قول لا إله الا الله وقبول شرع الله ورفض ما سواه صنوان لا يفترقان.

ارتباط قضية التشريع بلا إله إلا الله في السور المكيّة

مر بنا القول في مقال سابق “مقتضيات لا إله إلا الله في مكة والمدينة تُناقض الفكر الإرجائي” أن قضية التشريع هي من قضايا العقيدة الرئيسية، وأن السور المكية تحدثت عنها حتى قبل نزول الأحكام التفصيلية التي تحكم حياة المجتمع الإسلامي. فقال تعالى للناس في مكة يدعوهم للإسلام:

«ٱتَّبِعُوا مَاۤ أُنزِلَ إِلَیكُم مِّن رَّبِّكُم وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِۦ أَولِیَاۤءَ» سورة الأعراف [۳].

«أَم لَهُم شُرَكَـٰۤؤُا شَرَعُوا لَهُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا لَم یَأذَن بِهِ ٱللَّهُ» سورة الشورى [۲۱].

«وَمَا ٱختَلَفتُم فِیهِ مِن شَیء فَحُكمُهُۥ إِلَى ٱللَّهِ» سورة الشورى [۱۰].

وقال للمؤمنين في مكة:

«وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَم یُذكَرِ ٱسمُ ٱللَّهِ عَلَیهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسق وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَولِیَاۤىِٕهِم لِیُجَـٰدِلُوكُم وَإِن أَطَعتُمُوهُم إِنَّكُم لَمُشرِكُونَ» سورة الأنعام [۱۲۱].

نشأة قضية المنافقين

ثم لما نزلت الأحكام التفصيلية في المدينة، وصار للإسلام صورة تطبيقية عملية، ملتزمة بأحكام الله بالإضافة إلى العبادات، الحلال فيها هو ما أحل الله، والحرام هو ما حرم الله، نشأت قضية جديدة في المدينة هي قضية المنافقين الذين يتظاهرون بقبول الإسلام ولكن نفوسهم غير مذعنة لأحكام الله، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت

(وكل حكم غير حكم الله طاغوت) ويريدون أن يكون الحلال والحرام حسب أهوائهم أو أعرافهم لا حسب ما أنزل الله.

وهنا نزل حكم الله فيهم حاسمًا قاطعًا: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَینَهُم ثُمَّ لَا یَجِدُوا فِیۤ أَنفُسِهِم حَرَجًا مِّمَّا قَضَیتَ وَیُسَلِّمُوا تَسلِیمًا» سورة النساء [65].

«وَیَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعنَا ثُمَّ یَتَوَلَّىٰ فَرِیق مِّنهُم مِّن بَعدِ ذَ لِكَ وَمَاۤ أُولَـٰۤىِٕكَ بِٱلمُؤمِنِینَ * وَإِذَا دُعُوۤا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحكُمَ بَینَهُم إِذَا فَرِیق مِّنهُم مُّعرِضُونَ» سورة النور [47 – 48].

ترابط مُقتضيات لا إله إلا الله وعدم جواز تجزئتها

فتبين من ذلك أن محك صدق الإيمان – بعد اكتمال الدين – أصبح هو التحاكم إلى شريعة الله بعد سلامة الاعتقاد وأداء العبادات. وأن سلامة الاعتقاد وحدها لم تعد تكفي. ولم يعد يكفي كذلك سلامة الاعتقاد وأداء العبادات، لأن لا إله إلا الله صارت ذات مقتضيات أكثر مما كان لها من المقتضيات في مكة. والإيمان بلا إله إلا الله يقتضي الالتزام بكل مالها من المقتضيات (مع وقوع المعصية التي لا تنقض أصل الالتزام). فحين كان كل مقتضى لا إله إلا الله في مبدإ الدعوة في مكة هو الإيمان بوحدانية الله – سبحانه وتعالى- والإيمان بأنه أرسل رسوله – صلى الله عليه وسلم – ليبلغ عنه، كان الإيمان بذلك هو كل المطلوب من أي إنسان يدخل في دين الله. ولما فرضت بعض العبادات صار المقتضى المطلوب هو الإيمان بوحدانية الله وإرساله لرسوله – صلى الله عليه وسلم – وأداء تلك العبادات، فلما تمت العبادات في المدينة وأنزلت الأحكام صار المقتضى المطلوب هو الإيمان بالله ورسوله (وما حول ذلك من تفاصيل حددها الوحي) والقيام بالعبادات المفروضة، والالتزام بشرع الله. ولم تعد واحدة من هؤلاء تغني عن أختها أو تجزئ عنها.

ولكن المنافقين لم يكونوا يجادلون في قضية التوحيد، ولم يكونوا يجادلون كذلك في أمر العبادات (وإن أدوها في فتور وکسل) ولكنهم كانوا يزوِّرون ويعرضون عن الأحكام التي تضبط تصرفات المؤمن في حياته الدنيا، فيميلون عنها إلى حكم الطاغوت (وهو كل حكم غير حكم الله كما أسلفنا). لذلك ركزت الآيات القرآنية في المدينة – بمناسبة الحديث عن المنافقين – على قضية الحكم بما أنزل الله، لأنها هي القضية التي كانت مثارة يومئذ -وهي المُثارة اليوم كذلك-، ونزل قول الله الحاسم:

«وَمَن لَّم یَحكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلكَـٰفِرُونَ» سورة المائدة [44].

«وَمَن لَّم یَحكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّالِمُون» سورة المائدة [45].

«وَمَن لَّم یَحكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ الفَاسِقُون» سورة المائدة [47].

«أَفَحُكمَ ٱلجَـٰهِلِیَّةِ یَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكمًا لِّقَوم یُوقِنُونَ» سورة المائدة [50].

من أعجب العجب أن يقول لك قائل: إن الله قد أنزل فيهم هذا الحكم لأنهم كانوا منافقين! فقال عنهم: إنهم لا يؤمنون حتى يحتكموا إلى شريعة الله!! أما لو كانوا مؤمنين فلم يكن الله ليشترط عليهم هذا الشرط!!

عجبا! وكيف أصبح المؤمنون مؤمنين؟! ولماذا صار المنافقون منافقين؟!

هل كان المؤمنون مؤمنين إلا بأنهم تحاكموا إلى شريعة الله مع سلامة الاعتقاد وأداء العبادات؟!

وهل كان في وسعهم أن يكونوا مؤمنين بغير ذلك؟!

«إِنَّمَا كَانَ قَولَ ٱلمُؤمِنِینَ إِذَا دُعُوۤا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحكُمَ بَینَهُم أَن یَقُولُوا سَمِعنَا وَأَطَعنَا وَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلمُفلِحُونَ» سورة النور [51].

«وَمَا كَانَ لِمُؤمِن وَلَا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ أَمرًا أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلخِیَرَةُ مِن أَمرِهِم» سورة الأحزاب [36].

إنما أصبح المؤمنون مؤمنين لأنهم التزموا – منذ قالوا لا إله إلا الله محمد رسول الله – أن يقروا ويذعنوا لما جاء من عند الله. فلما دعاهم أن يحتكموا إلى شريعته قالوا: سمعنا وأطعنا، فاستمرت لهم صفة الإيمان لأنهم ظلوا عاملين بمقتضى لا إله إلا الله.

ولم يكن وجوب التحاكم إلى شريعة الله مفروضًا على المنافقين وحدهم لأنهم منافقون!! بل هو مفروض على كل من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فإن التزم بذلك مع التسليم النفسي والرضى فأولئك هم المؤمنون. أما إن أذعن إذعانًا ظاهرًا وهو في دخيلة نفسه غير راض ولا مُسلِّم فأولئك هم الذين قال الله عنهم هم منافقون (وهم مع ذلك لم يكونوا ممتنعين امتناعا ظاهرًا لأنهم حينئذ يصبحون مرتدين لا منافقين، ويكون جزاؤهم في المجتمع المسلم هو القتل).

إجماع الفُقهاء على كُفر من يحكم بشرع غير شرع الله

وخلاصة الأمر أن قضية التشريع ترتبط ارتباطًا مباشرًا وثيقًا بلا إله إلا الله. وأن هذا الارتباط لا يمكن أن ينفصم في أي حال من الأحوال.

إنما قال الفقهاء في قوله تعالى: «وَمَن لَّم یَحكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلكَـٰفِرُونَ» إنه لا يكفر إلا إذا كان مُستحلًّا وإنه إن لم يكن مُستحلًّا فهو كفر دون كفر.. كفر لا يخرج من الملة.

فالقاضي الذي يحكم بغير ما أنزل الله في القضية المعروضة عليه لأنه ارتشى من أحد الخصمين لا يكفر بذلك وإن كان آثما يتعرض لسخط الله وغضبه.

والمتأول الذي اجتهد فأخطأ فحكم في الأمر المعروض عليه بغير ما أنزل الله لا إثم عليه، بل له أجر اجتهاده مادام قد أخلص النية فيه.

إلى آخر تلك الحالات التي عددها الفقهاء..

نعم.. ولكن ذلك كله لا ينصرف إلى التشريع بغير ما أنزل الله. فالحكم في قضية معروضة بغير ما أنزل الله، بدافع من الدوافع المذكورة في كتب الفقه، بغير استحلال لذلك الحكم، هذا شي، والتشريع بغير ما أنزل الله شيء آخر مختلف بالمرة. لأنه في الحالة الأولى لا ينقض اعترافه وإقراره بأن شرع الله هو المرجع الذي يرجع إليه في الحكم وإن خالف في التنفيذ. أما في الحالة الثانية فهو يضع من عند نفسه – بغير سلطان من الله – شرعًا آخر مخالفًا لشرع الله، ثم يقول – بلسان الحال أو بلسان المقال – لا تنفذوا شرع الله، ولكن نفذوا هذا الشرع الذي وضعته لأنه مماثل لشرع الله، أو لأنه أفضل من شرع الله، أو لأنه أنسب من شرع الله!

وهذا الأمر لم يختلف الفقهاء في تاريخ الإسلام كله على أنه كفر مخرج من الملة.

وأمر آخر لم يختلف الفقهاء في تاريخ الإسلام كله على أنه كفر مخرج من الملة، هو الرضى عن علم وإرادة بشرع غير شرع الله، ولا يدخل في ذلك الإكراه بطبيعة الحال لأن الإكراه ينتفي فيه الرضى، ولذلك قال تعالى:«مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعدِ إِیمَـٰنِهِۦ إِلَّا مَن أُكْرِهَ وَقَلبُهُۥ مُطمَىِٕنُّ بِٱلإِیمَـٰنِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلكُفرِ صَدرًا فَعَلَیهِم غَضَب مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِیم» سورة النحل [106].

فالتشريع بغير ما أنزل الله، والرضى بتشريع مخالف لما أنزل الله، كلاهما في حكم الله نقض للا إله إلا الله، لذلك نزل فيه الحكم القاطع الحاسم: «وَمَن لَّم یَحكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلكَـٰفِرُونَ» سورة المائدة [44].

يقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: «أَفَحُكمَ ٱلجَـٰهِلِیَّةِ یَبغُونَ وَمَن أَحسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكمًا لِّقَوم یُوقِنُونَ»:

«ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكّم سواه في قليل ولا كثير» 1[ انظر تفسير ابن كثير ج ۲ ص 68].

المُرجئة يروجون أن ترك الصلاة والحكم بشرع غير شرع الله لا يتناقض مع الاسلام

هذا الارتباط الوثيق بين لا إله إلا الله وتحكيم شريعة الله، ظل ثلاثة عشر قرنًا متوالية بديهية في حس المسلمين، لا يتصورون الإسلام من غيرها، ولا يتصورون في «مسلم» أنه يكون مسلمًا من غيرها. وكان حكم الشريعة القائم بالفعل في الأرض يعطى القضية ثقل الأمر الواقع، فلا يفكر الناس في غيره، ولا يفكرون في أن غيره يمكن أن يقع!

وكان الفارق – في حس المسلمين – بين الإسلام والكفر، وبين المسلمين والكفار أمران رئيسيان، فضلًا عن أمور كثيرة أخرى، هما الصلاة وشريعة الله. فالمسلمون يصلون، ويتحاكمون إلى شريعة الله، والكفار لا يصلون، ولا يتحاكمون إلى شريعة الله. ولكن الأمر تغير كثيرًا في حس المسلمين بعد الاحتلال الصليبي لبلادهم وتنحية شريعة الله عن الحكم، ثم تسليط كل العوامل التي تخرج المسلمين من الإسلام.

فأما الجيل الأول فقد كان يرى الحقيقة «الشرعية» واضحة.

فتنحية الشريعة – من حيث المبدأ – كفر. والذين يقومون بذلك – من حيث الواقع – هم الكفار الصليبيون المغتصبون لأرض الإسلام.

ولكن الأمر اختلط كثيرة على الأجيال التالية.

ثم جاء حكام يحملون أسماء إسلامية، ويحكمون بغير ما أنزل الله، ينوبون عن الاحتلال الصليبي في تنفيذ كل أهدافه، ويقال للناس إنهم مسلمون، وإن «الضرورة» تقتضي أن يحكموا بغير ما أنزل الله.

ثم يزداد الناس بُعدًا عن الإسلام – بفعل كل العوامل المسلطة عليهم – فيقال لهم صراحة إن الرقي والتحضر والتقدم والتحرر والانطلاق يقتضي تنحية شريعة الله عن الحكم، واستيراد النظم والمبادئ والدساتير والقوانين من أوربا المتحضرة – من غربها أولا ثم من شرقها بعد ذلك – وإن الشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرنًا لا يمكن – ولا يجوز أن تحكم حياة الناس اليوم. وإن «التطور» لابد أن يأخذ طريقه، وإن الدين هو «الأغلال» التي تعوق الناس عن الانطلاق، وإن مصيرنا – رضينا أم أبينا – هو مصير أوربا، التي لم تتقدم إلا بعد أن نبذت الدين، وإن «الرجعية» لا يمكن – حسب قوانين التطور – أن تثبت في مكانها، فضلًا عن أن تقف عجلة التطور عن الانطلاق!

ويقال للناس في أثناء ذلك كله إنهم «مسلمون».. ما داموا يقولون لا إله إلا الله!!

المصدر:

كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص111-121 بتصرُّف يسير.

الهوامش:

  1. [ انظر تفسير ابن كثير ج ۲ ص 68].

اقرأ أيضًا:

التعليقات غير متاحة