فارق الواقع بين العز والذل يرجع الى فارق الأخذ بالعقيدة وجديته. وفي الأولين أمثلة وفي واقعنا عبرة. ومن طالع سير الأولين وواقعنا المعاصر تبين له ذلك بوضوح.

مقدمة

الفروق بين واقعنا وواقع الأولين على دى ألف عام وأكثر فارق كبير في العزة والحضور وقيادة البشرية والمنافسة والتدافع، والفارق الكبير في اختلاف الواقع راجع الى الاختلاف في الأخذ بحقيقة العقيدة ومفهومها  وتمثلها وتفعيلها.

ومن نظر الى الأمور هذه النظرة أدرك سبب الفارق.

لفتةُ إلى الماضي

كيف كنا أيها العرب قبل لا إله إلا الله؟

كنا غثاءً نتقاتل على مربط الشاة ومورد البعير، حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تُعبد من دون الله ضلالاً وظلاماً، بل ظلمات بعضها فوق بعض، ثم جاء الحق والنور على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وزهق الباطل، ونشر الدين في هذا العالم، ولا زال له بفضل الله أصحاب وأنصار بمقتضى قول محمد صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ». (1أخرجه مسلم ، (1920))

انطلق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم، وإلى الآن على قِلّة يدافعون عن عقيدتهم، فضحّوا بأنفسهم، ضحّوا بكل ما يملكون في سبيل الله، فربح بيعهم، وحصدوا انتصارات بارعة على أعدائهم على الرغم من قِلتهم، أما اليوم فالمسلمون قد أهينت كراماتهم، وانتهكت حُرماتهم، رغم كثرتهم.. لم؟

لاختلاف السابقين من المسلمين عن الآن، أولئك صدقوا الله، وقاتلوا بقوة الله رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتعلقوا بالله، فنصرهم الله.

ها هو طفل من أطفالهم “عمير بن أبي وقاص” أخو “سعد” كان عمره أربعة عشر عاماً، أي: بعمر أولادنا الذين يتيهون اليوم في الملاعب وعلى أنغام الموسيقى وما لا فائدة فيه، يأتي “عُمير” يوم بدر وحمائل السيف تُجر خلفه لنحافته وقصره، لكنه كبير بعقيدته وإيمانه، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادته؛ لأنه لا يقدر على الجهاد، فبكى عمير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه سعد: «ما يبكيه؟ قال سعد: والله يا رسول الله! ما خرج من المدينة رغبة في شيء إلا في الشهادة في سبيل الله، فلا تحرمه الشهادة لعله يرزقها في هذا اليوم يا رسول الله..! فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم، ويأذن له، فيكون أول شهداء بدر رضي الله عنهم أجمعين».

حريٌ بأطفالنا، لا، بل برجالنا أن يجعلوه مثلاً يُحتذَى به بعد أن ضللهم الفراغُ، وأعدم عندهم الأخلاق والعقائد والأفكار.

المقتضى العملي للإيمان بالله

من عقيدتنا إيماننا بالله، فأين ذلك؟ يوم حدث حادث على بلد مجاور، واليوم نحن في انتظار حرب كانت هناك حرب يلتفت الناس يمنة ويسرة فزعين هلعين قد أصابهم السخط والجزع، وكأن لم يكن لهم ربٌ يقول للشيء كن فيكون، أليس هو مالك الملك؟! أليس هو مدبر الأمر؟! بلى والله، الأمر لله، والملك لله، والخلق لله، والعزة لله، يعز من يشاء ويذل من يشاء.

يا من يريد معرفة الطريق لنصر الله! اسمع قول الله في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». (2أخرجه البخاري، (6502)) فهل حققنا ذلك لنكون أهلاً، لنسأل فنُعطَى، ولنستعيذ فنُعاذ؟ هل ارتبطنا بالله..؟!

أما والله لو ارتبطنا به لسخَّر لنا كل ما في الكون، ولَنصرَنا، ولأعزنا، ولكان معنا ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69] سخر الله النهر ـ نهر دجلة ـ لـ “سعد بن أبي وقاص” وجنده، فمشوا عليه كأنه يابساً يرون الأسماك من تحتهم، وعبروا النهر، وأدخلوا الرعب في نفوس الفرس، فهربوا قائلين: إنكم تقاتلون شياطيناً وجناً لا بشراً وإنساً، أين يكون ذلك؟

أين يجعل الله النهر يابساً إلا في عقيدتنا، نحن لا نرتبط بقوانا، ولا بقدراتنا، لكن معنا من يقول للشيء: كن فيكون.

سائلوا التاريخ عنا كيف كنا؟

كنا جبالاً في الجبال وربما .. صِرْنا على موج البحار بحاراً

نصر الله متعلق بمن ينصر دينه

من استنصر بالله نصره الله، بل يمدّه الله بالملائكة، بل يمدّه بكل شيء وينصره: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ [الأنفال:12].

جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كنت في الجهاد فسمعت هاتفاً يقول: اقدم حيزوم اقدم حيزوم، ما حيزوم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا ملكٌ من ملائكة السماء الثالثة جاء ليقاتل معكم». (3أخرجه مسلم، (1763))

أُمّتنا مددُها من الله؛ يمدّها بالملائكة، يمدها بالريح، بقذف الرعب في قلوب أعدائها، أفتستغيث بغيره وتتعلق بغيره، ثم ترجو النجاة.

في يوم الأحزاب أحدق الأعداء بمحمد صلى الله عليه وسلم وجنده ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب:10] وهم في خضم بلواهم واختبارهم إذ بمحمد صلى الله عليه وسلم يحنّ لهم، ويرقّ عليهم يوم يرى حال الصحابة وما بهم من جوع وبرد وقلة عدد، يعملون ثلاثة أيام لم يذوقوا شيئاً، يكشف أحدهم عن بطنه، وقد ربط عليه حجراً من شدة الجوع، ويرى النبي صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد، فيسلّيهم بنفسه صلى الله عليه وسلم، يكشف عن بطنه صلى الله عليه وسلم، وقد ربط عليه حجرين وهو يقول:

«اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة». (4أخرجه الترمذي، (3856))

ويجيب الجائعون في بطونهم، الشبعانون بإيمانهم بالله، فيقولون:

نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً

لا إله إلا الله! أين نحن من هذه المفاهيم في عقيدتنا وشريعتنا الآن..؟!

إن حياتنا لا بد أن تربط بالآخرة لا بالدنيا، كم نربي أبناءنا على أمل نيْل الشهادات وضمان المستقبل ولقمة العيش، وإذا فاز أحد الشباب بشهادة، قالوا: أمَّن مستقبله.

إن مستقبل الأمة المسلمة حقاً هناك في الفردوس الأعلى، في جنة عرضها السماوات والأرض، لا في بيت، ولا في وظيفة، ولا في شهادة، بل في جنة:

قصورها ذهب والمسك طينتها   والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها

فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها    والجار أحمد والرحمن بانيها

وآأسفاه على أمة الإسلام! إذا انتصرت في الرياضة قالت: بتمسكنا بعقيدتنا، ويتساءل الإنسان بمرارة أي عقيدة تكون في اللهو والطرب والضياع..؟!

ثم نأسى ونتحسر ونأسف على شبابنا، وعلى ضياعهم، لا نملك إلا أن نقول:

ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له .. إياك إياك أن تبتل بالماء

بروز أهمية العقيدة وقت الشدائد

عقيدتنا تخرج في الشدائد والمدلهمّات، نرتبط بها ارتباطاً عجيباً، ها هو صلى الله عليه وسلم لا يؤمّل صحابته في جهاده برجوعهم إلى الدنيا، لكن يؤمّلهم بجنة وما عند الله، حتى رأوا الجنة من هنا، وشموا رائحتها حتى قال قائلهم:

واها لريح الجنة! إني لأجد ريحها دون أحد.

تعلقوا بالله وما عند الله؛ فنصرهم الله.

خالد بن الوليد يوم يجتمع الكفر عليه ويتألب عليه بأضعاف أضعاف عدد المسلمين لديه، فيقول المسلمون لـ خالد: لا بد من اللجوء إلى سُلمى، أو إلى أجى ـ جبلين في حائل ـ فتدمع عيناه، وهو المتوكل على الله، والواثق بنصر الله، ويقول:

لا، لا إلى سلمى، ولا إلى أجى، ولكن إلى الله الملتجى.

فيُنصَر؛ لأنه نصر الله، وتوكل عليه.

ويا جامع الطعام والشراب استعداداً لخوض معركة مع أعداء الله! ها هو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه إسماعيل في أرض مجدبة لا زرع فيها ولا ثمر، ويذهب فتقول زوجته: إلى من تكلُنا؟ قال: إلى الله الذي أستودعكما إياه، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.

ما أعظم التوكل واليقين..!

يا أمة العقيدة! تمسكوا بدينكم، والتزِموا شرعكم، وافتخروا به، وتحاكموا إليه في كل شئونكم، واستشعِروا معية الله معكم، فإن الله مع المؤمنين ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً﴾ [النساء:146].

اصدحوا بالحق فقد صدح به أسلافكم، صدع ربعي في إيوان كسرى يوم سأله كسرى: لم جئتم؟ فرد بصوت مدوٍ كالصاعقة، قال: «جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».

يقول له كسرى: كم في جيش الإسلام من مثلك؟ قال: إني خلفت في جيش الإسلام آلافاً مثلي، فيقول كسرى: والله ليملكون ما تحت قدمي هاتين.

وبالفعل ملكوه بعقيدتهم الصافية.

ألا واثبتوا كثبات أسلافكم، ومنهم “عبد الله بن حذافة” يوم عُرضت عليه النصرانية وهو أسير، فأبى أشد الإباء، أُغليت له قدور الزيت حتى أصبح الزيت يغلي وأُلقي فيه اثنان من المسلمين، فتفتتوا ليُرهبوه، وليردوه عن «لا إله إلا الله» وتدمع عيناه، فقيل له: لم؟! هل ستعود عن دينك إلى النصرانية؟!

قال: لا.

قالوا: فما يبكيك؟!

قال: نظرت، فإذا هي نفس واحدة، وددت أن لي أنفاساً بعدد شعر جسدي تُلقَى كلها في هذا القدر في سبيل الله.

والخير لا زال، وسيبقى بمقتضى «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ». (5أخرجه مسلم، (1920))

خاتمة

يا أمة العقيدة..! إن أمة العقيدة أمة نشيطة لا تضيّع وقتها في اللهو واللعب؛ لأن الله سيسألها عن أوقاتها. أمة العقيدة أمة تضحية. أمة العقيدة أمة مراقبة لله.. ثابتة لا تتزحزح في أي مكان.

أما أمة تلتزم بعقيدتها، ثم إذا سافرت إلى بلاد الكفر نسيتها هنا، ليست بأمة عقيدة حقة.

أمة تلتزم بعقيدتها في الرخاء، وفي الشدة تضيعها ليست بأمة عقيدة.

أمة العقيدة أمة آمرة ناهية ليست متخاذلة، أمة العقيدة تنكر الروابط الأرضية من جنس ولون ولغة وترفع «لا إله إلا الله».

أمة العقيدة جعلت بلالاً وسلمان وعمر وعثمان بنعمة الله إخواناً.

عقيدتنا ثمينة، عقيدتنا غالية، ألا وفي أحداث الفتن الحالية رخصت عند بعض الرخصاء من الناس، يوم خرج بعض مرضى القلوب فأطَلقوا ألفاظاً ـ نسأل الله أن لا يؤاخذ الأمة كلها بهذه الألفاظ ـ تدل على عدم ثبات العقيدة، كقول بعضهم: إن قوى الكفر تقول للشيء كن فيكون، لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب..! عقيدتنا تنادي هؤلاء المرضى، ولا زالت تناديهم: عودة إلى الله، فالعوْد أحمد.

العودة إلى الله أيها المسلمون..! التعلق بالله، التوكل على الله، الثقة بالله، الرجوع إلى القرآن، الرجوع إلى السنة، تصفية العقيدة، عند ذلك أبشروا بالنصر ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [محمد:7].

……………………..

الهوامش:

  1. أخرجه مسلم، (1920).
  2. أخرجه البخاري، (6502).
  3. أخرجه مسلم، (1763).
  4. أخرجه الترمذي، (3856).
  5. أخرجه مسلم، (1920).

المصدر:

  • الشيخ على القرني. تلخيص محاضرة مفرغة

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة