ثمة أسباب أساسية لضعف المسلمين، تدور كلها حول الضعف والتخلف العقدي. ومن وضع يده عليه وضع يده على الداء لمعالجة الأمور؛ فمن سلك طريق آخر ضيع الجهد والعمر.

مقدمة

تعاني أمتنا من ضعف ضارب بأطنابه في مجالات كثيرة. وتختلف الأنظار في معرفة أصله وسببه والذي إن عولج اعتدلت الأمور وجنت الأمة ثمار العزة والتقدم وكانت مكافئة للعدو في قوته، وتقدمت برسالتها المكلَفة بها للعالم.

مجالات التخلف عن حقيقة “لا إله إلا الله”

إن الضعف ليس من طبيعة هذا الدين، وهو دين القوة والجهاد والتمكن، الذي اكتسح في سنوات معدودة الإمبراطورية الفارسية بأكملها ونصف الإمبراطورية الرومانية العتيدة، والذي هزم التتار في عنفوانهم، وهزم الصليبيين في حملاتهم القديمة، واستقر في معظم الأرض المعمورة في وقته استقرار التمكن والرسوخ والنماء.

إنما الضعف عنصر طارئ في حياة المسلمين لم يتأتَّ لهم وهم مستمسكون استمساكا حقيقيا بدينهم. وسواء كان سببه الترف الذي أصاب الحكام العثمانيين بعد أن استتب لهم الملك والغلبة على الأعداء، أو حلقات الذكر الصوفي التي تستوعب طاقة المسلم الروحية فتصرفها عن الجهاد، وتحولها إلى سبحات روحية أشبه بالخدَر منها إلى الوعي الحيّ، أو انتشار الخرافة والتعلق بالخوارق الموهومة والكرامات المنسوبة إلى المشايخ، الأحياء منهم والأموات، أو إهمال العلوم الكونية وإهمال  عمارة الأرض والانصراف عن أسباب التمكن، أو الاستبداد السياسي الذي يجعل الناس ينصرفون إلى خاصة أنفسهم ويتركون الانشغال بالقضايا العامة التي تقرر مصاير الأمة، ويتركز “الدين” في حِسهم في الشعائر التعبدية فحسب، أو تَحَوُّلَ الدين كله في النهاية إلى تقاليد تُرْعَى لذاتها ولكنها خاوية من الروح..

سواء كان السبب هذا أو ذاك أو ذلك؛ فكلها ليست من طبيعة هذا الدين، ولا هي مستوحاة من نصوصه المنزلة أو سوابقه التاريخية حين كان مطبقا تطبيقا صحيحا في واقع الحياة.

والمؤرخ الأوربي المدقق لن تفوته معرفة هذه الحقيقة: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: 146].

ولكنه لن يُظهره وإن عرفه وتيقن منه: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].

فإنه لو أظهره فكأنما سيوقظ المسلمين إلى حقيقة انحرافهم عن مصدر قوتهم الحقيقي، وسيدعوهم إلى محاولة تغيير واقعهم والعودة إلى حقيقة الإسلام التي لا يمقت الغرب شيئا كمقته إياها، ولا يخاف شيئا كخوفه منها.

بل لقد عمد المؤرخ الأوربي ـ وتبعه من تبعه من ” المسلمين ” الغارقين في التيه ـ إلى ما هو أسوأ من إخفاء تلك الحقيقة؛ فزعم أن “الدين” ذاته كان هو السبب في كل هذا البلاء..! في الضعف والتخلف والخرافة والجهل والاستخذاء والقعود..! وأنه لا بد من نبذ الدين ليتحرر الناس من الجهل والخرافة، ويزيلوا الأغلال التي تمنعهم من الانطلاق..! وحرِص ـ وحرصوا معه ـ على منع أية إشارة تنبه الناس إلى حقيقة بعدهم عن حقيقة الدين، وأن الدين الحقيقي شيء آخر غير الذي يمارسونه باسم الدين..!

دور المؤرخ المسلم

المؤرخ المسلم ـ في تناوله لتاريخ تلك الفترة ـ عليه من إسلامه واجب لا بد أن يؤديه، هو أن يبين للناس السبب الحقيقي فيما حدث من هزيمة عسكرية أمام الغرب، وأن يفسر لهم كذلك سبب الهزيمة الروحية التي تلت الهزيمة في ميدان الحرب.

فأما الهزيمة الحربية فقد كانت نتيجة طبيعية لترك الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى القوة. ولكن ترك الأخذ بالأسباب كان هو ذاته نتيجةً للخلل العقدي الذي أصاب المسلمين فجعلهم ينحرفون بالدين عن حقيقته، ولا يعملون بمقتضاه.

دور الفكر الإرجائي

فالفكر الإرجائي الذي أخرج العمل من مسمى الإيمان..

وجعل الإيمان هو التصديق القلبي والإقرار اللساني فحسب، كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين قالوا إن الإيمان «قول وعمل»، والذين كان في حِسهم أن العلم الذي لا يصحبه عمل ليس علما حقيقيا، وأن العمل هو الثمرة الحقيقية للعلم.

وقد أدى هذا الانحراف العقدي إلى تصور للدين غير صحيح، وسلوك بالدين غير صحيح، فزاد تفلت الناس من التكاليف بغير حرج في صدورهم؛ لأنهم ـ في وَهْم أنفسهم ـ مؤمنون صادقو الإيمان مهما تفلتوا، ما داموا مصدقين بالقلب، ومقرّين باللسان..!

دور الفكر الصوفي

والفكر الصوفي أدى إلى تضخم “الشيخ” في حِس “المريد” حتى صار واسطة بينه وبين الله.

كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح، الذين تعلموا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه لا وسطاء بين العبد والرب إلا العمل الصالح الذي يرضى الله عنه فيرضى عن صاحبه، وإن من أعظم القربات إلى الله الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي إلى تقويم المجتمع إذا انحرف عن السبيل..

وكان من نتيجة هذا الانحراف العقدي ألوان من شرك العبادة من جهة، وتعلق بالأوهام والخرافات من جهة، وتركٌ للعمل الإيجابي الذي يُجري الله به التغيير في الأرض بحسب سنته الجارية، تطلعا إلى خارقة تتحقق على يد “وليّ” من أولياء الله تنحل بها المشاكل بلا تعب ولا نصب ولا انشغال بال..!

الانحراف في الإيمان بالقضاء والقدر

والإيمان المختل بعقيدة القضاء والقدر، الذي يُسقط مسئولية الإنسان عن أعماله..

وذلك حين يخطئ أو يقصر بدعوى أن ما يصيبه هو قضاء وقدر لا حيلة له فيه، ويدعو إلى الاستسلام السلبي لكل ما يقع، وعدم السعي إلى تغييره بدعوى أن العمل على التغيير هو بمثابة التمرد على قدَر الله وعدم الرضا بقضائه، ويدعو إلى عدم الأخذ بالأسباب بدعوى أن هذا نقص في الإيمان، ودليل على عدم التوكل على الله..

كل ذلك كان انحرافا متعلقا بالعقيدة، ومجافيا لمنهج السلف الصالح الذين كانوا أصفى الناس إيمانا بالقضاء والقدر، ولكنهم كانوا يعلمون من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان بالقضاء والقدر لا يسقط مسئولية الإنسان عن عمله حين يخطئ أو يقصر، ولا يمنع السعي إلى التغيير تطلعا إلى قدَر جديد من عند الله، وأن التوكل الصحيح لا يمنع الأخذ بالأسباب، وأن حتمية تحقق قدر الله ومشيئته لا تتنافى كذلك مع اتخاذ الأسباب.

ففي وقعة أحد قال الله للمسلمين إن ما أصابهم من الهزيمة هو من عند أنفسهم لمخالفتهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت ذاته قضاء وقدر: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ..﴾ [آل عمران: 165- 166].

وحين وقعت الهزيمة لم يقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السعي إلى تغيير الموقف، فأخذ المسلمين ـ بجراحاتهم ـ للقاء العدو، فانصرف العدو بفضل الله وآثر الانسحاب دون قتال: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران: 172- 174].

وتلقى الرسول صلى الله عليه وسلم توجيها من ربه له وللأمة المسلمة من ورائه أن يعدّ العدة ثم يتوكل على اللَه: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 159].

والعزيمة تقتضي الإعداد وإلا فهي مجرد أمانيّ لا تغير شيئا من الواقع .

وقرر الله سبحانه وتعالى أن الذين كفروا لن يسبقوا الله ولن يُعجزوه، وأن قدر الله بالتمكين لهذا الدين في الأرض ماضٍ ونافذ. ومع ذلك أمَر المسلمين بالإعداد واتخاذ الأسباب في نفس السياق: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال : 59-60].

وقد أدى هذا الخلل العقدي في عقيدة القضاء والقدر إلى تواكل سلبي بدلا من التوكل الحق، وإلى إهمال اتخاذ الأسباب ـ ومن بينها أسباب القوة التي أمر الله بإعدادها لإرهاب عدو الله ـ وإلى انتشار الفقر والمرض والعجز، والقعود في الوقت ذاته عن محاولة التغيير.

الخلل في تصور العلاقة بين الدارين

والتصور المختل لطبيعة العلاقة بين الدنيا والآخرة، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة..

وقد كان انحرافا عن حقيقة الدين، وعن منهج السلف الصالح الذين فهموا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني جزء من العبادة المطلوبة من الإنسان، وأن العمل للآخرة لا يتنافى مع السعي في الأرض: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك : 15]، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص : 77].

وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم القوم الذين زعموا أنهم يعملون للآخرة بأن يصوموا الدهر ولا يفطروا، أو يقوموا الليل ولا يناموا، أو يعتزلوا النساء فلا يتزوجوا؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «ألا إني أعبدكم لله وأخشاكم له. ولكني أصوم وأُفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني». (1أخرجه الشيخان)

خاتمة

لقد أدى هذا الانحراف في تصور مقتضيات لا إله إلا الله إلى إهمال العلم بالطب والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات والجغرافيا وغيرها من العلوم لأنها متعلقة بالأرض، وبالحياة الدنيا، فتخلف المسلمون في جميع الميادين.

من هنا يظهر جليّا أن التخلف العلمي و “التكنولوجي” والمادي ..إلخ، الذي كان سببا في الهزيمة العسكرية أمام الغرب قد نشأ أساسا من التخلف العقدي الذي تزايد في حياة المسلمين جيلا بعد جيل، وتراكم حتى غشّى على العقيدة الصحيحة فلم تعد تتبين من بين الركام ، ولم تعد تعطى شحنتها الحية في حياة المسلمين.

………………….

الهوامش:

  • أخرجه الشيخان.

المصدر:

  • أ.محمد قطب، كتاب “هلم نخرج من ظلمات التيه”، ص11-16 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة