لا تُثقل كاهليك بالذنوب؛ فيبطؤ سيرك الى رب العالمين. ومَن ترَك الذنوب خف حمله وأسرعَ في سيره وطهر قلبه فرأى وذاق واستقوى في الطريق.

مقدمة

إن الشوق إلى الجنة له فعْل السحر على النفس البشرية، فقد قدّم عُشاقها من سادات الأولياء من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أرواحهم من من أجل مرضات الله وجنته، ولكن لا يتحقق هذا الفعل والأثر إلا بشرط اليقين بها، والشعور بها ومعايشتها؛ لأنها موجودة الآن، ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمْران:133]، بل والشعور بقربها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الجنّة أقْرب إلى أحدكمْ منْ شراك نعْله، والنّار مثْل ذلك». (1رواه البخاريّ في صحيحه (6488)).. فالجنة حاضرة.. الآن الآن.

فإذا استقر لنا هذا المعنى وجب الكف عن كل محارم الله تعالى، وترْك كل المعاصي، وكان ترْك ما حرم الله أيسر وإن تضمن المحرم شهوة تضرب بسياطها صاحبها ويجد ألمًا لتركها؛ إذ إن في الجنة تسرية عما تركْت، هذا مع قول العلماء: «ما وجَد منْ ترك لله»، أي ما وجد ألمًا من أخلص نيته في ترك المحرم من أجل الله.

أثر ترك المحرمات

وترْك المحرمات أمر عظيم إذ إن الشرع جاء بالحسم في هذا الباب قال صلى الله عليه وسلم: «…فإذا نهيْتكمْ عنْ شيْءٍ فاجْتنبوه، وإذا أمرْتكمْ بأمْرٍ فأْتوا منْه ما اسْتطعْتمْ». (2متّفقٌ عليْه، رواه البخاريّ في صحيحه (7288) ومسْلمٌ في صحيحه 130 (1337))

ففرّق صلى الله عليه وسلم بين النهي والأمر؛ ففي النهي لا يفرغ العبد من العهدة ويحقق الامتثال إلا بتركه كله، بخلاف الأمر فهو منوط بالقدرة والاستطاعة.

بل ونهى الشرع عن قرب المنهي عنه؛ فالمحارم لا تُترك فقط، بل لا يُقترب منها، ومن ترك محارم الله كان خيرًا كثيرًا له؛ قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «أقلّوا الذّنوب فإنّكمْ لنْ تلْقوا الله بشيْءٍ يشْبه قلّة الذّنوب». (3رواه ابْن أبي شيْبة في مصنفه (34738)، كما رواه ابْن المبارك في الزّهْد والرقائق (ص65) باب ما جاء في تخْويف عواقب الذّنوب، بلفْظ: «منْ سرّه أنْ يسْبق الدّائب الْمجْتهد فلْيكفّ نفْسه عن الذّنوب؛ فإنّكمْ لنْ تلْقوا الله بشيْءٍ خيْرٍ لكمْ منْ قلّة الذّنوب»)

وهذا واضح إذا تدبرت أمر المقاصّة يوم القيامة لحقوق الناس، فإذا جئت بحسنات كثيرة ولكن كانت الذنوب أيضًا كثيرة فاعلم أن لبعض الذنوب تأثيرا في إحباط الحسنات، أو إحباط بعضها؛ مثل الرياء فهو محبط للعمل، والعُجب والفخر بالعمل والإدلال به على الله فهو مبطل للعمل، والمنّ على الخلق محبط للعمل بعد كتابة حسنة الصدقة أو عمل الخير؛ ولذا قال تعالى: ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى﴾ [البقرة:264]، فهو إبطال لحسنة قد تكون كتبت للعبد..

وكذلك بعض أوجه التغليظ للسيئة قد يزِن أمام الحسنات ثقلًا كبيرًا كالاستهتار بالسيئة أو المجاهرة بها أو الإصرار عليها أو توسع أثرها أو تقليد الغير لك فيها وتلقيهم عمل السيئة منك، أو كونها في زمن شريف أو مكان شريف كالحرم..

فكل هذا يزيد في ميزان السيئات وقد يرجح فتهلك..

بل ما لم يتغلظ؛ فمجرد كثرة السيئات في عددها ستكون مقاصة يوم القيامة، وقد ترجح على الحسنات.

وانظر إلى خطورة تأثير التعود على انتهاك حرمات الله تعالى؛ أن قومًا يأتون بحسنات أمثال جبال «تهامة» – غرب الحجاز- ولهم قسط من الصلاة بالليل، ولكن كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها فيجعلها الله تعالى هباءً منثورًا، عياذًا بالله تعالى.

روى «ابن ماجة» عن ثوبان رضي الله عنه، عنْ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لأعْلمنّ أقْوامًا منْ أمّتي يأْتون يوْم الْقيامة بحسناتٍ أمْثال جبال تهامة بيضًا، فيجْعلها الله عزّ وجلّ هباءً منْثورًا»، قال ثوْبان: يا رسول الله، صفْهمْ لنا، جَلّهمْ لنا، أنْ لا نكون منْهمْ ونحْن لا نعْلم. قال: «أما إنّهمْ إخْوانكم، ومنْ جلْدتكم، ويأْخذون منْ اللّيل كما تأْخذون، ولكنّهمْ أقْوامٌ إذا خلوْا بمحارم الله انْتهكوها». (4رواه ابْن ماجة في سننه (4245) ، وأوْرده الألْبانيّ في «صحيح الجامع الصّغير» (5028) وقال: «صحيحٌ»)

كذلك الذنوب المتعلقة بحقوق الخلق جاء فيها حديث المفلس، وهو ليس مفلسًا من الأصل؛ بل جاء بحسنات وصلاة وصيام، ولكنه ضرب هذا وشتم هذا وسفك دم هذا فيتقاصّون بالحسنات، فإذا فنيت حسناته أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار..

عنْ أبي هريْرة رضي الله عنه ، عن النّبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: «هلْ تدْرون من الْمفْلس؟»، قالوا: الْمفْلس فينا، يا رسول الله، منْ لا درْهم له ولا متاع. قال: «إنّ الْمفْلس منْ أمّتي منْ يأْتي يوْم الْقيامة بصيامٍ وصلاةٍ وزكاةٍ، ويأْتي قدْ شتم عرْض هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، فيقْعد، فيقصّ هذا منْ حسناته، وهذا منْ حسناته، فإنْ فنيتْ حسناته قبْل أنْ يقْضي ما عليْه من الْخطايا، أخذ منْ خطاياهمْ فطرحتْ عليْه، ثمّ طرح في النّار». (5رواه أحْمدٌ في مسْنده (8029)، وقال شعيْب الأرْنؤوط (13/ 399): «إسْناده صحيحٌ على شرْط مسْلمٍ». ورواه التّرْمذيّ في جامعه (2418) وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ»)

فإذا خلا العبد من الذنوب وأقلّ منها، وإذا حدثته نفسه تَعَوَّضَ بالجنة، وعايشها مسافرًا إليها فقرر الهجرة إلى الجنة والسفر الطوعي إلى هذه الدار، كان الأمر خيرًا له في الميعاد يوم القيامة..

أثر التّمادي في المحرّمات على القلوب

ليس هذا فقط، وإنما الأمر الجلل والخطير هو تأثير الذنوب على القلب، فالذنوب ترين على القلوب وتغطي عليها فتنسى العلم وتنحرف إرادتها.

لقد خلق الله تعالى الفطرة؛ تعرِف الله تعالى وتحبه وتوحده، وتحب العمل الصالح النافع، وتكره المعصية، وتعرف المعروف وتحبه، وتنكر المنكر وتنفر منه وتبغضه..

فإذا تتابعت الذنوب على القلوب أحدثت أمرًا عظيمًا؛ وهو أنها تُفسد الفطرة وتنسي ما فيها من العلم، وتنحرف بالإرادات فقد تنكر المعروف وتعرف المنكر؛ وتتبدل القيم، وتبغض الطاعة وتنفر منها، وتحب المعصية، ويقْدُم العبد على ما يضره..

فإن استبعدت تصور هذه الحالة فانظر إلى مثل قوله تعالى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التّوْبة:67]، وانظر إلى هذا الانحراف العقلي العظيم الذي سجله قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾..!! [الأنْفال:32]، وقال غيرهم: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾..!! [الشّعراء:187]، وهذا بدلا من طلب الهداية وبيان الحق ومحبته.

وانظر إلى من عمي عن رؤية الحق في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يراه ويعيش بين يديه، وهو يعرف اللغة العربية معرفةً تضع يده على إعجاز القرآن؛ ولكنه مع هذا يقول: ﴿إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المطفّفين:13]، فردَّ الله عليهم أن القرآن ليس كذلك ولكنكم حُرمتم من رؤية الحق بسبب ما تراكَم على قلوبكم من الذنوب فكانت حاجزًا عن رؤية الحق فقال: ﴿كَلَّا﴾، ليس القرآن أساطير الأولين كما زعمتم، ﴿بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطفّفين:14]، فالحق في مكانه، هو حق، ولكن الآفة في الناظر إليه، وقد أفسد الناظر آلة معرفة الحق والإيمان به بالذنوب التي ارتكبها.

بل العلم المكتسب ينساه العبد بسبب الذنوب اللاحقة التي تفسد محل حفظ العلم، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة:13].. وكان «ابن مسعود» رضي الله عنه يقول: «إنّي لأجد الرّجل ينْسى العلْم بالذّنْب يصيبه»، ثم يتلو هذه الآية. (6رواه أحْمدٌ في «الزّهْد» (853))

بل قد لا تجد أثر العلم وأثر العبادة وما تورثه العبادة من آثار وعلوم وهيئة وسجية وقرب لله تعالى.. كل هذا بسبب الذنوب المانعة؛ فمع ترك الذنوب أنت ترفع حواجز القلب عن أن يؤتي ثمرة ما فيه من الخير وموجب فطرته.. فتجد للعلم أثرا وللعبادة آثار عظيمة، بل تجد لما قل من التعبدات أثرا إذ إنك أزلت الحواجز المانعة.. وهذه جملة يسعد بها من يفقهها، والله الموفق.

خاتمة

من سار إلى الجنة، وترك من أجل الفوز بها والراحة في غدٍ، فترَك الذنوب وهجَر السيئات فقد حقق التخلية، والتخلية من الذنوب المفسدة هو تطهّر وخروج من لوثات الذنوب ونجاساتها التي تعْلَق بالقلوب وتُفسد الفطرة وتُضعف قوى القلب وتُهدر من طاقة المسير إلى الله سبحانه.. فحفاظك على قلبك، وتحديدك هدفك، فوز وخطوة واجبة أن تُقطع في مراحل سيرك إلى الله سبحانه وتعالى.

………………………………….

الهوامش:

  1. رواه البخاريّ في صحيحه (6488).
  2. متّفقٌ عليْه، رواه البخاريّ في صحيحه (7288) ومسْلمٌ في صحيحه 130 (1337).
  3. رواه ابْن أبي شيْبة في مصنفه (34738)، كما رواه ابْن المبارك في الزّهْد والرقائق (ص65) باب ما جاء في تخْويف عواقب الذّنوب، بلفْظ: «منْ سرّه أنْ يسْبق الدّائب الْمجْتهد فلْيكفّ نفْسه عن الذّنوب؛ فإنّكمْ لنْ تلْقوا الله بشيْءٍ خيْرٍ لكمْ منْ قلّة الذّنوب».
  4. رواه ابْن ماجة في سننه (4245) ، وأوْرده الألْبانيّ في «صحيح الجامع الصّغير» (5028) وقال: «صحيحٌ».
  5. رواه أحْمدٌ في مسْنده (8029)، وقال شعيْب الأرْنؤوط (13/ 399): «إسْناده صحيحٌ على شرْط مسْلمٍ». ورواه التّرْمذيّ في جامعه (2418) وقال: «هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
  6. رواه أحْمدٌ في «الزّهْد» (853).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة