للإسلام نظرته الى بناء الأمم، وسقوطها. وهي نظرة مخالفة لما عليه الدرسات المادية اليوم. وقد تحققت نظرة الإسلام عبر القرون، وخابت النظرة المادية اليوم..!

مقدمة

إن لصدق الإيمان بالله آثارَه الواضحات في واقع حياة الأمم، ويتجلّى ذلك بوضوح عند تتبع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته الكرام.

كما أن الإيمان هو الركيزة الأساسية لتمكين الأمم في الأرض، بغض النظر عما تملكه من قوة وسطوة.

فيجب على أمة الإسلام القيام بدورها المنتظر في نشر الإيمان الصحيح ليتحقق بذلك للبشرية سعادة الدنيا والآخرة.

أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة

إن مما يدلل على أهمية هذا الأمر أن دعاة الحق والإيمان والسنة، حينما يدعون الناس وأنفسَهم إلى كتاب الله وسنة رسوله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح في كل أمورهم العلمية والعملية، فإنهم إنما يدْعون الأمة إلى الدواء الذي يشفي بإذن الله تبارك وتعالى من كل داء، ويكفي عن كل علاج.

إنه الدواء الذي يستأصل جميع الأمراض من قلوب العباد ـ وأمراض الأمم عامة ـ ويمنع أسباب الانهيار التي يتعرض لها الفرد أو تتعرض لها الأمة.

وإننا حين ندعو الناس فنقول: عودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن الأمر لا يعني تعصباً لمذهب معين، ولا يعني قسراً وفرضاً للناس على رأي من الآراء البشرية أبداً؛ ولكنه دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفراداً وشعوباً أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة من العذاب في الآخرة.

واقعنا وارتباطه بالمادة

إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منه، وما من دولة أو فرد إلا وهو يخشى ذلك ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم فإنها تتحدث كثيراً عن “مسألة الوجود”، و”إثبات الوجود”، وتضع الخطط البعيدة المدى لتبقى ولتصارع ولتزاحم في خضم معترك الحياة، التي جعلوها ـ هم ـ صراعاً كصراع الوحوش في الغابات، ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم ـ إلا ما ندر ـ لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط وهي الزاوية المادية أو الاقتصادية.

حتى هذه الأمة المباركة؛ بل حتى الذين يقرءون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة ـ وأكثرهم من هذه الأمة ـ أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآراءهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن الخوف الذي يجب أن يكون لدى الأفراد أو الأمم هو الخوف من الفقر والخوف من الجانب المادي أن ينهار فينهار الفرد أو تنهار الأمة، ويشغل ذلك حيزاً كبيراً من تفكير الناس، المسلم منهم والكافر.

ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلُح دنيانا وأخرانا، وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون والشيوعيون والملاحدة؛ فليست بحجة ولا بعبرة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فهذا نبي الهدى والرحمة، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يخبرنا فيقول: «ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم». (1رواه البخاري ومسلم) فأي رحيم وأي مشفقٍ وأي ناصحٍ أفضل وأعظم من رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..؟!

لا أحد والله يساويه فضلاً؛ ومع ذلك ينصح لهذه الأمة، وهو الذي شفقته ورحمته ورأفته بنا كما قال الله عز وجل ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:128] وهو الذي في يوم القيامة يوم الكرب الأعظم الذي لا كرب أعظم منه، حين يقول: كل نبي: نفسي نفسي، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمتي أمتي».

ففعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من كمال الشفقة، والرحمة، والرأفة؛ ومع ذلك يخبرنا أنه لا يخشى علينا، وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر وإن كان قليلاً، ويدلنا على ما ندفع به كل شر وإن كان بعيداً، فقوله: «ما الفقر أخشى عليكم» أي: أنه لا يخشى علينا الفقر مع أنه تعوذ منه، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مما يحاربه هذا الدين، بل إن الأمر في ديننا مختلف عن كل دين محرف.

التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان

إن أمر إطعام المسكين عند المسلمين مرتبط بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون:1 – 3] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعطي الفقراء؛ إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان قال تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ﴾ [المدثر:42 – 44] وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة ﴿فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ [البلد:11 – 14] انظروا كيف تكون الرحمة مرتبطة بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى..! فإذا صحت العقيدة فإنها ترتبط ارتباطاً مباشراً لا انفكاك معه؛ ومع ذلك كله لا يخاف علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر.

الاهتمام بالمادة دون الإيمان سبب في زوال الأمم

يجب على أمة القرآن وأمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تلغي النظرة إلى أن أسباب الانهيار هو ضعف أو قلة الموارد الاقتصادية أو الجوانب المادية تماماً؛ وبالتالي علينا البحث عن أسباب زوال الوجود وأسباب الانهيار من خلال هدي رسولنا وسنة ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

لقد بيّن الله لنا في كتابه الكريم أوضح البيان حال الأمم قبلنا، والعجب أنه ما من أمة أهلكها الله تبارك تعالى إلا وهي في حال القوة..! ويشهد بذلك كتاب ربنا وكذلك التاريخ وواقع الأمم.

قوم نوح دُمروا في وقت قوتهم وتمكنهم، وقوم عاد الذين قالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت:15] فلم يرَوْا أن أحداً أشد منهم قوة، وقد قال الله تبارك وتعالى فيهم: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ﴾ [الفجر:6 – 8] وثمود: ﴿وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾ [الفجر:9] الذين نحتوا الجبال، وبنوا وشادوا المصانع، فهل أتاهم عذاب الله وهم في حالة ضعف..؟! أو في حالة انهيار اقتصادي..؟! أبداً فقد أتاهم وهم في أقوى ما يمكن أن يكونوا عليه من القوة والتمكن، وفرعون ـ أيضاً ـ متى أهلك..؟ ومتى دمر الله هذه الأمة القبطية الفرعونية..؟ وهل دُمرت وهي في حالة ضعف..؟! لا، بل دمرت وانهارت وسقطت وهي في أشد قوتها، عندما تكبَّر زعيمها، ذلك الرجل الذي بلغت به الوقاحة والجرأة على رب العالمين أن يقول: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات:24] وأن يقول: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى﴾ [القصص:38] ففي أشد القوة والتمكن دمره الله، إلى غير ذلك مما لا يخفى علينا، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾ [سبأ:45] وفسر المعشار بأنه عشر العشر.

فالأمم قبلنا قد سادت وشادت وبنت، وبلغت من القوة ما بلغت، مع ذلك أُهلكت وعُذبت لسبب ليس هو الضعف المادي بأي حال من الأحوال.

وكذلك أتى التاريخ شاهداً لذلك، عندما دمَّر الله تبارك وتعالى ملك كسرى وقيصر فهل دُمرت مملكة الفرس والروم، لأنها كانت تعاني من ضعف مادي..؟! أبداً، فلقد كان الفرس يستعمرون الجزء الشرقي من العالم وينهبون خيراته، وكان الروم يستعمرون الجزء الغربي، ويكفي أن نعلم أن الروم كانوا مستعمرين لبلاد الشام ومصر وغرب إفريقيا بكاملها، فكانت مستعمرة رومانية.

نعم لقد سقطوا

إذاً في أوج القوة والعظمة سقطوا وذهبوا، لماذا..؟ لأنهم واجهتهم وقابلتهم جيوش التوحيد، التي عقد لواءها خليفة رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من ذلك البلد الطيب الطاهر، تلك الجيوش القليلة العدد والعدة، لكنها ذهبت وانطلقت ذات اليمين وذات الشمال، فأطاحت بأعظم دولتين في تاريخ القرون الوسطى، فكيف انهارت..؟! ولماذا انهارت..؟ وهل كان سبب الانهيار هو الضعف المادي أو الاقتصادي أو التفكك السياسي أو أو إلخ..؟!

ومع الأسف هذا هو الذي نقرأه في التاريخ، أو نسمعه في محاضرات أو ندوات أو ما يكتب في الصحافة، وفي الكتب، حتى أدى ذلك إلى أن غفلت أمة الإسلام عن هذه الحقائق الذهنية، فأصبحت أمة مادية تنظر إلى التاريخ، وإلى أسباب البقاء والفناء، والحياة الطيبة، وإلى أسباب الحياة الشقية نظرة مادية بحتة.

خاتمة

واليوم نحتاج أن نرى بتلك النظرة الربانية الى سنن الله تعالى؛ لنعلم أين تسير الأمور حقيقة؛ ولو كانت رؤيتنا مغايرة لما تراه مؤسسات البحث ومراكز الدراسات التي لا ترى أكثر من ظاهرٍ من الحياة الدنيا، وهم عن سنن الله والآخرة هم غافلون.

………………………..

الهوامش:

  1. رواه البخاري ومسلم.

المصدر

  • الدكتور سفر الحوالي. جزء من محاضرة مفرغة…موقع المكتبة الشاملة.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة