي غيرها، ولهـذا قـال بعدها: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾، وابتغاء وجه الله تعالى لا يكون إلا من قلب، ممتلئ باليقين بالله تعالى، وممتلئ بإرادة وجهه والبحث عن رضاه والهم الدائم بهذا، والخوف والرعدة من سخطه هو لا سخط غيره.

فهو مشغول بسمع الله به ونظره له وعلمه به ورضاه أو سخطه.. وقلبه فارغ عن غير هذا. هذا هو الإخلاص ولوازمه التي تنتجه؛ كما قال أبو بكر لما سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل وصوته خافت فسأله صلى الله عليه وسلم لم؟ فقال: «قد أسمعتُ من ناجيتُ» (4).

فمن نظر إلى غير الله تعالى واهتم به فلينظر في مدى لقاء الله تعالى في قلبه وما يمثله عنده من اهتمامات، ولينظر في يقينه بالله تعالى وتقدير عظمته تعالى.

الذي يكذّب بيوم الدين

ولهذا قد نعلم لماذا هذا الربط في سورة الماعون بين التكذيب بيوم الدين وبين الرياء: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ (سورة الماعون).

فإن كانت في المنافقين رأسًا فواضح الربط بين الرياء وبين عدم الإيمان بيوم الدين وبين سوء الخلُق وسوء أداء العبادات.

وإن كان قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ..﴾ الآيات، في عصاة المسلمين فلهم نصيب من عدم تصور يوم الدين التصور الكامل الذي أداهم إلى المراءاة في العبادات وسوء الخلُق مع الخَلْق، ولهم نصيبهم من هذا الربط بحسَبه.

المنفِق المرائي

وانظر إلى هذا الربط كذلك واضحًا في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَـاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً﴾ (النساء: 38).

فمشكلته في ريائه وارتباط هذا الرياء بأمرين: ﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ فهو لا يقدّر الله تعالى حق قدره، ولا يتصور الآخرة: إما عدم إيمان بها من الأصل أو ضعف هذا التصور؛ فكلٌ بحسبه.

وكلما ضعف أحدهما تشتت القلب وتفرق شعاعًا بين أغراض الدنيا القذرة.

﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك:1 – 2)، قال بعض السلف في هذه الآية: “لم يقل تعالى ليبلوكم أيكم أكثر عملاً بل قال أحسن عملاً.”

وتفسير الحُسْن دائمًا بأمرين: موافقة الشرع وإرادة وجه الله تعالى، ولهذا فهو نفس تفسير قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 112).

فإسلام الوجه لله تعالى هو التوحيد الذي هو أصل الدين وأصل الإيمان، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يعني: موافقة الشرع في الأعمال مع إخلاص النية في العمل لله تعالى رب العالمين.

والمرائي تعيس لم يذق حلاوة الطاعة ولا حلاوة الإخلاص وطعمه الذي يفوق كل ما في الدنيا؛ ولو ذاق للزم.

فحياة القلب لا تكون.. والقلب لا يعمر؛ إلا بالتوجه لله والبذل من أجله وابتغاء وجهه.

ولا يتحقق هذا كما يقول ابن القيم: “إلا بنفي ما سواه”، وهذه قاعدة غاية في الأهمية، أن العمل والتعبد وتفصيل أنواع التعبد بالقلب وما يستلزمه من عمل الجوارح لله تعالى، لا يتحقق إلا بنفي هذا عما سوى الله تعالى.

لمّا أخلصوا .. جوزوا الجنة

وقد ذكر تعالى صفات من أنعم عليهم بالجنة أن صفاتهم ليست بظاهر العمل فقط بل أثنى تعالى عليهم بأعمال هي بنفسها عظيمـة لكن اقترن بها عمق في الباطن كان مع ظاهر العمل هما مناط النجاة:

﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورا ً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ (الإنسان: 5 – 12).

وانظر كذلك والْحظ هذا الربط بين الإخلاص (لوجه الله) واستحضار الآخرة ومعايشتها (إنَّا نخاف): ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾، فهذا الربط المطّرد في كل موطن نؤكد عليه لأهميته، لأنه العلاج والدواء الناجع .. فهكذا عرض الله تعالى الأمر في كتابه.

ومن أراد المزيد فليراجع كتاب الله .. الشفاء من كل داء .. وهذا من أعظم الداء وأخطره.

فمن عانى من هذا الداء فليتناول الأمر كما عرضه القرآن العظيم.

علامات الإخلاص

وفي النهاية تجد المخلص موضوعيًا .. هادئًا يعمل لله تعالى فلا يهمه علم الناس به أو سمعهم به، ولا يهتم بأن يلفت إليه الأنظار.. ناظرًا في عمله وقيامه بالتعبد وإحسان وإتقان العمل المقرب لله تعالى والمفيد لنفسه ولأمته وناظرًا أن يجد هذا في الآخرة حتى لو لم ينتج في الدنيا ـ أو على الأقل في حياته ـ ما كان يأمله.

بقاء عمل المخلصين

ولكن هنا قاعدة: ﴿مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ﴾ (النحل: 96)، فمن عمل لله تعالى سيبقى عمله هنا في هذه الدار وهناك يوم يقوم الأشهاد.. ولا ينتهي عملٌ خالص أُريدَ به وجه الله تعالى بل سيثمر لكن كما أراد الله، وفي الوقت الذي يعلمه الله، وعلى الوجه الذي يريده الله تعالى، ومما قيل: “لو أن عبدًا تنفس نفسًا خالصًا لوجه الله تعالى لبقى أثره وبركته إلى يوم القيامة”.

فانظر إلى دعوة إبراهيم للناس بالحج ممتثلاً مخلصًا، ولم يكن في المكان أحد لكن عمل المخلص يتولاه الله تعالى فوصّل الله تعالى القول والنداء إلى النطف في أصلاب آبائها، فمن لبّى في ظهر أبيه يومئذ كتبت له التلبية في الدنيا.

وعلى هذا المنوال اعمـل، وقِسِ الأمور هكذا أنك لله تعمـل وعلى الله تعالى نتيجة العمل وتوصيل الخير.

حتى أنه قد ينتج ما لم يكن في حسبانك لأن الذي تولى الأمر ربُ العالمين؛ فبحسب قوة الإخلاص والتجرد من إرادة “ما سوى رب العالمين” تكون بركة الأمر وبقاؤه..

ما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل، والله المستعان.

……………………………………..

الهوامش:

  1. الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، منهاج التأسيس والتقديس.
  2. رواه مسلم في صحيحه.
  3. فتاوى اللجنة الدائمة 1/516 – 518.
  4. رواه أبو داود، قال الألباني: صحيح.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة