سورة الحشر فيها كثير من الفوائد والدروس والعبر أهمها: بيان حقيقة اليهود، وبيان أسباب النصر التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها. والتاريخ يتكرر ويعيد نفسه، وكما قيل: ما أشبه اليوم بالبارحة! فلن يعزنا الله إلا بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ولن يصلح الله آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
استلهام العبر والدروس من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
أنزل الله تبارك وتعالى هذا الدين ليكون منهجاً للبشرية، وقام محمد صلى الله عليه وسلم -نبي هذه الأمة- بهذا الدين خير قيام، حكم به الحياة، وبلغه إلى العالمين، ومضت الفترة التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم لتكون هي النموذج الذي يحتذي المسلمون حذوه، ويسعون دائماً لأن يصلوا بأنفسهم وبجماعتهم إلى المستوى الذي وصل إليه المسلمون في تلك الأيام.
كانت الفترة الممتلئة بالأحداث والمشكلات والوقائع التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته في أنفسهم ومع أعدائهم هي الفترة المثالية، وكانت دروساً كلها وينزل القرآن ليعالج مشكلاتها ووقائعها وأحداثها.
ولم يزل المسلمون يعيشون عبر تاريخهم على تلك الفترة، يستلهمون منها العبرة، ويأخذون منها الأحكام، ويجددون في ضوئها إيمانهم، وينظرون إلى حياتهم من خلالها، ويواجهون أعداءهم كما كان الأوائل يواجهون أعداءهم في تلك الفترة.
لقد علمنا الله تبارك وتعالى أن نتعظ من الأحداث التي تمر بمن قبلنا من المؤمنين، وذلك أن الواقعة كانت تقع في زمانه عليه الصلاة والسلام فينزل القرآن يبين ويفصل في أحداثها ووقائعها، فيعلم المسلمين ويبين لهم، ويفتح أبصارهم حتى يدركوا الحقائق كما يريدها الله تبارك وتعالى.
وحري اليوم برجال هذه الأمة ومفكريها -والأحداث تكاد أن تعصف بهم- أن يرجعوا مرة أخرى إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وإلى الأحداث التي وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فسيجدون من خلال تلك الوقائع، وكذا من خلال بيان القرآن الكريم ما يثبتهم ويفتح أبصارهم وبصائرهم.
غزوة بني النضير
لقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود عندما قدم إلى المدينة، ومن جملة من عاهد بنو النضير، وهي طائفة من اليهود كانوا يسكنون شرق المدينة، وذلك العهد كان بعد الهجرة بأربع سنوات، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النضير -وكان بينه وبينهم حلف- يستعينهم في دية رجلين قتلهما أحد المسلمين خطأ، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، سنعطيك ما أحببت، ونفعل الذي تريد، ثم ائتمروا فيما بينهم وقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل خالياً على مثل حاله هذه أبداً، وهذه أحسن فرصة تستطيعون فيها أن تتخلصوا من هذا الرجل، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم متكئاً إلى جدار، ومعه طائفة قليلة من أصحابه، فأراد أحد اليهود أن يصعد إلى السطح فيلقي حجراً فوق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يقولون: إن ما حدث كان قضاءً وقدراً، وهو خطأ غير مقصود، ولكن رب العزة الذي قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67] أوحى إليه بما يدبرون ويخططون، فقام الرسول صلى الله عليه وسلم من مجلسه كأنما يريد حاجة ولم يضمر لهم أنه علم بما يبيتون ويدبرون، ولم يبلغ أصحابه بما بلغه الله تبارك وتعالى به، فلما خرج من ديارهم، اشتد عائداً إلى المدينة، فلما استبطأه أصحابه خرجوا يبحثون عنه، فأخبرهم مخبر أنه رآه يشتد عائداً إلى المدينة، فعادوا فأخبرهم بما بيت بنو النضير، وانطلق المسلمون يحاصرون بني النضير، فأرسل إليهم المنافقون الضالون مع المشركين واليهود الذين يعيشون في وسط المسلمين أن اثبتوا، وطلبوا منهم أن يصبروا، وأنهم سينصرونهم ويحمونهم، ولكن الله تبارك وتعالى الذي يؤيد رسوله صلى الله عليه وسلم والذي أخبر أن رسوله منصور بالرعب مسيرة شهر، ألقى الرعب في قلوبهم، فاستسلموا وخرجوا من ديارهم، ونزلت الآيات تفصل وتوضح هذه الحادثة وهذه الواقعة التي وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبدأ السور بالتسبيح: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [الحشر:1].
وفي كثير من الوقائع العظيمة يسبح الله تبارك وتعالى فيها نفسه، دلالة على أهمية الواقعة، كما سبح نفسه بإسرائه برسوله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم بين كيف فعل بهذه الطائفة التي كانت مغرورة بنفسها، كانوا يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذه الواقعة: يا محمد! لا يغرك أن لقيت قوماً -أي: في بدر أو في أحد- ليس عندهم علم بالحروب، لو لقيتنا لعلمت أننا القوم، يقول رب العزة: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) [الحشر:2].
عبرة ودرس من غزوة بني النضير
وهو: أن العالم كله يصور اليهود أنه لا يمكن أن يقهروا، ولا يمكن أن يغلبوا، فلقد ملكوا السلاح والطائرات والقنابل الذرية والمال والإعلام، ويضخم هذا، ويتكلم فيه رؤساء الدول، والصحف العالمية، بل تنقله إذاعاتنا وتلفزيوناتنا وصحافتنا وهي لا تدري ما تفعل، قائلين: اليهود لا يغلبون ولا يقهرون.
هكذا يصور اليهود اليوم، انظر! ماذا يقول الله: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هو الله، وليس المؤمنون، هو الله تبارك وتعالى، (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) هم أهل كتاب وهم كفار، (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي: أخرجهم من المدينة إلى بلاد المحشر إلى الشام، (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي: ما كان يظن المؤمنون أن هؤلاء سيخرجون من ديارهم، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) وذلك أن القوة كانت تتمثل في تلك الأيام في الرمح، والسيف، والنبال، وحصون تحيط بهم، فلا يستطيع الأعداء أن يخترقوها، فظنوا أن هذه الحصون التي تحيط بهم ستمنعهم من قوة المسلمين، فلا يستطيعون أن ينفذوا من خلالها، وأن يحتلوا أرضهم، ويصلوا إلى مقاتليهم.
النصر جاء بإلقاء الرعب في القلوب
(فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) من أين؟ من قلوبهم، وذلك أن النصر جاء بإلقاء الرعب في القلوب، وإذا ألقي الرعب في قلوب المقاتلين فلن ينتفعوا بأنفسهم.
قوله: (وَقَذَفَ) الفاعل هو رب العزة تبارك وتعالى، (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) فكانت النتيجة ما شاهدتم وما رأيتم، وهي: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) وذلك أنه كان من شروط الاتفاقية أن يحملوا من أثاثهم ومتاعهم ما تطيقه الجمال، إلا السلاح من السيوف والرماح والدروع، فكان الرجل منهم ينقض بيته؛ ليأخذ خشبة في الجدار، أو ليأخذ باب الدار، والمؤمنون خربوا بعض بيوتهم عندما كانت المعركة جارية بينهم وبين اليهود، فهذا معنى: (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)، قوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) أي: انظروا نتيجة الذين يحادون الله ورسوله ماذا فعل الله بهم.
فهذا درس عظيم، فمهما فعل البشر، ومهما أعدوا لحرب الله تبارك وتعالى، وحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الذين يسلكون الطريق الذي سار فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم الخاسرون؛ لأنهم يحاربون الله عز وجل، فإذا وضع المسلمون أنفسهم في صف الله، واعتمدوا على الله واستنصروا به تبارك وتعالى، وأعدوا ما يستطيعون من عدة؛ فإن الله يكون نصيرهم.
وعلى المسلمين أن يدركوا أن إمكانات البشر لا تساوي بالنسبة لقدرة الله وقوته شيئاً، لكن لابد من شرطين: الأول: أن يكون المسلمون مع الله، بأن يقفوا في الصف الذي يريده الله، وينصروا دينه، ويُعلوا كلمته، ولا يوالون أعداء الله تبارك وتعالى، وأن لا يحكموا إلا دينه.
والثاني: أن يأخذوا بأسباب القوة والمنعة، وأن يعملوا بمقدار ما يطيقون، كما قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال:60]، فلا يكلف الله تبارك وتعالى فوق الاستطاعة.
من ينصره الله فلا غالب له
وهناك درس عظيم ينبغي أن يعيه المسلمون، وهو أن الله تبارك وتعالى إذا شاء نصراً لأحد وعزاً له فإنه يقهر أعداءه، وقوة الأعداء مهما بلغت فلن تساوي شيئاً بالنسبة لقوة الله، ألا نقرأ في تاريخ المسلمين معارك بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة سنة أو بمائتين أو بخمسمائة، فنرى قدرة الله تتدخل لنصر المؤمنين.
مثلاً في سنة 1450م فتحت القسطنطينية، واقرءوا كيفية فتح القسطنطينية تروا قدرة الله تبارك وتعالى، فنصر الله يتنزل على المسلمين الذين أعدوا كل ما يمكنهم لفتح المدينة، وكان هدفهم إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى، ذكر المؤرخون أن الصواعق كانت لا تكاد تنقطع في سماء القسطنطينية حتى وقع الرعب في قلوب الأعداء، أحداث يشاهدها الناس عندما يخلصوا دينهم لله تبارك وتعالى، درس لا يجوز للمسلمين أن ينسوه، والإعلام العالمي والدنيا كلها تضخم من حفنة من اليهود؛ لتلقي الرعب في قلوب المؤمنين، ولتثبت في قلوب الناس أن اليهود لا يقهرون، لا يغلبون، أنهم الآن يملكون من الطائرات كذا وكذا، ومن الدبابات كذا وكذا، وانظروا إلى حروب المسلمين مع اليهود، أحياناً تكون ست ساعات، وأحياناً ثلاثة أيام، وأحياناً يوم، ثم يفرون كالجرذان! هم يريدون أن يلقوا في نفوس المسلمين الرعب، وهذا جزء من التطبيع المرفوع شعاره في ديار المسلمين اليوم، حتى يذل المسلمون وتذل نفوسهم، ثم يستسلمون ويقولون: رضينا بيهود سادة وحكاماً وزعماء وخبراء ومستشارين ورجال فكر.
الخلل أننا لم ننتسب إلى دين الله حقاً، ولم نعد العدة، وما جرى من حروب فلا نعترف بأنها حروب، بالله عليكم هذه الحروب التي جرت بين العراق وإيران لماذا تستمر سنوات؟ وإذا كانت بيننا وبين اليهود لا تستمر إلا أياماً أو ساعاتٍ معدودة؟ هل لا يوجد معنا سلاح ولا رجال ولا قادة؟ لماذا لا نستطيع أن نقف أمام اليهود؟! فهذا درس مهم ينبغي أن نعيه من هذه الآيات: (مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ * وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) [الحشر:2 – 3]-أي: في الأزل كتب عليهم أن يخرجوا من ديارهم- (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا) [الحشر:3] وذلك أن الله تبارك وتعالى كان قد أذن لرسوله أن يقتل رجالهم، وأن يسبي نساءهم وأطفالهم، ثم قال سبحانه: (وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:3 – 4]، أي: إنما فعل الله ذلك بهم لأنهم شاقوا الله ورسوله، فالله ورسوله في شق، واليهود في شق، الله ورسوله في جانب، وهؤلاء يحاربون الله ورسوله من جانب آخر، ومن حارب الله فإن الله يغلبه.
بيت الداء..الإعراض عن شرع الله
والمسلمون اليوم -وللأسف- كثير منهم شاقوا الله ورسوله، فسلط الله عليهم عباد الصليب، وسلط عليهم اليهود الشيوعيين؛ لأن المسلمين شاقوا الله ورسوله، وليسوا كلهم، لكن فئة منهم، وخاصة الفئة التي تتولى مقاليد الحكم في ديارنا، فقد شاقت الله ورسوله، ولم تحكم شرعه ودينه، ولم ترفع راية الجهاد، رضيت بقوانين الشرق والغرب، وبالولاء لهم، أتريدون أن ينزل الله علينا نصراً في مثل هذه الأحوال؟! أي: إذا جعل العباد أنفسهم في شق مقابل لله تبارك وتعالى، فلا يوالونه، ولا ينصرون دينه، ولا يعلون كلمته، ولا يحكمون كتابه؛ فهذه مشاقة له ولرسوله، وقد قال سبحانه: (وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:4].
فيء بني النضير
كان القرآن يبين أحكام الوقائع والأحداث عند وقوعها، ويفصل ما يحتاج إليه المسلمون، فبين الله مصرف الفيء، وهذه المسألة ينبغي أن يدركها المسلم ليعلم قيمته عند ربه، هذه الدنيا وما فيها من نعيم، وما فيها من خير، وما فيها من طعام وشراب وما فيها من طيبات؛ إنما خلقها الله للمؤمنين، لم يخلقها لكافر يقول: عيسى ابن الله، أو يعبد الصليب، أو يعبد الشمس والقمر، أو ينكر وجود الخالق، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [الأعراف:32].
والكفار يشاركوننا في هذه الطيبات وفي زينة الحياة ظلماً وعدواناً؛ ولذلك سيحاسبون على ذلك يوم القيامة، سيسأل رب العزة العباد يوم القيامة عن هذا النعيم الذي تمتعوا به، فإن كانوا آمنوا وشكروا وحمدوا ربهم تقبل الله منهم، وإلا فإنه يعذبهم بذلك، قال الله: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:8].
أما الطيبات في الآخرة فتكون خالصة للمؤمنين، ولا يشارك الكفار المؤمنين في الطيبات يوم القيامة، بل يقول الكفار الذين في النار للمؤمنين الذين في الجنة: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) [الأعراف:50] فهذه محرمة على الكافرين، وفي الحديث (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)، أما الآخرة فهي خالصة للمؤمنين.
الفيء: حقيقته ومستحقيه
إذا غنم المسلمون من الكفار أموالاً فإنها تكون فيئاً، ومعنى فاء -أي: رجع- لأصحابه الحقيقيين، فالغنائم التي يكسبها المسلمون من الكفار هي فيء تعود لأصحابها، وقد سماها القرآن فيئاً في قوله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) [الحشر:6]، ثم بين الله حكمها بقوله: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7]، فمصرف هذا المال جزء منه للرسول صلى الله عليه وسلم، وجزء منه لذي القربى وجزء لليتامى، وجزء للمساكين، وجزء لابن السبيل، ولا يعطى للأغنياء منه شيء، لماذا؟ أجاب تعالى بقوله: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ)، هذه قاعدة من قواعد التشريع العظيمة، نص الله تبارك وتعالى عليها في هذا الموضع، وهي: أن الله تبارك وتعالى لا يريد أن يبقى المال دولة بين فئة قليلة من البشر، وإنما يريد أن يتوزع حتى يسري في المجتمع كله، وحتى ينتفع به الناس كلهم؛ ولذلك منع الأغنياء من بعض مصادر المال، فالفيء لا يستحقه الأغنياء، ومن ذلك الجزية والخراج وكل ما يأتي من مال لم يقاتل عليه المسلمون، وإنما غنموه بغير قتال، فهذا لا يستحق الأغنياء منه شيئاً، إنما يستحقه الذين ذكرهم الله في هذه الآية.
ولتحقيق هذه القاعدة فرض الله الزكاة، فتؤخذ من أغنيائهم -أي: المسلمين- وترد على فقرائهم، ومن أجل ذلك حرم الإسلام الربا؛ حتى لا تكثر أموال الأغنياء بسبب استغلال الفقراء، وحرم الاحتكار، وفرض الميراث، وهذه الثروات يجب أن تتوزع بين الناس ولا تبقى متكدسة: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ).
التزام شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب
ثم يقول رب العزة: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي: في تشريعك وفي نظم حياتكم، وفي القوانين التي ينبغي أن تحكم مجتمعكم.
لا كما يفعل المسلمون اليوم، فيأخذون نظريات الغرب والشرق في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأخلاق والتشريع، وأهملوا ما أمرهم الله به بقوله: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)! أي: خافوه؛ لأن (اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي: إن أنتم لم تأخذوا ما آتاكم الله ولم تتركوا ما نهاكم عنه فإن الله تبارك وتعالى سيعاقبكم، وهذا واقع في الأمة هذه الأيام؛ لأنها أهملت ما أمر الله تبارك وتعالى به، وارتكبت ما نهى عنه، وهذا ليس من التقوى، فالتقي: هو الذي يخاف النار، والذي يعمل بأمر الله، ويجتنب نهيه تبارك وتعالى، فيعمل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، كل هذا ابتغاء ثواب الله وخوفاً من عقابه، هذا هو التقي، وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة:2].
فضل المهاجرين والأنصار
عندما ذكر الله تبارك وتعالى الفيء الذي أفاءه على رسوله، وأن الذي يستحقه هم الفقراء والمحتاجون، بين الذين يستحقونه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعد عهده فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8]، فهذا صنف من الناس يستحقون الفيء، وهم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، تركوها لينصروا الله ودينه ورسوله، فهؤلاء الصادقون يستحقون من الفيء.
وكذلك الفقراء من الأنصار الذين ذكرهم بقوله: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر:9]، فأحبوا المهاجرين، وفتحوا لهم ديارهم، وآثروهم بأموالهم وما عندهم.
وكذلك الذين جاءوا من بعدهم أي: من بعد الأنصار والمهاجرين، وهم التابعون وتابعوهم، وكل من سار على دربهم إلى يوم الدين، وهم الذين عرفوا للمهاجرين والأنصار فضلهم، وأحبوهم ودعوا لهم بظهر الغيب، كما ذكرهم الله بقوله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: من بعد المهاجرين والأنصار (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
فالمؤمنون يد واحدة، وهم كالجسد الواحد، مهاجروهم وأنصارهم ومن جاء من بعدهم، مثلوا أمة واحدة، وقد علمنا الله تبارك وتعالى ذلك حتى نعرف لأهل الفضل فضلهم، ونذكر مآثر من سبقنا، فالسلف الذين كانوا قبلنا نذكرهم بفضلهم، وندعو لهم ونستغفر لهم، فنعرف الفضل لأهله.
المصدر
المكتبة الشاملة: محاضرة للشيخ عمر سليمان الأشقر رحمه الله بتصرف يسير.
اقرأ أيضا