دور خطير تقوم به الأنظمة المتسلطة والمستبدة والموغلة في الشهوات الشخصية والأثرة الشديدة فلم تنظر للصالح العام ولا تقدم الأمة ولا تنمية عقول أبنائها.

مقدمة

عقول مسلمة فذة وموهوبة من باكستان، الى المنطقة العربية، الى مختلف بلاد المسلمين؛ تملأ معاهد الغرب ومصانعه ووكالات فضائه وتطوير أسلحته ودواءه.. ثم يعود الغرب فيحتكر هذه العلوم والقوى ويبتز بها المسلمين، بل ويبتز المسلمين بالدواء وعلومه وصناعته.. تلك معادلة ظالمة ومعوجة.

تعد هجرة الأدمغة والكفاءات المسلمة من بلادها من أهم وأخطر المشاكل التي تواجه مُعظم بلداننا الإسلامية، فبدلاً من الاستفادة من هذه العقول والحفاظ عليها والإعلاء من شأنها، نرى الدول الغربية تحتفل بالكفاءات الصّاعدة، وتجدّ في متابعة المَوهوبين ورعايتهم، فتصطفي التّلاميذ والطّلبة المُميَّزين، وتُوفِّر لهم مراكز رعاية خاصّة، تستكشف قدراتهم الخلاّقة، وتستثمر طاقاتهم الإبداعيّة، وتوجّههم الوجهة التي يجدون فيها أنفسهم، ويطوّرون فيها إمكاناتهم الابتكاريّة. فتصبح صناعة الذّكاء وعمليّة صقل الموهبة من روافد كسب معركة التقدّم، والفعل في الحضارة الكونيّة.

فالتّباري اليوم بين الأُمم حاصل في مستوى إنتاج الأفكار، وإبداع العقول، وتوسيع مجالات مجتمع المعرفة. وتحديث مختلف قطاعات الحياة العمرانيّة والاقتصاديّة، وتطوير مستويات التّنمية، وتحسين الأداء الخدماتي والمُنْجَز التّربوي.

من أسباب هجرة الأدمغة

تتعدد الأسباب وراء هجرة الأدمغة وخسارة الأمة للعقول المسلمة؛ ومن أهم الأسباب:

القمع والاستبداد السياسي

يمثل الاضطهاد وكبت الحريات من أبرز الأسباب الرئيسة لهجرة الكفاءات العلمية.

لم تستطع كثير من العقول الفذة المسلمة إثبات وجودها وتفعيل قدراتها إلا بعد الهجرة، ذلك أن القمع والاستبداد السياسي في العديد من الدول العربية والإسلامية، ابتداء من الاضطهاد وانعدام الحقوق السياسية، ومروراً بالاعتقال دون قوانين واضحة وكبت الحريات، وختاماً بالتصفيات الجسدية جعلت أصحاب الكفاءات العلمية يفكرون في الهجرة ويسعون إليها للتخلص من هذا الكبت والاضطهاد.

فالأنظمة السياسية القمعية سارعت في احتواء الكفاءات وتدجينها، فالديكتاتوريات لا تقبل بشعب مفكّر ناقد. زِد على ذلك استشراء الفساد والبيروقراطية والعوائق الجبائية التي أثقلت كاهل كل من أراد بعث مشروع علمي يخدم البلاد والعباد.

زادت الثورات المضادة لثورات الربيع العربي في حجم كارثة “استنزاف العقول” فقد أصبح العالم العربي مجموعة من بؤر التوتر، فتزايد عدد اللاجئين الذي أصبح يحصى بالملايين، حيث أظهر تقرير للجامعة العربية ارتفاع نسبة المتعلمين من بين المهاجرين من الدول العربية، وارتفاع نسبة تسرب الأدمغة والأشخاص المتخصصين بمجالات معينة، وأن الكثيرين من المهاجرين هم أطباء يبحثون عن دولة يتم فيها تأمين مكان عمل لهم وللأسف فإن ما تعيشه المنطقة من هزّات وحروب لا يوحي بانفراج قريب، لتظل أدمغتنا رحّالة تبحث عن أحضان غربية نصرانية ترتمي فيها.

عجز الحكومات وتخلفها

عجز الحكومات العلمانية المنشغلة بالفساد ومحاربة منابع التدين والمرهقة بتنفيذ أوامر أسيادها في الغرب؛ فقد عجزت عن خلق مناخ مناسب للكفاءات وإبداعهم؛ وذلك يعود لغياب التخطيط العلمي السليم وغياب التسهيلات التعليمة.

وبمقارنة بسيطة بين صفقات الكرة بتفاهتها، أو أجور الفنانين بتفاهاتهم وفجورهم وحربهم للإسلام وقيمه وأخلاقه؛ نجد أن أجر أي فاجر عن فيلم يقوم ببطولته، وأجر مغنٍ تافه عن ألبوم يغنيه تعادل نسبة الإنفاق علي البحث العلمي في دولة عربية؛ ونسأل أنفسنا بعدها لِمَ يهرب المبدعون ولِم يتفوق علينا الغرب الصليبي..؟!!

البيئة الطاردة وهجرة الأدمغة

وتتمثل في عدة مظاهر؛ منها:

  • عدم احترام حقوق الانسان وانتهاكها والفساد السياسي.
  • عدم تقدير الكفاءات بأنواعها العلمية والسياسية.
  • قلة حجم الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية وعدم التشجيع عليه.
  • إلحاق الكفاءات بأعمال لا تتلاءم مع خبراتهم ومهاراتهم وتخصصاتهم.

تجريف العقل العربي المسلم

أظهرت بعض الدراسات التي قامت بها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونيسكو والبنك الدولي أن العالم العربي يساهم في ثُلث هِجرة الكفاءات من البلدان النامية، وأن (50) في المائة من الأطباء، و(23) في المائة من المُهندسين، و(15) في المائة من مجموع الكفاءات يهاجرون إلى أوروبا والولايات المُتحِدة وكندا، مما يفرز تبعات سلبية على مستقبل التنمية للمنطقة والأمة، ويعد من بين أكبر عمليات تجريف العقول في العالم؛ فتصبح عقول وكفاءات المسلمين خادمة لعدوهم الذي يستقوي بها ويتطور بمساهمتها ثم يعود بقوته الى بلاد المسلمين فيحتل ويمزق ويغير العقيدة ويشكك في الدين ويزيل الأخلاق القيم الإسلامية..!

مكاسبُ قليلة وخسائر فادحة

هذه الأعداد الهائلة التي خرجت من العلماء والمفكرين المسلمين في مختلف تخصصاتهم، اتجهوا إلى بلاد الغرب بفعل النقلة الحضارية التي حصلت لتلك البلاد، حيث استقروا هناك للعمل والإقامة، فذهبوا يضيفون إلى تقدم الغرب تقدماً ورفاهية، تاركين مجتمعاتهم الأصلية وبلدانهم التي هي بأمس الحاجة إليهم، حتى ضاعت هوية بعض منهم، وأصبح من البديهي أن الأجيال التالية من أبنائهم وأحفادهم سوف يذوبون في تيار الحضارة الغربية الجارف.

ومع مرور الأيام يزداد ارتباط العلماء والمفكرين بواقعهم الجديد أرض المهجر، ويفضلون البقاء والاستمرار في المجتمع الغربي ويضعف ولاؤهم لدينهم ولأمتهم ويكاد يتلاشى مفهوم “البراء” من الكافرين، بل قد يضيع ويبهت وصف “الكفار” وتأثيره وما يجب نحوه.

بل ويغيب عن المسلم أنه إنما يأخذ هذه العلوم ليقوي بها أمته ويحوز لها من العلوم ما حُرمت منه وحيل بينها وبينه، حتى إذا حانت اللحظة ووجد أنظمة مخلصة ومسلمة ومنتمية للأمة عاد اليها بعلومه ليبني لأمته ما تدافع به عن نفسها وتلحق به المستوى العلمي العالمي.

ولكن للأسف تقدم الأمة هدية مجانية للأمم الأخرى، وتساهم بقصد وبدون قصد في توسيع الفجوة العلمية بينها وبين الغرب بكفره وفُجره ثم يأتينا الغرب في شكل جيوش واحتلال ومذابح وفارق قوة.

تكمن خطورة هجرة الكفاءات للخارج في التأثير السلبي على واقع التنمية البشرية للمسلمين، كما يكمن خطر هذا النزيف القاتل في تأثيره على مستقبل المسلمين في الوطن العربي إذ تصيب أضراره الواقع المعاصر والأجيال القادمة.

أكثر الدول العربية التي تعاني من الظاهرة

لقد عانت الدول العربية النامية من ذلك النزوح، الذي سلَـبها جزءً كبيراً من رصيدها الفكري وقدراتها البشرية.

تحتل تونس المرتبة الثانية عربيا على مستوى هجرة الكفاءات، بعد سوريا التي تأتي في المرتبة الأولى وفق تقرير عربي صادر عام (2009). مع وجود ما لا يقل عن (8233) تونسية وتونسيا من مهندسين وجامعيين وأطباء ومحامين وباحثين في الخارج.

وتأتي مصر في مقدمة الدول المصدرة للعقول إلى الخارج، خاصة كندا والولايات المتحدة وألمانيا، وطبقا لبيانات اتحاد المصريين بالخارج، فإن تعداد علماء وأكاديميي مصر المقيمين بالخارج، يبلغ نحو (86) ألف عالم وأكاديمي، منهم (1883) في تخصصات نووية نادرة، كما يضمون (42) رئيس جامعة حول العالم. وتشير خريطة العلماء المصريين في مجال الطاقة الذرية، إلى وجود (180) عالما مصريا في المجال النووي، يعيشون خارج مصر.

والغريب، أنه في حين يخسر المسلمون، من ظاهرة هجرة العقول، فإن الكيان الصهيوني المستفيد الأول من هذه الظاهرة بفعل الهجرة عالية التأهيل القادمة إليها من شرق أوروبا وروسيا وبعض الدول الغربية.

خاتمة

عندما جاءت الثورات المضادة وهي ثورات علمانية صهيو مسيحية، وتراجعت الشعوب وتقدم الاستبداد فابتلع آمالَ الناس واستطال الظلم وقُتل المسلمون، وتشابكت الأنظمة الطاغوتية مع الكيان الصهيوني ومراكز الصليبية الغربية؛ فتفاقمت المشكلة مرة ثانية ولم يجد الناس مأمنا في بلادهم بل سعوا للهجرة أفواجا وغرقا في البحار، وفي طوابير تاريخية عبر أوروبا.

ولم يزل في الله تعالى الرجاء أن يشق لهذه الأمة طريقا الى الخروج من أزمتها والفوز بأدمغته وكفاءاتها، وعلى الله التكلان وهو الموفق سبحانه.

…………………………….

المصادر:

  • (موقع إسلام ويب، المعطيات الحضارية لهجرة الكفاءات، د. عبد الستار الهيتي).
  • (موقع تبيان، هجرة العقول العربية واستنزافها..أما آن للجرح أن يندمل؟).
  • (موقع “موضوع” أسباب هجرة الأدمغة).
  • (المجلة، هجرة العقول النابغة … وآثارها الاقتصادية).
  • (الجزيرة، ما السبيل إلى الحد من هجرة العقول العربية؟).
  • (موقع ch العقول العربية المهاجرة.. “مكاسـبُ قـلـيـلـة وخـسـائـرُ فـادحـة ).
  • (مجلة أفق، عقول العرب المُهاجِرة).
  • (الركن الأخضر، العقول العربية … هجرة أم تهجير..!!!).
  • (صحيفةعدن، ثورات الربيع العربي .. مكاسب وسلبيات !).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة