إن الوعد من الله بأن ينصر دينه ورسوله وحزبه المؤمنين ويخزي الكافرين.. وعد محقق لا محالة، والأوضاع القائمة على الشرك والكفر والتشريع الجاهلي واغتصاب الديار وانتهاك الأعراض والحجر على الأفكار الشريفة، لن تدوم مهما تمهدت سُبلها وقويت شوكتها وطال مكثها في الأرض!
من أهم عوامل النصر وأجل مقوماته
إن أكبر عدة للمؤمنين وزاد على الكافرين والمجرمين، هي تقوى الله وإصلاح النفس ظاهراً وباطناً.
وهذا لا ينافي الأخذ بأدوات النصر؛ فقد قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) [الأنفال:60].
ولكن أعظم عوامل النصر وأجل مقوماته هو وجود المؤمنين الصادقين، (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 37].
وقد نصر الله نبيه محمداً يوم الغار بلا جيش ولا سلاح، ونصر الله رسوله وأصحابه يوم بدر بالملائكة، ونصر الله رسوله وحزبه المؤمنين يوم الأحزاب بالريح والجنود، وغير ذلك من نصر الله لجنده وحزبه بعوامل النصر الكثيرة.
فالشأن كل الشأن في وجود فئة مؤمنة تفهم الإسلام فهماً صحيحاً، تعيش معه في كل مجالات الحياة وتقيم في ظله شعباً صادقاً يعرف الحق من الباطل والإسلام من الكفر، لا يتنازل عن عقيدته ومراميه، ولا يقبل المساومات والإغراءات للتنازل عن ذلك، مهما أُوذي وعذب وسجن.
الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب يكون الثبات
وما هي رزية ولا خسارة أن يؤذى أحد أو يُقتل في سبيل دينه وعقيدته والثبات على دعوته وأفكاره وأقواله. وقد توعد فرعون السحرة حين آمنوا بربهم وهددهم بالقتل، فما استكانوا لفرعون وما وهنوا وما ضعفوا ولم يكن من أمرهم إلا أن (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ) [طه: 72-73] .
فالإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يلوي على الباطل، ولا يتحول عن الحق، مهما كان الابتلاء من الضرب والحبس أو القتل، أو الابتلاء بالسراء من الإغراءات بالمال والمنصب والجاه.
وفي (صحيح البخاري) عن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً له في ظِلِّ الكعبة، فقلنا أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لنا، ألا تدعو الله لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، ثمَّ يُؤتى بالمِنْشَارِ فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاطِ الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يَصُدُّهُ ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غَنَمِه، ولكنكم تستعجلون»1(1) صحيح البخاري (٣٦١٢)، من طريق إسماعيل عن قيس من خباب بن الأرت، رضي الله عنه..
الفتن والمحن لا تزيد المؤمنين إلا إيماناً بالله وتسليماً
فالفتن والمحن لا تزيد المؤمنين – ولا سيما العلماء منهم- إلا إيماناً بالله وتسليماً، قال تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22].
وقد قيل: كم من محنة انقلبت منحة! وهذا حق.. فكم من عالم قتل بنوايا خبيثة ومرام سياسية، فعاشت أفكاره وأقواله بين الناس، وأصبحت شجنة من بعده في أبناء المسلمين، والأمثلة والأدلة على ذلك كثيرة.
المهم أن نقول الحق ولا نلبسه بالباطل، وأن نصدع بما نعلمه ديناً وشريعة وعقيدة ومنهجاً قال تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
قصة الملك والساحر والراهب والغلام
وقد روى مسلم بسنده عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الملك والساحر والراهب والغلام … الحديث، وفيه:
ثم جيء بالغلام – أي إلى الملك – فقيل له : ارجع عن دينك! فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال: «اللهم اكفنيهم بما شئت». فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: «كفانيهم الله». فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه. فذهبوا به فقال: «اللهم اكفنيهم بما شئت».
فانكفأت بهم السفينة فغرقوا. وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟! قال: «كفانيهم الله». فقال للملك: «إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما أمرك به». قال: وما هو؟ قال: «تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني». فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات فقال الناس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام. فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس! فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها! أو قيل له اقتحم. ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام: «يا أمه اصبري فإنك على الحق»2(2) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٠٠5)، من طريق حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب..
بقاء الحق مقدم على بقاء الجسد
وإنه لشيء عظيم وأمر كبير أن يذهب غلام أو رجال من البشر فداء لدوافع معقولة وغايات مطلوبة؛ فبقاء الحق مقدم على بقاء الجسد، فأهل الحق يذهبون بأبدانهم وتعيش أفكارهم وكلماتهم. وقد تحدث الحديث عن الغلام وعن تضحيته بدمه بغية إسلام الناس وإيمانهم بالله، فتحقق القصد المطلوب ونفذ الأمر المنشود وسرى مراد هذا الغلام من وصول الإيمان والتوحيد إلى أعماق القلوب. فآمن قومه ووحدوا ربهم وكانوا من قبل في ضلال مبين لا يعرفون الإسلام ولا الدين الحق، يعبدون المادة والحياة، ويدينون للبشر بالعبادة والطاعة، وتهيمن عليهم أنظمة الملوك وتشريعاتهم.
غير أن هذا لم يدم، فشعور الغلام بالمسؤولية وتقديره للقضية حال دون ذلك، فأعلن في دنيا الواقع كلمة الحق وقدم دمه في سبيل صلاح البشر وتحطيم الوثنية، حينها تحررت القلوب من عبوديتها لدين الملك.. للأحجار.. الحياة.. التراب، وصوتت بروح عالية ونفس مطمئنة وقلوب ثابتة: «آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام». ولم ترضخ لبطش الجبارين ولا تعذيب المجرمين.
دور العلماء ورسالتهم
والمهزومون نفسياً وفكرياً والمرجفون والمخذلون عن الجهاد والتضحيات ومواجهة الأفكار والمبادئ الجاهلية والتشريعات الكفرية.. لا يناصرون هذه البواعث الإيمانية. وقد يخلطون بين الصبر على جور الحكام وبين الثبات على الإيمان ومواجهة الحاكمية الجاهلية والقرارات السياسية الضارة بالرعية. ولم يزل الأئمة الصادقون والدعاة الناصحون في سائر قرون الإسلام يفرقون بين الأمرين ويواجهون الأهواء والانحرافات الفكرية والسياسية والاقتصادية والعقدية وغيرها بعزيمة الصادقين وشجاعة المتقين، متحملين الأذى الذي ينتاب أمثالهم من الآمرين والناهين.. فهذا دور العلماء وهذه رسالتهم، قال تعالى: (وَلتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَيكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران 104].
وقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران: 110].
وقال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 71].
ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان: 17].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وفي صحيح مسلم أن أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة! فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»3(3) صحيح مسلم (٤٩)، من طريق قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب..
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِن نَبِي بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ له مِن أُمِّتِهِ حَوارِيونَ، وَأَصْحَابُ يَأْخُذُونَ بِسُنّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخَلْفُ مِن بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقولونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ ما لا يُؤْمَرُونَ، فَمَن جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وَمَن جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُو مُؤْمِنٌ، وَمَن جاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وليس وراء ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»4(4) رواه مسلم في صحيحه (٥٠)، من طريق عبد الرحمن بن المسور، عن أبي رافع عن ابن مسعود..
وروى الدارمي من طريق الأوزاعي حدثني أبو كثير حدثني أبي قال: أتيتُ أبا ذر رضي الله عنه وهو عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس يستفتونه، فجاءه رجل فوقف عليه فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ قال: فرفع رأسه إليه فقال: أرقيب أنت علي؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى قفاه- ثم ظننتُ أني أنفذ كلمة سمعتها من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبل أن تُجيزوا عليَّ لأَنفذتها5(5) من الدارمي (555)، بسند صحيح، وعلقه البخاري في صحيحه ..
علماء في خدمة السلاطين
وتاريخ العلماء ومواقف أئمة الإسلام في مثل هذا كثيرة، ولم يكن أحد منهم يجد أدنى حرج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتوى بما يعلم أنه الحق، وإيصال الصوت الإسلامي إلى عالمهم والتحدث عن الإسلام وحقائقه ومقوماته وخصائصه، وما كان يقبعون في بيوتهم ينتظرون الإذن السياسي في قول كلمة الحق والإنكار على أهل الباطل. وأما الآن فقد أصبح كثير من أهل العلم موظفين لدى السلاطين فأخرست الأطماع ألسنتهم، فلا يقدرون على القيام بالعهد والميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، ولا يستطيعون مصاولة الباطل ولا مقارعة الفساد. ومن هنا كان أكثر أئمة السلف يدعون إلى الأعمال التجارية الحرة دون التقيد بالأعمال الحكومية ويكرهون أعطيات السلاطين وهدايا الملوك ويرفضون قبولها حتى لا يحملهم ذلك على المداهنة والنفاق وطاعة السلاطين في أغراضهم ونزواتهم.
وإني لأرمق بإجلال وإكبار عالماً عزت عليه نفسه فلم يذلها بالتردد على قصور السلاطين واستغنى عما في أيديهم فجعل العلم خادماً للدين وليس للسياسة. وسخر الفتوى للديانة وليست للإعاشة.
التصور الحقيقي للإسلام يؤخذ عن الكتاب والسنة
وعبيد الدنيا والشهوات ينكرون هذا الكلام ويكافحون هذا الفكر ويعيشون في ظلمات التيه والرذيلة والشرود عن حقيقة الواقع. والأغرب من هذا أن يطاردوا هذا الفكر باسم الدين والعلم أو التقدم والحضارة الجديدة. وهيهات هيهات أن يكون للعلم والدين روابط بهذه الاعوجاجات والتفلتات.. فالحق أبلج والباطل لجلج، والحضارة الجديدة والتقدم يقومان على الشريعة الإسلامية وتطهير المجتمعات من الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل، وإن كان هناك تصور آخر للحضارة الجديدة والتقدم ينشأ عن التقاليد والعادات ونعرة الجاهلية والجهل بحقيقة هذا الدين فليس من الإسلام في شيء، والتصور الحقيقي للإسلام يؤخذ عن الكتاب والسنة ولا يلتمس عند من اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً وضاق بأحكام الدين ذرعاً.
والذين يمارون في هذا لا يدركون مداخل الخلل ولا مفرق الطرق، ويتحدث كثير منهم عن الدين والإسلام والشورى والحكم والمصالح والعدالة الاجتماعية بمجرد الأوهام والظنون. وأحياناً يتكلمون عن الشرع بلسان العلمانيين ويقولون عن الدين بأنه صلة خاصة بين العبد وربه ولا يتناول شئون الحياة، فيقصون الإسلام عن الحكم والتشريع والشئون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام: 162-163].
فالإسلام عبادة ومعاملة.. وشريعة ومنهج؛ فمن آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر بالشرع كله، فلا تنفعه صلاته وزكاته ولا حجه وصيامه، قال تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].
حين يتحدث المتخاذلون عن الجهاد
وأحياناً يتحدثون عن الجهاد والمجاهدين بروح الانهزامية والعبث بأحكامه ومحو حقائقه، ولا غرابة في هذا فهم أحرص الناس على حياة وعلى اتباع الشهوات واللذات والإيمان والجهاد يحرمهم الكثير من ذلك ويقذف بهم في غمرات الموت، وكم رأينا من رجالات يحملون اسم الإسلام ويتحدثون الحين بعد الحين عنه وهم قائمون على هذه الأفكار الشاذة والفهوم المنحرفة عن شرع الله، قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [البقرة: 14-16].
والإسلام له أعداء في الداخل وأعداء في الخارج، يلتقون عند مصالح مشتركة في عزل الإسلام عن الحياة والدفع بأهله في أحضان اليهودية والنصرانية، ووضع العوائق أمام امتداده وتحرك أهله، بيد أنه غير ممكن للعصبة الجاهلية والفئة التي تشاق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يتحقق لها وعدها وأن تهيمن على الأرض وتستحوذ على البشر، وإن استطاعت أن تهيمن على جوانب كثيرة في أيام مريرة؛ فالأيام دول والعزة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
نصر المؤمنين وعد محقق لا محالة
والوعد من الله بأنه ينصر دينه ورسوله وحزبه المؤمنين ويخزي الكافرين.. وعد محقق لا محالة، والأوضاع القائمة على الشرك والكفر والتشريع الجاهلي واغتصاب الديار وانتهاك الأعراض والحجر على الأفكار الشريفة، لن تدوم مهما تمهدت سُبلها وقويت شوكتها وطال مكثها في الأرض! وهذه حقيقة يجب الإيمان بها وبذل الطاقات وراء تحقيقها والشرط في ذلك أن نقوم بالإسلام ونحرك به الأجساد والقلوب، وأن نعمل لله صادقين موقنين، قال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]، وقال تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171-173].
فالنصر للمؤمنين وعد من الله، وما من شك في تحققه في واقع الحياة وإن تأخر عن حساب البشر واستبطأوا ذلك.
الهوامش
(1) صحيح البخاري (٣٦١٢)، من طريق إسماعيل عن قيس من خباب بن الأرت، رضي الله عنه.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (٢٠٠5)، من طريق حماد بن سلمة، حدثنا ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب.
(3) صحيح مسلم (٤٩)، من طريق قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب.
(4) رواه مسلم في صحيحه (٥٠)، من طريق عبد الرحمن بن المسور، عن أبي رافع عن ابن مسعود.
(5) من الدارمي (555)، بسند صحيح، وعلقه البخاري في صحيحه .
المصدر
الشيخ سليمان بن ناصر العلوان، ألا نصر الله قريب، كتاب إلكتروني، دار العلوان، ١٤٢٢هـ، ص١٠ وما بعدها.
اقرأ أيضا
أسباب النصر وأصول التمكين (1-2)