عظمت نعم رب العالمين، وصغرت أعمال العبد في مقابلها؛ والشكر هو المقتضَى لتدبر النعم ومعرفة المنعم. ولا بد فيه من العمل، مع امتنان القلب وثناء اللسان.
مقدمة
جعل تعالى الشكر قسيما للكفر، فجعل الإيمان به شكرا له ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الانسان: 3)، وجعل تعالى الشكور من عباده قليلا؛ إذ الشكر يستلزم العمل، والشكور عامل بطاعة ربه على وجه الشكر والامتنان.
وجعل تعالى فحوى الحكمة ومغزاها هو شكر رب العالمين ﴿وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ (لقمان: 12)
وإذا جمع العبدُ الصبر مع الشكر فقِه آيات ربه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (الشورى: 33)
ومن عرف النعم ورآها استصغر نفسه وعمله، واندفع صاغرا ذليلا لربه تعالى فكان الإيمان، والإيمان أداء للشكر، وفروعه فروع للشكر.
ولما كان كذلك كان اهتمام العلماء والعُباد بموجبات الشكر ولزومه ومظاهره، والحث عليه.
وفي هذا المقال نورد قطوفا من كلام صفوة الأمة للتذكير بعبودية الشكر ومَقامه.. راجين أن يُترجم في واقع وعمل، ويدفع لمواقف وجهد يُبذل لله تعالى.
آثار في شكر رب العالمين
ذكر ابن أبي الدنيا، عن أبي عمران الجوفي، عن أبي الخلد، قال: «قال موسى: يا رب، كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتَها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟ قال: فأتاه الوحي: يا موسى الآن شكرتني». (1«عدة الصابرين» (ص162))
وكان الحسن إذا ابتدأ حديثه يقول: «الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد، بما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلّمتنا وأنقذتنا وفرّجت عنا؛ لك الحمد بالإسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، كَبَتَّ عدونا وبسطْتَ رزقنا، وأظهرتَ أمننا، وجمعت فرقتنا، وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا؛ فلك الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا؛ لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت». (2المصدر نفسه (ص163))
أيها الشاكي؛ فلتشكر ربك
«وجاء رجل إلى “يونس بن عبيد” يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا. قال: فبيديك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فبرجليك مائة ألف؟ قال: لا. قال: فذكره نعم الله عليه، فقال يونس: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة». (3المصدر نفسه (ص167))
وقال بعض السلف في خطبته يوم عيد: «أصبحتم زهرًا وأصبح الناس غبرًا، أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون، وأصبح الناس يُعْطَوْن وأنتم تأخذون، وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون؛ فبكى وأبكاهم». (4«عدة الصابرين» (ص167))
وقال أبو حازم: «نعمة الله فيما زوي عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها؛ إني رأيته أعطاها أقوامًا فهلكوا، وكل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية، وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره». (5المصدر نفسه (ص170))
وذكر كاتب الليث، عن هِقْلٍ، عن الأوزاعي: «أنه وعظهم، فقال في موعظته: أيها الناس تقوَّوْا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة؛ فإنكم في دار الثوى فيها قليل، وأنتم فيها مُرْجَوْن، خلائفُ من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفعها وزهرتها؛ فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجسامًا وأعظم آثارًا، فقطعوا الجبال، وجابوا الصخور، ونقبوا في البلاد مؤيَدين ببطش شديد وأجسام كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مددهم، وعفت آثارهم، وأَخْوَتْ منازلهم، وأَنْسَتْ ذكرهم، فما تُحِسُّ منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا». (6صفة الصفوة المجلد الثاني، ص404)
المبُتلَى يشكر
وقال سلام بن مطيع: «دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: اذكر المطروحين على الطريق، اذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم مَن يخدمهم. قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فسمعته يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري من لا مأوى له ولا له مَنْ يخدمه». (7«عدة الصابرين» (ص174))
وقال عبد الله بن أبي نوح: «قال لي رجل على بعض السواحل: كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟ قلت: ما أحصي ذلك كثرة؟ قال: فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك؟ قلت: لا والله، ولكنه أحسن إليَّ وأعانني. قال: فهل سألته شيئًا فلم يعطكه؟ قلت: وهل منعني شيئًا سألته؟ ما سألته شيئًا قط إلا أعطاني، ولا استعنت به إلا أعانني. قال: أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك بعض هذه الخِلال، ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت أقدر له مكافأة ولا جزاء. قال: فربُّك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره، وهو المحسن قديمًا وحديثًا إليك، والله لشكره أيسر من مكافأة عباده؛ إنه تبارك وتعالى رضي من العباد بالحمد شكرًا». (8المصدر نفسه (ص175))
وقال وهب: «عَبَد اللهَ عابدٌ خمسين عامًا، فأوحى الله إليه: إني قد غفرت لك، قال: أي رب وما تغفر لي ولم أذنب؟ فأذن الله لعرق في عنقه يضرب عليه، فلم ينم ولم يصل، ثم سكن فنام، ثم أتاه ملك فشكا إليه فقال: ما لقيت من ضربان العرق؟! فقال الملك: إن ربك يقول: إن عبادتك خمسين سنة تعدل سكون العرق». (9«عدة الصابرين» (ص176))
تَحدث نعمة فيُحدث تواضعا
وذكر عبد الله بن المبارك: «أن النجاشي أرسل ذات يوم إلى جعفر وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خِلقان (10ثياب بالية، يقصد أنه لبسها تواضعا لله تعالى)، جالس على التراب، قال جعفر: فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال، فلما رأى ما في وجوهنا قال: إني أبشّركم بما يسرّكم؛ إني جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، وأهلك عدوه، وأسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك، كأني أنظر إليه كنت أرعى به لسيدي رجل من بني ضمرة. فقال له جعفر: ما بالك جالسًا على التراب، ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟! قال: إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى صلى الله عليه وسلم أن حقًّا على عباد الله أن يُحْدثوا لله تواضعًا عندما يحدث الله لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه أحدثت لله هذا التواضع». (11«عدة الصابرين» (ص172))
وقيل للحسن: ها هنا رجل لا يجالس الناس، فجاء إليه فسأله عن ذلك، فقال: إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة، فرأيت أن أشغل نفسي عن الناس بالاستغفار من الذنب، والشكر لله على النعمة؛ فقال له الحسن: أنت عندي يا عبد الله أفقه من الحسن، فالزم ما أنت عليه». (12«عدة الصابرين» (ص184))
تدبر النعم عبودية دافعة للشكر
وذكر ابن أبي الدنيا:
«أن محارب بن دثار كان يقوم بالليل ويرفع صوته أحيانًا: أنا الصغير الذي ربّيتَه فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قوّيتَه فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيتَه فلك الحمد، وأنا الصعلوك الذي موَّلته فلك الحمد، وأنا العَزَب الذي زوّجتَه فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعتَه فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوتَه فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبتَه فلك الحمد، وأنا الغائب الذي رددتَه فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حمَلتَه فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيتَه فلك الحمد، وأنا السائل الذي أعطيتَه فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبتَه فلك الحمد.. ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا». (13«عدة الصابرين» (ص184))
وكان بعض الخطباء يقول في خطبته:
«اختط لك الأنف فأقامه وأتمه فأحسن تمامه، ثم أدار منك الحدقة فجعلها بجفون مطبقة، وبأشفار معلقة، ونقلك من طبقة إلى طبقة، وحنن عليك قلب الوالدين برقه ومقة؛ فنعمه عليك مورقة، وأياديه بك محدقة». (14الشكر لابن أبي الدنيا المجلد الأول، ص18)
خاتمة
الحمد بابه الثناء باللسان مع الحب، وباب الشكر أعم من ذلك فهو بالقلب واللسان والعمل؛ باستعمال ما أنعم عليك وصرفه في مرضاته بحسب الاستطاعة.
والشاكر الذي تأسره نعم الله وتُذله لربه وتُخضع عنقه لربه تعالى؛ يفيض قلبه بالحب والذل، كليهما لربه تعالى؛ حبا يجعله ذليلا لربه عن طواعية وامتنان، ويدفع صاحبه لتغيير حياته حبا وذلا نابعا من الامتنان لرب العالمين. وهو باب للولوج على رب العالمين عظيم.
وربنا تعالى شكور لعباده فيقبل القليل ويجازي عليه بالكثير؛ فله المِنّة في الأولى والآخرة وله الحمد في الأولى والآخرة.
………………………………………..
الهوامش:
- «عدة الصابرين» (ص162).
- المصدر نفسه (ص163).
- المصدر نفسه (ص167).
- «عدة الصابرين» (ص167).
- المصدر نفسه (ص170).
- صفة الصفوة المجلد الثاني، ص404.
- «عدة الصابرين» (ص174).
- المصدر نفسه (ص175).
- «عدة الصابرين» (ص176).
- ثياب بالية، يقصد أنه لبسها تواضعا لله تعالى.
- «عدة الصابرين» (ص172).
- «عدة الصابرين» (ص184).
- «عدة الصابرين» (ص184).
- الشكر لابن أبي الدنيا المجلد الأول، ص18.