يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد أو يزدرى فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية. فما هو هذا الخلق؟!
أهمية علو الهمّة
يقول ممشاد الدينوريّ:
(همتك فاحفظها، فإن الهمّة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال)1(1) ((إحياء فقه الدعوة)) للأستاذ الراشد، مجلة المجتمع: العدد 136..
ويقول ابن القيم رحمه الله:
(لابد للسالك من همة تسيِّره وترقيه، وعلم يبصِّره ويهديه)2(2) ((الدرر الكامنة)): 4/ 21..
وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم الدرعيّ:
(كن رجلاً رجله في الثرى وهمه في الثريا، وما افترقت الناس إلا في الهمم، من علت همته علت رتبته، ولا يكون أحدٌ إلا فيما رضيت له همته)3(6) المصدر السابق..
فالهمة هي عمود أمر الإنسان والأمر المهم في دنياه، ويتضح بما يلي أهميتها:
أولاً: تحقيق كثير من الأمور مما يعده عامة الناس خيالاً لا يتحقق
وهذا الأمر مشاهد معروف عند أهل الهمم، إذ يستطيعون – بتوفيق الله لهم أولاً، وبهمتهم ثانياً – إنجاز كثير من الأعمال التي يستعظم بعضَها من قعدت به همته ويظنها خيالاً.
– وأعظم مثال على هذا سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، إذ المعروف عند أهل التواريخ أن بناء الأمم يحتاج إلى أجيال لتحقيقه، لكنه صلى الله عليه وسلم استطاع بناء خير أمة أُخرجت للناس في أقلَّ من ربع قرن، واستطاعت هذه الأمة أن تنير بالإسلام غالب الأجزاء المعروفة آنذاك، وجهاده صلى الله عليه وسلم وعمله وهمته العالية في بناء الأمة أمرّ معروف، وهو مما تقاصر عنه أطماع أهل الهمّة العالية وخيالاتهم وما يتطلعون إليه.
– والصدِّيق رضي الله عنه استطاع – في أقل من سنتين – أن يخرج من دائرة حصار المرتدين، ولم يمت إلا وجيوشه تحاصر أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت، هذا وقد نهاه كبار الصحابة عن حرب المرتدين وظنوا أنه لا يستطيع أن يقوم في وجه العرب كلهم ، ولكن همته العالية أبَتْ عليه ذلك واستطاع أن ينجز ما ظنه الناس خيالاً لا ينجز.
– وقس على هذا أمر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى أنه من عظمة همته في طلب الحق قال له علي رضي الله عنه:
(لقد أذللت الخلفاء من بعدك يا أمير المؤمنين)4(4) تاريخ عمر بن الخطاب ، ابن الجوزي..
– ويصلح أن يكون أمر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز مثالاً يستضاء به لطالب الهمّة العالية ، إذ أنه حاول إرجاع الناس إلى ما كان عليه الصدر الأول، ولقد حقق كثيراً من النجاح، رحمه الله.
أمثلة على علو الهمّة في عصرنا
وهناك أمثلة كثيرة مبثوثة في التواريخ، ولكن لنقترب قليلاً من عصرنا، ونحلِّق قريباً من ديارنا، ولنضرب مثلين على علو الهمّة لا أكاد أجد لهما – فيما أعلم – نظيراً:
– أما أحدهما فشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي استطاع في مدة وجيزة إخراج مجتمعه من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد بهمة وعزيمة نادرتين.
– وأما الآخر فالإمام حسن البنا رحمه الله، إذ كانت حياته مثلاً جميلاً لعلو الهمّة، ومن أراد الإنصاف فليراجع (مذكرات الدعوة والداعية) ، (ورسائله) التي تفوح بعلو الهمّة وقوة الإرادة، وكيف لا يكون كذلك وقد كان يخاطب أتباعه بقوله: (أحلام الأمس حقائق اليوم ، وأحلام اليوم حقائق الغد).
ثانياً: الوصول إلى مراتب عليا في العبادة والزهد
وهذا مَعْلَم بارز في حياة النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة ومن تبعهم بإحسان، يقول حذيفة رضي الله عنه:
(صليت مع النبي – صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مّربسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه)5(5) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ودعاؤه بالليل..
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
(صليت مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأطال حتى هممت بأمر سوء، قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه)6(6) المصدر السابق..
وهذا معاذ بن جبل رضي الله عنه على فراش الموت يذكر أموراً تدل على همّته في العبادة والزهد، فروي عنه أنه قال:
(اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا ولا طول المكث فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن كنت أحب البقاء لمكابدة الليل الطويل، وظمأ الهواجر في الحر الشديد، ولمزاحمة العلماء بالركب في حلَق الذكر)7(7) ((حلية الأولياء)): 1/ 239..
هذا وقد كان يعيش في دمشق ولكنه علا بهمته عما فيها من مغريات وجمال.
وهذا الإمام مالك بن أنس رحمه الله إمام دار الهجرة قد روى عنه الإمام ابن القاسم هذه الحادثة:
(كنت آتي مالكاً غلساً8(8) انظر إلى هذه الهمة العالية إذ يأتيه قبل الفجر، وفي أيامنا قلّ من يجلس مستيقظاً بعد صلاة الفجر إلى أن يصلي ركعتين بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، وإذا طلب من أحد الدرس بعد الفجر يعتذر بأنه موعد غير مناسب، وهذا حتى في أيام الإجازات التي ليس فيها عمل صباحيّ مبكر يحتاج إلى راحة. فأسأله عن مسألتين، ثلاثة، أربعة، وكنت أجد منه انشراح الصدر، فكنت آتي كلّ سحر، فتوسدت مرة في عتبته، فغلبتني عيني فنمت، وخرج مالك إلى المسجد فلم أشعر به، فركضتني سوداء له برجلها وقالت لي: إن مولاك لا يغفل كما تغفل أنت، اليوم له تسع وأربعون سنة ما صلى الصبح إلا بوضوء العَتَمَة9(9) أي العشاء.، ظنت السوداء أنه مولاه من كثرة اختلافه إليه)10(10) ((ترتيب المدارك)): 3/ 250..
وإذا أردت التوسع في أمثلة عبادة السلف وزهدهم فسيطول بي الأمر، وحسبي ما أوردته دليلاً على علو هممهم.
ثالثاً: البعد عن سفاسف الأمور ودناياها
صاحب الهمّة العالية لا يرضى لنفسه دنايا الأمور بل يطمح دائماً إلى ما هو أفضل وأحسن، فتجده يترفع عن مجالس اللغو وإضاعة الوقت، وينأى بنفسه عنها.
يقول الإمام ابن الجوزيّ متألماً من حال من يقطع يومه وليلته في سفاسف الأمور:
(قد رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه غزل وسمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري وما عندهم خبر، ورأيت النادرين قد فهموا معنى الزمان وتهيأوا للرحيل، فالله الله في مواسم العمر، والبدارَ البدارَ قبل الفوات، ونافسوا الزمان)11(11) ((قيمة الزمن عند العلماء)): 27 – 28..
ولما فرّ عبد الرحمن الداخل – صقر قريش – من العباسين وتوجه تلقاء الأندلس أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال:
(إن هذه من القلب والعين بمكان، وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي، ولا حاجة لي بها الآن، وردّها على صاحبها)12(12) ((نفح الطيب)): 4/ 43.
إن الإسلام – وهو الدين الشامل الخاتم – قد أبيح فيه الترويح والتنفيس، ولكن أن يُخطأ في تقدير هذا الترويح فيُجعل هو الأصل، فهذا من الدنايا التي تُنزه عنها الأديان وترتفع عنها همة الإنسان.
رابعاً: صاحب الهمّة العالية يُعتمد عليه، وتناط به الأمور الصعبة وتوكل إليه
وهذا أمر مشاهد معروف، فإن كل رؤساء ومدراء الجمعيات والمؤسسات يطمحون للعمل مع صاحب الهمّة العالية ويطمئنون له ويسعدون به، كيف لا وهو عوض عن فريق من العاملين، وكذلك صاحب الهمّة العالية في الدعوة يكون بمثابة فريق من الدعاة، ويرفع الله به الدعوة درجات.
وقد قيل:
(ذو الهمّة وإن حط نفسَه تأبى إلا العلوّ، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً)13(13) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 445..
خامساً: صاحب الهمّة العالية يستفيد من حياته أعظم استفادة، وتكون أوقاته مستثمرة بنّاءة
وهذا هو مطمع الصالحين ومراد العالمين ومجال المتنافسين، وقد كان السلف رحمهم الله يضربون أعظم الأمثلة في هذا المجال، وحسبي في هذا الأمر أن أورد مثالين:
1- كان الإمام ابن عقيل الحنبليّ يقول:
(إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح)14(14) ((الوقت هو الحياة)): 178..
2- ووصف الإمام النوويّ حياته لتلميذه أبي الحسن ابن العطار فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً وتصحيحاً: درسين في (الوسيط) ، ودرساً في (المهذب) ، ودرساً في صحيح مسلم، ودرساً في (اللمع) لابن جنّي ، ودرساً في إصلاح المنطق، ودرساً في التصريف، ودرساً في أصول الفقه، ودرساً في أسماء الرجال، ودرساً في أصول الدين، قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله تعالى في وقتي)15(15) ((تذكرة الحفاظ)): 4/ 147..
وقال أبو الحسن العطّار:
(ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يُضيع له وقتاً لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق.
قلت (أي الذهبي): مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الورع، والمراقبة، وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها) 16(16) ((تذكرة الحفاظ)): 4/ 147..
وإليك – أخي القارىء – كلاماً مهماً لأحد الغربيين يوضح حال أهل الهمّة مع وقته:
قال د. ماردن:
(كل رجل ناجح لديه نوع من الشّباك يلتقط به نحاتات وقراضات الزمان، ونعني بها فَضَلات الأيام والأجزاء الصغيرة من الساعات مما يَكنِسه معظم الناس بين مهملات الحياة، وإن الرجل الذي يدخر كل الدقائق المفردة، وأنصاف الساعات، والأعياد غير المنتظرة، والفسحات التي بين وقت وآخر، والفترات التي تنقضي في انتظار أشخاص يتأخرون عن مواعيد مضروبة لهم، ويستعمل كلَّ هذه الأوقات، ويستفيد منها ليأتي بنتائج باهرة يدهش لها الذين لم يفطنوا لهذا السر العظيم الشأن)17(17) ((سبيلك إلى الشهرة والنجاح)): 56..
سادساً: صاحب الهمّة العالية قدوة للناس
صاحب الهمّة قدوة في مجتمعه، ينظر إلى حاله القاعدون وأنصاف الكسالى والفاترون فيقتدون بهمته، ويرون ما كانوا يظنونه أمراً مسطوراً في الكتب القديمة قد انتهى وعُدم من دنيا الناس، يرونه واقعاً متحققاً في حياتهم، فيظل هذا الشخص رمزاً للناس ومحل ضرب أمثالهم.
سابعاً: تغيير طريقة حياة الأفراد والشعوب
يقول الشيخ الأستاذ محمد الخضر حسين شارحاً المراد:
(يسمو هذا الخلق بصاحبه فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يُضطهد أو يزدرى فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من سقوط ويبدلهم بالخمول نباهة وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها … أما صغير الهمّة فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حِطَّة ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيث تنحط أهواؤهم)18(18) ((رسائل الإصلاح)): 2/ 88..
الهوامش
(1) ((إحياء فقه الدعوة)) للأستاذ الراشد، مجلة المجتمع: العدد 136.
(2) ((الدرر الكامنة)): 4/ 21.
(3) المصدر السابق.
(4) تاريخ عمر بن الخطاب ، ابن الجوزي.
(5) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة النبي – صلى الله عليه وسلم – ودعاؤه بالليل.
(6) المصدر السابق.
(7) ((حلية الأولياء)): 1/ 239.
(8) انظر إلى هذه الهمة العالية إذ يأتيه قبل الفجر، وفي أيامنا قلّ من يجلس مستيقظاً بعد صلاة الفجر إلى أن يصلي ركعتين بعد ارتفاع الشمس قدر رمح، وإذا طلب من أحد الدرس بعد الفجر يعتذر بأنه موعد غير مناسب، وهذا حتى في أيام الإجازات التي ليس فيها عمل صباحيّ مبكر يحتاج إلى راحة.
(9) أي العشاء.
(10) ((ترتيب المدارك)): 3/ 250.
(11) ((قيمة الزمن عند العلماء)): 27 – 28.
(12) ((نفح الطيب)): 4/ 43
(13) ((محاضرات الأدباء)): 1/ 445.
(14) ((الوقت هو الحياة)): 178.
(15) ((تذكرة الحفاظ)): 4/ 147.
(16) ((تذكرة الحفاظ)): 4/ 147.
(17) ((سبيلك إلى الشهرة والنجاح)): 56.
(18) ((رسائل الإصلاح)): 2/ 88.
المصدر
كتاب: “الهمة طريق إلى القمة” مُحَمَّد بن حَسَن بْن عَقيل مُوسَى الشَّريْف، ص27-42.