جعل الله سبحانه وتعالى الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست ثمن لها. فما رأي القدرية والجبرية في ذلك؟

الآخرة إما عفو الله أو النار

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل الجنة أحدا عمله» ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة»1(1) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . ، ويعلق الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى على هذا الحديث الشريف فيقول: (أما الأصل فهو أن عمل الإنسان لا ينجيه من النار ولا يدخله الجنة ، وإن ذلك كله إنما يحصل بمغفرة الله ورحمته ، وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [آل عمران:195] وقوله تعالى: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ) [التوبة:21] وقوله تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) [الصف: 11-12] .

فقرن بين دخول الجنة والنجاة من النار وبين المغفرة والرحمة فدل على أنه لا ينال شيء من ذلك بدون مغفرة الله ورحمته ، قال بعض السلف: الآخرة إما عفو الله أو النار ، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة.

وكان محمد بن واسع يودع أصحابه عند موته ويقول: علیکم السلام ، إلى النار أو يعفو الله.

الجنة ليست ثمناً للعمل والفرق بين باء “السببية” و “العوض والثمن”

فأما قول الله تعالى: (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف:72] وقوله تعالى: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) [الحاقة: 24] فقد اختلف العلماء في معنى ذلك على قولين:

أحدهما: أن دخول الجنة برحمته ولكن انقسام المنازل بحسب الأعمال2(2) ذكره الحافظ ابن حجر عن ابن بطال، فتح الباري 11/295 . ، قال ابن عيينة: يرون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة بفضله واقتسام المنازل بالأعمال .

والثاني: أن الباء المثبتة في قوله تعالى: (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) وقوله تعالى: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) باء السببية ، وقد جعل الله العمل سببا لدخول الجنة ، والباء المنفية في قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد الجنة بعمله» باء المقابلة والمعاوضة ، والتقدير لن يستحق أحد دخول الجنة بعمل يعمله ، فأزال توهم من يتوهم أن الجنة ثمن الأعمال ، وأن صاحب العمل يستحق على الله دخول الجنة كما يستحق من دفع ثمن سلعة إلى صاحبها تسليم سلعته، فنفى بذلك هذا التوهم وبين أن العمل وإن كان سببا لدخول الجنة ، فإنما هو فضل الله ورحمته ، فصار الدخول مضافا إلى فضل الله ورحمته ومغفرته لأنه هو المتفضل بالسبب والمسبب المرتب عليه ، ولم يبق الدخول مرتبة على العمل نفسه وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي»3(3) البخاري ك. التفسير (4850) ، مسلم .ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها (ح2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ..

لا نجاة للعبد بدون العفو والرحمة والتجاوز

وعند تحقيق النظر فالجنة والعمل كلاهما من فضل الله ورحمته على عبده المؤمن ، ولهذا يقول أهل الجنة عند دخولها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) [الأعراف: 43] فلما اعترفوا لله بنعمته عليهم بالجنة وبأسبابها من الهداية ، وحمدوا الله على ذلك كله جوزوا بأن نودوا: (أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:43] فأضيف العمل إليهم وشكروا عليه .

ومما يتحقق به معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد الجنة عمله» أو «لن ينجي أحدا عمله» ، أن مضاعفة الحسنات إنما هي من فضل الله عز وجل وإحسانه ، حيث جازى بالحسنة عشرا ثم ضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، فهذا كله فضل منه ، ولو جازی بالحسنة مثلها كالسيئات لم تقو الحسنات على إحباط السيئات ، فكان يهلك صاحب العمل لا محالة ، وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نوقش الحساب هلك»4(4) البخاري ك. الرقاق باب من نوقش الحساب عذب (6537) ، ومسلم ك. الجنة (2876) من حديث عائشة رضي الله عنها .. وفي رواية «عذب» ، وفي رواية «خصم» متفق عليه .

قال ابن عيينة: المناقشة سوء الاستقصاء حتى لا يترك منه شيء . وقال ابن يزيد: الحساب الشديد الذي ليس فيه شيء من العفو ، والحساب اليسير الذي تغفر ذنوبه وتقبل حسناته ، فتبين بهذا أنه لا نجاة للعبد بدون العفو والرحمة والتجاوز ، وأنه متى أقيم العدل المحض على عبد هلك .

ومما يبين ذلك أيضا قوله تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر :8] فهذا يدل على أن الناس يسألون عن النعيم في الدنيا وهل قاموا بشكره أو لا ؟ فمن طولب بالشكر على كل نعمة من عافية وصحة جسم وسلامة حواس وطيب عيش واستقصي ذلك عليه ، لم تف أعماله كلها بشكر بعض هذه النعم ، وتبقى سائر النعم غير مقابلة بشكر فيستحق صاحبها العذاب بذلك، وخرج الخرائطي في كتاب الشكر من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقف بين يدي الله عز وجل فيقول لملائكته: انظروا في عمل عبدي ونعمتي عليه ، فينظرون فيقولون: ولا بقدر نعمة واحدة من نعمك عليه ، فيقول: انظروا في عمله سيئه وصالحه ، فينظرون فيجدونه كفافا ، فيقول: عبدي قد قبلت حسناتك وغفرت لك سيئاتك ، وقد وهبت لك نعمي فيما بين ذلك»5(5) أخرجه الحاكم في مستدركه . التوبة 4/252 ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد..

العمل نعمة من نعم الله وجب الشكر على أن أعان عليها ووفق لها

فمن حقق معرفة هذه الأمور عرف أن العمل وإن عظم فإنه لا يستقل بنجاة العبد ، ولا يستحق به على الله دخول الجنة ، ولا النجاة من النار ، وحينئذ فيفلس العبد من عمله وييأس من الاتكال عليه ومن النظر إليه وإن كثر العمل وحسن ، فكيف بمن ليس له كثير عمل وليس له عمل حسن؟ فإن هذا ينبغي أن يشغله الفكر في التقصير في عمله ، ويشتغل بالتوبة من تقصيره والاستغفار منه .

فأما من حسن عمله وكثر ، فإنه ينبغي أن يشتغل بالشكر عليه فإن ذلك من أعظم نعم الله على عبده ، فيجب مقابلته بالشكر عليه و برؤية التقصير في القيام بشكره ، كما كان وهيب بن الورد إذا سئل عن أجر عمل من الأعمال يقول: لا تسألوا عن أجره ولكن سلوا عما يجب على من هدي له من الشكر عليه6(6) أبو نعيم في الحلية 8/155 .، وكان أبو سليمان يقول: كيف يعجب عاقل بعمله؟ وإنما يعد العمل نعمة من نعم الله عز وجل وإنما ينبغي له أن يشكر ويتواضع ، إنما يعجب بعمله القدرية7(7) المصدر نفسه 9/263 . یعني الذي لا يرون أن أعمال العباد مخلوقة لله عز وجل .

فإذا تقرر هذا الأصل الشريف العظيم وعلم أن العمل بنفسه لا يوجب النجاة من النار ولا دخول الجنة ، فضلا عن أن يوجب بنفسه الوصول إلى أعلى ما في الجنة من منازل المقربين ، والنظر إلى وجه رب العالمين ، وإنما ذلك كله برحمة الله وفضله ومغفرته ، فذلك يوجب على المؤمن أن يقطع نظره عن عمله بالكلية وأن لا ينظر إلا إلى فضل الله ومنته عليه .

التزام ما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله أعظم الأسباب لدخول الجنة

فيتعين حينئذ على العبد المؤمن الطالب للنجاة من النار ولدخول الجنة وللقرب من مولاه والنظر إليه في دار كرامته ، أن يطلب ذلك بالأسباب الموصلة إلى رحمة الله وعفوه ومغفرته ورضاه ومحبته ؛ فبها ينال ما عند الله من الكرامة ؛ إذ الله سبحانه وتعالى قد جعل للوصول إلى ذلك أسبابا من الأعمال التي جعلها موصلة إليها وليس ذلك موجودا إلا فيما شرعه الله لعباده على لسان رسوله وأخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يقرب إلى الله ويوجب رضوانه ومغفرته، وأنه مما يحبه الله ، أو أنه من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وقد قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56] وقال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الأعراف: 156] فالواجب على العبد البحث عن خصال التقوى وخصال الإحسان التي شرعها الله في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، والتقرب بذلك إلى الله عز وجل فإنه لا طريق للعبد يوصله إلى رضا مولاه وقربه ورحمته ومغفرته سوي ذلك)8(8) المحجة في سير الدلجة من ص 25 -45 (باختصار) ..

طائفتان ضلتا في فهم تلك النصوص: القدرية والجبرية

وهذا الذي ذكره الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى عن الأعمال الصالحة وأنها سبب في الحصول على رحمة الله عز وجل وتفضله على عبده بدخول الجنة ، وليست ثمنا ولا عوضا للجنة ، هذا هو الذي هدى الله عز وجل إليه أهل السنة والجماعة وكانوا وسطا بين الجبرية الذي لا يربطون بين العمل والجزاء البتة ، وبين القدرية الذين جعلوا الثواب بمحض الأعمال وثمنا لها، وهذا ما قرره وفصله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى بقوله عن طائفتي الجبرية والقدرية: (وهاتان الطائفتان متقابلتان أشد التقابل ، وبينهما أعظم التباين . فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباط بالجزاء البتة ، وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في طاعته ، وينعم من أفنى عمره في معصيته ، وكلاهما بالنسبة إليه سواء ، وجوزت أن يرفع صاحب العمل القليل على من هو أعظم منه عملا، وأكثر وأفضل درجات ، والكل عندهم راجع إلى محض المشيئة ، من غير تعليل ولا سبب ، ولا حكمة تقتضي تخصيص هذا بالثواب وهذا بالعقاب .

والقدرية أوجبت على الله سبحانه رعاية الأصلح ، وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنا لها، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنغيص باحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن.

فقاتلهم الله ، ما أجهلهم بالله وأغرهم به ! جعلوا تفضله وإحسانه إلى عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد ، حتى قالوا: إن أعطاه ما يعطيه أجرة على عمله أحب إلى العبد وأطيب له من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل . فقابلتهم الجبرية أشد المقابلة، ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء البتة والطائفتان جائرتان ، منحرفتان عن الصراط المستقيم ، الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، وهو أن الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب ، مقتضية لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها ، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله وفضله ومنه، وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها ، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها ، وحببها إليه ، وزينها في قلبه ، وكره إليه أضدادها ، ومع هذا فليست ثمنا لجزائه وثوابه ، ولا هي على قدره ، بل غايتها إذا بذل العبد فيها نصحه وجهده ، وأوقعها على أكمل الوجوه أن تقع شكرا له على بعض نعمه عليه ، فلو طالبه بحقه لبقي عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بشكرها ، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا نفی النبي صلى الله عليه وسلم دخول الجنة بالعمل ، كما قال: «لن يدخل أحدا منكم الجنة عمله ، وفي لفظ: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ، وفي لفظ: «لن ينجي أحدا منكم عمله ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» وأثبت سبحانه دخول الجنة بالعمل ، كما في قوله: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: 32] ولا تنافي بينهما ، إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنی واحد ؛ فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال ، وكون الأعمال منا وعوضا لها، ردا على القدرية المجوسية ، التي زعمت أن التفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكرير المنة .

وهذه الطائفة من أجهل خلق الله ، وأغلظهم عنه حجابا ، وحق لهم أن يكونوا مجوس هذه الأمة، ويكفي في جهلهم بالله أنهم لم يعلموا أن أهل سماواته وأرضه في منته ، وأن من تمام الفرح والسرور والغبطة واللذة اغتباطهم بمنة سيدهم ومولاهم الحق ، وأنهم إنما طاب لهم عيشهم بهذه المنة ، وأعظمهم منه منزلة وأقربهم إليه: أعرفهم بهذه المنة وأعظمهم إقرارا بها ذكرا لها وشكرا عليها ومحبة له لأجلها ، فهل يتقلب أحد قط إلا في منته؟ (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].

واحتمال منة المخلوق إنما كانت نقصا لأنه نظيره ، فإذا من عليه استعلى عليه ، ورأى الممنون عليه نفسه دونه ، هذا مع أنه ليس في كل مخلوق ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم المنة على أمته ، وكان أصحابه يقولون: «الله ورسوله أمنً» ولا نقص في منة الوالد على ولده ، ولا عار عليه في احتمالها ، وكذلك السيد على عبده ، فكيف برب العالمين الذي إنما يتقلب الخلائق في بحر منته عليهم ومحض صدقته عليهم ؛ بلا عوض منهم البتة؟ وإن كانت أعمالهم أسبابا لما ينالونه من كرمه وجوده ؛ فهو المنان عليهم بأن وفقهم لتلك الأسباب وهداهم لها، وأعانهم عليها وكملها لهم ، وقبلها منهم على ما فيها ، وهذا هو المعنى الذي أثبت به دخول الجنة في قوله: (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فهذه باء السببية ، ردا على القدرية والجبرية، الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال والجزاء ، ولا هي أسباب له ، وإنما غايتها أن تكون أمارات .

قالوا: وليست أيضا مطردة لتخلف الجزاء عنها في الخير والشر فلم يبق إلا محض الأمر الكوني والمشيئة.

فالنصوص مبطلة لقول هؤلاء، كما هي مبطلة لقول أولئك ، وأدلة المعقول والفطرة أيضا تبطل قول الفريقين ، وتبين لمن له قلب ولب مقدار قول أهل السنة وهم الفرقة الوسط المثبتون لعموم مشيئة الله وقدرته ، وخلقه العباد وأعمالهم ، ولحكمته التامة المتضمنة ربط الأسباب بمسبباتها، وانعقادها بها شرعا وقدرا، وترتيبها عليها عاجلا وآجلا.

وكل واحدة من الطائفتين المنحرفتين تركت نوعا من الحق ، وارتكبت لأجله نوعا من الباطل، بل أنواعا . وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه (وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة:213] و (ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الجمعة: 4])9(9) مدارج السالكين  93-96 /1..

الهوامش

(1) أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(2) ذكره الحافظ ابن حجر عن ابن بطال ، فتح الباري 11/295 .

(3) البخاري ك. التفسير (4850) ، مسلم .ك الجنة وصفة نعيمها وأهلها (ح2846) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .

(4) البخاري ك. الرقاق باب من نوقش الحساب عذب (6537) ، ومسلم ك. الجنة (2876) من حديث عائشة رضي الله عنها .

(5) أخرجه الحاكم في مستدركه . التوبة 4/252 ، وقال هذا حديث صحيح الإسناد.

(6) أبو نعيم في الحلية 8/155 .

(7) المصدر نفسه 9/263 .

(8) المحجة في سير الدلجة من ص 25 -45 ( باختصار ) .

(9) مدارج السالكين  93-96 /1.

اقرأ أيضا

أساس التفاضل بين الأعمال الصالحة

من علامات الإخلاص: أعمال الخلوة والخبيئة الصالحة

الدنيا والآخرة طريق واحد وحسبة واحدة

 

التعليقات غير متاحة