استشرت في زماننا هذا مستجدات التقنية التي لا يكاد يمر يوم إلا وفيه الجديد، وأصبحت الأجيال الناشئة نهبا للفضول والانبهار الذي أسر عامتهم بالسيطرة على عقولهم وأوقاتهم وشهواتهم ومشاعرهم….
فما واجب العلماء وأولياء الأمور والمدرسين والمربين ونحوهم لاستنقاذ الشباب والأطفال من براثن ودخل البرامج والأجهزة المتطورة؟
ولا يكاد ينجو أحد من تلك المخاطر، ولكن الشباب والأطفال أشد تضررًا.
الكل مسؤول عما استرعاه الله
إن واجب المسلم لا يقتصر على العناية بأمر نفسه فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى وجوب الاعتناء بأهله ورعيته التي استرعاه الله تعالى إياها؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
عن قتادة في قوله تعالى: (قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) قَالَ: يقيهم أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليه بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها، وزجرتهم عنها1(1) [رواه الطبري (٤٩٨/٢٣) بسند حسن]..
وعن مجاهد في قول الله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا) قال: اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله2(2) [رواه الطبري (٤٩٨/٢٣) بسند صحيح]..
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كُلُّكُمْ رَاعٍ ومَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ؛ فَالإِمَامُ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ في أهْلِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وهي مَسْؤُولَةٌ عن رَعِيَّتِهَا، والخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وهو مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ»3(3) [متفق عليه]..
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استَرعاهُ، حفِظَ أم ضيَّعَ، حتَّى يسألَ الرَّجلَ عن أهلِ بيتِهِ»4(4) [رواه أبو عوانة في المستخرج (٧٠٣٦) وغيره، وصححه ابن حجر في الفتح (۱۳ /۱۱۳) والألباني في صحيح الترغيب (١٩٦٧)]..
مفهوم الراعي وواجباته
والراعي هو القائم بالرعاية لمن هم تحت يده وسلطته ؛ قال النووي: قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره؛ ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه، ومتعلقاته5(5) [شرح مسلم (۲۱۳/۱۲)] ..
وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باب تعليم الرجل أمنه وأهله.
ثم ساق حديث أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: «ثَلَاثَةٌ لهمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِن أهْلِ الكِتَابِ، آمَنَ بنَبِيِّهِ وآمَنَ بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والعَبْدُ المَمْلُوكُ إذَا أدَّى حَقَّ اللَّهِ وحَقَّ مَوَالِيهِ، ورَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أمَةٌ فأدَّبَهَا فأحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وعَلَّمَهَا فأحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أجْرَانِ»6(6) [صحيح البخاري (۹۷)]..
قال الحافظ ابن حجر: مطابقة الحديث للترجمة في الأمة بالنص، وفي الأهل بالقياس، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء7(7) [فتح الباري (١٩٠/١)]..
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدہ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرْقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»8(8) [رواه أبو داود (٤٩٥) وغيره، وقال الألباني: حسن صحيح]..
قال ابن كثير: قال الفقهاء: وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي وترك المنكر، والله الموفق9(9) [تفسير القرآن العظيم (١٦٧/٨)]..
حرص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على وصية أبنائهم بالدين وشرائعه
قال الله تعالى: (ووَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الَّذِينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَابِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهَا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة:].
وهذا لقمان يعظ ابنه؛ قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابنى لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:] الآيات من سورة لقمان.
والأدلة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم على مسؤولية الرجل عن تعليم أهله ورعايتهم كثيرة.
حدود الرفق والإجبار والتحذير في التربية
والأصل أخذهم بالرفق واللين…
ويمكن اللجوء للإجبار – أحيانا- إذا كان الرفق لا يجدي مع بعضهم، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده – المتقدم، وفيه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءً عَشْرِ..».
وعن عكرمة قَالَ: “كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَجْعَل في رجلَى الْكَبْل يُعَلِّمُنِي الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُنِي السُّنة”10(10) [رواه ابن سعد (۲۸۷/۵) وغيره، بسند صحيح]..
قال الحافظ: والكبل… هو القيد11(11) [فتح الباري (٧٥/٥)]..
وهذا يدل على شدة حرص ابن عباس رضي الله عنهما على تعليم عكرمة وهو مولى له، فالحرص على تعليم الأبناء والبنات ومن تلزم تربيته من الأقارب من باب أولى.
وقد ثبت ما يدل على إشاعة جو التحذير الدائم لمن تضعف همته أو يقصر من عموم أهل البيت؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّقُوا السَّوْطَ حيثُ يَرَاهُ أهلُ البيتِ ، فإنه أَدَبٌ لهم»12(12) [رواه الطبراني في الكبير (10671) وغيره، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4022)] ..
قال المناوي: «علقوا السوط حيث يراه أهل البيت» فيرتدعون عن ملابسة الرذائل خوفًا لأن ينالهم منه نائل؛ قال ابن الأنباري: لم يرد به الضرب به؛ لأنه لم يأمر بذلك أحدا، وإنما أراد لا ترفع أدبك عنهم13(13) [فيض القدير (٣٢٥/٤)]..
ومثل هذا الحديث ما ثبت عن أبي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قالَ أوصاني النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ بتِسعٍ: «لا تشرِكْ باللَّهِ شيئًا ولو قُطِّعتَ أو حُرِّقتَ بالنَّارِ ولا تترُكِ الصَّلاةَ متعمِّدًا فإنَّهُ من ترك الصَّلاةَ متعمِّدًا برئِتْ منهُ ذمَّةُ اللَّهِ وأطِع والدَيكَ وإن أمراكَ أن تخرُجَ من مالِكَ ولا تفرَّ منَ الزَّحفِ وإن كانَ في النَّاسِ موتٌ وإنَّ هلكت وفرَّ أصحابُكَ وإيَّاكَ وشربَ الخمرِ فإنَّها مفتاحُ كلِّ شرٍّ ولا تنازعِ الأمرَ أهلَه وإن رأيتَ أنَّك أنت وأنفِق على أهلِكَ من طَوْلِك وأخِفْهُم في اللَّهِ لا ترفَعْ عصاكَ على أهلِكَ»14(14) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (۱۸)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد، وصححه في الإرواء (٢٠٢٦) بمجموع طرقه]..
الناس يمتثلون للأوامر أكثر وأسرع…إذا امتثلها أولوا الأمر والكبراء من أهل العلم
وأولوا الأمر وأهل العلم والفضل يشتد في حقهم الأمر، عن سالم عن أبيه – يعني عبد الله بن عمر – قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا نَهَى النَّاسَ عَنْ شَيْءٍ دَخلَ إلى أَهْلِهِ -أَوْ قَالَ: جَمَعَ- فَقَالَ: إِنيَّ نَهَيْتُ عَن كَذَا وَكَذَا، وَالنَّاسُ إِنما يَنظُرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن وَقَعْتُمْ وَقَعُوا، وَإِنْ هِبْتُمْ هَابُوا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أُوتى برجلٍ مِنكُمْ وَقَعَ في شَيْءٍ مما نَهَيْتُ عنه النَّاسَ إلَّا أضعفتُ لَهُ الْعُقُوبَةَ لِمَكَانِهِ مِنِّي، فَمَنْ شَاءَ فليتقدَّمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَتأخر”15(15) [رواه عبد الرزاق (۲۰۷۱۳) بسند صحيح]..
وهذا من عظيم فقه عمر رضي الله عنه؛ فإن الناس يمتثلون للأوامر التي يطبقها أولوا الأمر والكبراء من أهل العلم ونحوهم أكثر وأسرع…
وأما الجهر بإنكار المنكرات على مرتكبيها فكثير جدا في السنة النبوية، وقد أفردنا لها مختصرا لطيفا… وقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلّم الغضب لله عز وجل عند انتهاك الحرمات؛ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: “ما خير رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بين أمرَيْنِ إِلَّا أَخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها”16(16) [متفق عليه]..
فعلى كل من ولاه الله عز وجل رعية أن يقوم فيها بحق الله عز وجل فيشيع بين الناس العلم النافع وينزجروا عن مواقعة المنكرات..
وفقنا الله تعالى وعموم المسلمين لما يحبه ويرضاه.
الهوامش
(1) [رواه الطبري (٤٩٨/٢٣) بسند حسن].
(2) [رواه الطبري (٤٩٨/٢٣) بسند صحيح].
(3) [متفق عليه].
(4) [رواه أبو عوانة في المستخرج (٧٠٣٦) وغيره، وصححه ابن حجر في الفتح (۱۳ /۱۱۳) والألباني في صحيح الترغيب (١٩٦٧)].
(5) [شرح مسلم (۲۱۳/۱۲)] .
(6) [صحيح البخاري (۹۷)].
(7) [فتح الباري (١٩٠/١)].
(8) [رواه أبو داود (٤٩٥) وغيره، وقال الألباني: حسن صحيح].
(9) [تفسير القرآن العظيم (١٦٧/٨)].
(10) [رواه ابن سعد (۲۸۷/۵) وغيره، بسند صحيح].
(11) [فتح الباري (٧٥/٥)].
(12) [رواه الطبراني في الكبير (۱۰6۷۱) وغيره، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (٤٠٢٢)] .
(13) [فيض القدير (٣٢٥/٤)].
(14) [أخرجه البخاري في الأدب المفرد (۱۸)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد، وصححه في الإرواء (٢٠٢٦) بمجموع طرقه].
(15) [رواه عبد الرزاق (۲۰۷۱۳) بسند صحيح].
(16) [متفق عليه].