للنصر أسباب، بعضها مادي والآخر عقدي؛ ولا بد منهما. والجمع بين الأسباب والتوكل، وبين المعجزات الخارقة وجريان الأمور على سننها أمور مهمة في تصور المسلم.

مقدمة

تمت الإشارة في الجزء الأول لبعض أسباب النصر وأصول التمكين من البصيرة والإخلاص ووحدة الصف والصبر والتميز..

وفي هذا الجزء استكمال لأسباب النصر وأصول التمكين باتخاذ الأسباب المادية، ثم التوكل على رب العالمين.

الأصل الخامس:

اتخاذ الأسباب المادية المتاحة والمباحة

في تبليغ الدعوة ومواجهة أعدائها..

والمقصود بهذا الأصل هنا أن لا يتّكل أصحاب الدعوة على أنهم “مسلمون” والله ناصرهم؛ فيفرّطون في الأخذ بالأسباب؛ نعم إنَّ الله عز وجل لو شاء لانتصر من أعدائه بكلمة واحدة، ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن ينتصر دينهُ بجهد البشر، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض﴾ (محمد : 4).

وإذا علم الله سبحانه أنَّ عباده المؤمنين المصلحين قد بذلوا ما في طاقتهم من الأخذ بأسباب النصر وأصوله؛ من الفهم والمعتقد الصحيح والمقاصد الحسنة المتجردة لله تعالى واجتماع القلوب وتميز الصف والصبر على ابتلاءات الطريق، وبذلت الجهود الكبيرة، وأخذ بالأسباب والوسائل المتاحة، والتي توصل إلى تحقيق هذه الأصول..

ومن ذلك الجوانب الاقتصادية التي توفر المال للدعوة، لأنها من أهم الأسباب التي تحصل بها قوة الدعوة وانتشارها، واعتماد الدعوة بعد الله تعالى على نفسها..

إذا علم الله سبحانه أنَّ أصحاب الدعوة قد بذلوا كل ما في وسعهم ولم يفرطوا في الأخذ بأسباب النصر السابقة، واستعدوا للجهاد في سبيل الله تعالى، وقال قائلهم بعد ذلك: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ (القمر:10)..

فإنَّ نصر الله عز وجل يُنزل حين ذاك كما نزل على أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وكما نزل على عباده المصلحين المجاهدين في مراحل التاريخ الإسلامي.

ولم يكلَّف أصحاب الدعوة بمعرفة الطريقة التي سينزل بها نصر الله تبارك وتعالى، ولكن حسبهم أن يوقنوا بنصرِ الله عز وجل، وأنَّ لهُ سُبحانه جنود السموات والأرض، وهو على كل شيءٍ قدير، وأنَّه سبحانه لا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.. وهذا يقودنا إلى الأصل السادس.

الأصل السادس:

التوكل على الله عز وجل والاستعانة به وحده

وهذا أصل مهم من أصول النصر والتمكين، وهو في حقيقته داخلٌ في الأصل الأول والثاني، لأنَّ صحةَ الفهم والمعتقد يجعل أصحاب الدعوة فاهمين لحقيقة التوكل، وأنَّهُ يعني:

“تمام الثقة بالله عز وجل والاعتماد عليه، مع فعل الأسباب المأمور بها وعدم الاعتماد عليها”.

لأنَّ خالق الأسباب ومسببَاتها هو الله عز وجل.

كما أنَّ حسن القصد والإخلاص يجعلهم لا يتعلقون بالأسباب ولا يعجبون بأنفسهم وإيمانهم وكثرة أتباعهم، وإنما يوقنون بأنَّهم ضعَفة عاجزون، لا حول لهم ولا قوة إذا لم يعنهم الله عز وجل ويقوّيهم.

وإفراد هذا الأصل هنا في أصلٍ مستقل مع دخوله فيما سبق للتأكيد على أهميته ولوجود من يغفله في كثير من الأحيان، وفي زحمة الأخذ بالأسباب.

وإنَّ الأخذ بهذا الأصل يعني تقوية اللجوءِ إلى الله عز وجل، ودعائه والتضرع بين يديه في استجلاب النصر ودفع الشر، مما يكون لهُ الأثر في إضفاءِ الطمأنينة واليقين والثبات.

ومن اليقين والثقة بوعد الله عز وجل اليقين الذي لا يتزعزع بأنَّ لله عز وجل جنود السموات والأرض، وأنَّهُ سبحانه ينصر عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر بجندٍ من جنوده.

ويظهر ذلك للعيان ولو كان عباده في قِلةٍ من العدد والعتاد، ولو كان أعداؤهم في قوة عظيمة من العدد والسلاح وأدوات الدمار.

إنَّهُ لا يجوز لأصحاب الدعوة أن ينسوا نصر الله عز وجل لأنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بجنوده الذين سخّرهم لنصرة عباده الذين بذلوا ما في وسعهم من العبودية له سبحانه، والدعوة إلى دينه، وإبلاغه للناس والصبر على ابتلاءات الطـريق، فلقد نُصِرَ نـوح عليه السلام بالطوفان، ونصر هـود عليه السلام بالريح، وصالح عليه السلام بالصيحة، ومحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالرعب والملائكة التي قاتلت معه في بدر وأحد وحنين وغيرها من الغزوات.

بل إنَّ الناظرَ في انتصارات المسلمين بعد ذلك وفتوحاتهم ليلحظ أنهم كانوا دائمًا في قلةٍ من العدد والعتاد مقابل أعدائهم من الفرس والروم وغيرهم، ومع ذلك انتصروا بنصر الله عـز وجل لهم.

إذن من لوازم التوكل على الله عز وجل اليقين بتدخل قوة الله عز وجل لنصر عباده المؤمنين بآياتٍ ومعجزات، وتثبيتٍ للمؤمنين، وبثٍ للرعب في قلوب أعدائهم وغير ذلك مما يقدّره سبحانه في وقته المناسب وفق علمه سبحانه وحكمته.

موقف الناس من الآيات والمعجزات في النصر

والناس في نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين بالآيات والمعجزات طرفان ووسط:

أولا: طرف إهمال الأسباب المادية

الذين يرون أنَّ الله عز وجل سينصرُ المسلمين بالآيات والجنود الذين يسخرهم للقضاءِ على أعداء الدين ولو لم يأخذوا بأسباب النصر، أو لم يكملوها، فما داموا “مسلمين” وأعداؤهم من “الكافرين”؛ فإنَّ نصر الله عز وجل سينزل عليهم، لأنَّهم مسلمون وكفى.

وهذا الفريق من الناس يفرّط في العادة في الأخذ بأسباب النصر، أو يطول الطريق فلا يكملها، وإنما ينتظر خارقةً وآية من الله عز وجل.

ولا يخفي ما في هذا القول من التفريط والغفلة عن سنن الله عز وجل في النصر والتمكين.

ثانيا: طرف المبالغة في شأن الأسباب

وهو مقابل للطرف الأول، وقد يكون ردةَ فعلٍ له، وذلك بقولهم بأنَّه لكي ينتصر المسلمون على أعدائهم، ويمكن لهم في الأرض، فلا بد أن يكونوا مكافئين لعدوهم في العدد والعتاد، والسلاح والأخذ بالأسباب المادية.

ومثل هؤلاء يغلبِّون الأسباب المادية، ويفرّطون في الأسباب الشرعية، ولا يلتفتون إلى الآيات والمعجزات والإعانات التي ينصر الله سبحانه بها عباده المحققين لأسباب النصر متى شاء سبحانه وعلم أنَّ عباده المؤمنين قد استفرغوا ما في جهدهم من الأخذ بأصول النصر وأسبابه.

ومعلومٌ أنَّ المسلمين في كل وقتٍ وبخاصة في هذا الوقت لم يصِلوا ـ ولن يصلوا ـ ولم يكلفهم الله سبحانه بأن يصلوا إلى مستوى أعدائهم في القوة والصناعة والسلاح، لأنَّهُ ليس شرطًا في نزول النصر.

ولا يخفى ما في هذا القول من تطرفٍ وغفلةٍ عن أسباب النصر الشرعية، ونسيانٌ لقوة الله تعالى، والتي لا تقف أمامها أي قوة في الأرض ولا في السماء، والتي ينصرُ بها عباده المؤمنين الذين أخذوا بأسباب النصر واستحقوا أن يسخّر لهم جنود السموات والأرض.

ثالثا: طرف التوسط والجمع بين الأمرين

وهو الحق إن شاء الله تعالى، وهُم الذين بذلوا كل ما في وسعهم في الأخذ بأسباب النصر السالفة الذكر، حيث بذلوا ما في وسعهم في الأخذ بالعلم النافع والعمل الصالح، وربُّوا أنفسهم على ذلك، وبلّغوه للأمة قدر استطاعتهم، حتى عرفتهم الأمة وما هم عليه من الحق، وعرفت أعداءهم وما هم عليه من كفرٍ وفساد..

وأخذوا بالأسباب المادية المباحة والمتاحة لهم، ومع أخذهم بهذه الأسباب، فلم يعتمدوا عليها بل اعتمدوا على مسبب الأسباب، ومن بيده ملكوت السموات والأرض..

وانتظروا نصره المبين الذي وعد به عباده المؤمنين، الذين أخذوا بأسباب النصر وبذلوا ما في وسعهم في ذلك، وانتظروا تأويل قوله سبحانه: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7).

ولم ينسوا  قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (الفتح:7).

وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو﴾ (المدثر: 31).

بل هم موقنون بتدخل قوة الله عز وجل وظهور الآيات بعد أن يبذلوا وسعهم في الأخذ بالأسباب، وإعداد العدة للجهاد.

ولم يرهبهم حينئذ قوة أعدائهم من الكفرة والمنافقين مهما بلغت في القوة والدمار، لأنَّ قوة الله عز وجل فوق قوتهم ونواصيهم بيده سبحانه، ولو يشاء الله تعالى دمرها عليهم وأبطل مفعولها.

ولكن هذا لا يكون إلاَّ لمن حقق أسباب النصر والتمكين.

خاتمة

أسأل الله عز وجل أن يشرّفنا بنصرة دينه، وإعلاءِ كلمته وأن يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا.

والحمد لله رب العالمين.

…………………………………

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة