تأتي مواسم الخير وترحل، هي لبعض الناس مواطن للتوبة وتغيير الحال، وآخرون لا يشعرون؛ بل مرتكسون..! ومآسٍ للمسلمين يجب إيقافها.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين؛ وبعد

فإن لكل شيء خلقه الله بداية ونهاية!! فالحياة لها بداية ونهاية، والإنسان والحيوان والسموات والأرض والشمس والقمر، والنجوم، والدواب، وكل المخلوقات لها بداية ونهاية.

والبداية والنهاية سنة كونية ربانية، لا تقتصر على مخلوقات بعينها؛ فإن الأمم والدول لها بداية ونهاية، وكذلك الأيام والساعات.

وهذا شهر رمضان قد رحلت أيامه، وانقضت ساعاته، وفنيت لحظاته، بالأمس كنا فرحين باستقباله، واليوم قد بدا حزننا لفراقه، وكم بين فرح التلاقِ ولوعة الفراق!!

ومضى رمضان وسنة الله تعالى في هذه الحياة الدنيا تعاقب الليل والنهار، وهكذا الحياة، شهر يعقبه شهر، وعام يخلفه عام، ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي  الْأَبْصَارِ﴾ (النور:44)

وهذه الأيام تتوالى علينا، وكل يغدو، فمعتق نفسه أو موبقها.

وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران:140).

أحوال الناس بعد رمضان!!

ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: ما حالنا بعد رمضان؟!! وهل هناك وجه للمقارنة بين حال بعض الناس في رمضان وبعد رمضان؟!!
والجواب عن هذا السؤال ما نراه ونلمسه من حال بعضنا.

من كانت عبادة الصوم له سببا للصلاح والتوبة

فبعض منا يكون متلبسًا ببعض الآثام قبل شهر رمضان فيتأثر بروحانية الشهر، وسكينة الصيام فيعزم على ترك ما سلف من ماضيه ويطلِّقه طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه. وهذا الصنف إن صدق في عزمه، فسيرى من الله ما يسره ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ (محمد:21) فالخير كله سببه الصدق مع الله عز وجل!!

فيا من تلوّث في أوحال المعاصي، من سخرية وسماع ونظر إلى ما حرم الله، وغير ذلك من الآثام، احمد الله الذي بلَّغك ختام رمضان، واجعل من هذا الشهر المبارك مرحلة تنقية وتهذيب لسلوكك وأخلاقك. واعلم أن الله يتوب على من تاب قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طـه:82) وقال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور:31).

وقال جل ذكره: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ (المائدة:39).

وقال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأعراف:153) وتذكر قول نبيك صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل». (1رواه مسلم)
فعلى المسلم التوبة النصوح، وأن يغتنم ذلك قبل فوات الأوان، فما زالت سكينة الصيام قريبة العهد.

من لم يرتدع في شهر الصوم ولا بعده

وهو الذي فرَّط في تلك الثروة العظيمة ولم يرعها حق رعايتها فحرم نفسه خيرًا كثيرًا، واكتسب وزرًا كبيرًا.

وهذا الصنف هو الذي لم يردعه صيامه عن الآثام، ولم يتغير عن ماضيه قبل رمضان؛ بل عاد يتخبط في معاصيه وآثامه، وأصرّ على ما كان عليه.

ومثل هذا يقال له: اتق الله يا عبد الله، واعلم أن ربك مطلع عليك عالِمٌ بما تقول وتفعل، فدع عنك الإصرار على الذنوب وتذكّر قول الله تعالى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران:135)

أناس زادهم الصيام إيمانًا

وهم الذين زادهم الصيام إيمانًا فزاد حبهم للخير بجميع أنواعه من صيام وصدقة، وصلاة، وبر، وصلة رحم، وهؤلاء خير الأقسام وأفضلها عند الله… نسأل الله أن نكون من أولئك الذين نفعهم الله بصيامهم وقيامهم.

تنبيهات حول صيام الست من الشوال

وفي صيام الست من شوال أمور ينبغي التنبيه عليها:

صيام القضاء ثم الست من شوال!!

ثبت في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر».

لكن يقال قبل ذلك: من كان عليه قضاء من رمضان فليبادر إلى صيامه ثم يتبعه بست من شوال ليتحقق له بذلك إكمال الصيام المفروض. ويتم له إدراك فضل الست من شوال بعد ذلك.

لا يعد منها قضاء رمضان

من ذلك أن بعض الناس يكون عليه قضاء يوم أو يومين من رمضان فإذا صامها في شوال جعلها معدودة من صيام ستة أيام من شوال وهذا خلاف الصواب.

الإنكار على من لم يصم

ومنه أيضًا أن بعض الناس يوجب صيام الست من شوال، وينكر ويعيب على من ترك صيامها أو صيام بعضها، وهذا الإنكار في غير محله، لأن صيامها من باب الترغيب في الخير، لا من باب الوجوب على المكلّف.

اعتقاد أن من صامها مرة وجبت عليه..!

ومنه أيضًا أن بعض الناس يتحرج من صيام الست من شوال بحجة أنه إذا صامها ولو سنة واحدة، أصبحت واجبة عليه في كل سنة بعدها، وهذا من الجهل، لأن أصل صيامها ليس واجبًا في أصل الشرع؛ بل يؤجر من صام، ولا يؤزر من ترك؛ ولكنّه يكون قد فرّط في خير كثير.

اعتقاد لزومها عقب الفطر

ومن تلك الأمور أيضًا أن بعض الناس يعتقد أن فضيلة صيام الست من شوال تكون بعد العيد مباشرة، وأن فضلها يقِل فيما لو صامها في أوسط الشهر أو آخره.

وفي ذلك نوع من الحرج بلا علم؛ بل من شاء صامها في أول الشهر أو في أوسطه أو آخره وفي كلٍ خير!!

ظن وجوب التتابع

ومنها كذلك أن البعض يظن أن أفضل صيامها لا يتحقق إلا بالتتابع في أيامها. وهذا يعد سابقة لا دليل عليها؛ والأمر في ذلك واسع؛ فقد قال أهل العلم أنه لا فرق بين أن يتابعها أو يتابعها أو يفرقها من الشهر كله، وهما سواء.

دوام المسارعة في الخيرات

فلنسارع إلى عمل الخيرات ؛فقد مدح الله من كان هذا شأنه فقال تعالى مادحًا لأنبيائه الذين هم صفوة خلقه: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ (الأنبياء:90)

وقال تعالى حاثًا عباده على ذلك: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران:133)

وأثنى على عباده المؤمنين فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ (المؤمنون:57 ـ 60)

وأخرج أبو داود والحاكم والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «التؤدة في كل شيء خير إلا في علم الآخرة».

خاتمة

من رحمة الله تعالى وإحسانه أن يُشعر العبد بتغير نمط الأيام ووقعها الرتيب عليه؛ ليعلم أنه حال ومرتحل من حال الى حال؛ ومن الخير أن يجد مواطن تدفعه للمراجعة والمحاسبة ومن ثَم التغيير.

ويحتاج المسلم اليوم الى تغيير جاد وعميق، يرفعه الى الكمال ويجعله ممن يحمل عقيدته بجد، ويحمل قضايا أمته بقوة، ويكون له دوره التعبدي ودوره الدعوي ودوره الإنقاذي لأمته.

تحتاج الأمة من هذا الكثير؛ للخروج من ورطتها وأزمتها التاريخية.

……………………………………

هوامش:

  1. رواه مسلم.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة