الواجب على عامة المسلمين وأمرائهم وحكامهم، وأهل الحل والعقد فيهم: أن يتقوا الله عز وجل ويحكّموا شريعته في بلدانهم وسائر شئونهم، وأن يقوا أنفسهم ومَن تحت ولايتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأن يعتبروا بما حلّ في البلدان التي أعرضت عن حكم الله، وسارت في ركاب من قلد الغربيين، واتبع طريقتهم، من الاختلاف والتفرق وضروب الفتن، وقلة الخيرات، وكون بعضهم يقتل بعضا، ولا يزال الأمر عندهم في شدة.

آثار الحكم بغير ما أنزل الله

للحكم بغير ما أنزل الله آثاره السيئة في حياة الفرد وحياة الأمة، وفساد الحياة كلها.

أ – آثاره في حياة الفرد

وذلك يكون بفراغ النفس وانحراف السلوك، فإن النفس البشرية إذا لم تكن عامرة بالإيمان بالله وحده، خاضعة لشريعته مزقتها الأهواء والشهوات، وأورثتها الاضطراب والخلل، والحيرة والفراغ، فالعبد المؤمن يدين لإله واحد، يطيع أمره، ويخضع لسلطانه، فهو يعرف طريقا واحدا يسلكه، ولا تتنازعه قوة أخرى تشده إليها كالعبد الذي يملكه سيد واحد، يتلقى منه أوامره فيتمثلها، يعمل ما يرضيه، ويسير في اتجاه واحد لا ينازعه فيه منازع، فهو مستقر النفس مستريح البال (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) [الزمر:29] إنهما لا يستويان، فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد يتعلق بإله واحد، يهتدي به ويسير على شرعه ويؤمن بأنه مصدر ما في الحياة من نفع وضر، فإليه يتجه في كل أحواله، ومنه يستمد العون، إنه يسلك اتجاها واحدا لا يزيغ عنه، فيحقق بذلك الاستقامة والطمأنينة والاستقرار.

وخواء النفس من الدين، في فراغها من الانصياع لشريعة الله يبعث فيها الضجر والملل فتنفس عن ضيقها بالانحرافات السلوكية، والشذوذ في المجتمع، وتلك حقيقة يسجلها واقع العالم الحديث، فهذه الدول الراقية قد استطاعت أن تحقق للإنسان متعة المادة، ولكنها جعلته فارغ الروح، يطارده هذا الفراغ، فيهرب من الحياة الناعمة التي يعيشها، بل يهرب من نفسه التي بين جنبيه، فيلجأ إلى التخلص من ذلك الشقاء بالانتحار الذي يفقده الحياة إلى الأبد، أو بإدمان المخدرات والخمور حتى ينسى الحياة وينسى نفسه بالسكر فترة من الزمن، وتدل إحصائيات هذه الدول على أن الأمراض العصبية وحوادث الانتحار، ونسبة الجريمة والشذوذ ترتفع من سنة إلى أخرى وتزداد من عام لآخر، وحين يفقد أحدهم وسيلة الهرب من الحياة يلجأ إلى الشذوذ والخروج عن مظاهر المجتمع، وليست ظاهرة ” الهيبز ” و ” الخنافس ” سوى التعبير عن هذه الحقيقة المرة.

ب- آثار الحكم بغير ما أنزل الله في حياة الأمة

وللحكم بغير ما أنزل الله آثاره السيئة في حياة الأمة، وكيان المجتمع، لأن الأمة التي تعيش بلا ضمير ديني لا يحول القانون الوضعي بينها وبين ارتكاب الجريمة والفساد في الأرض.

لقد تقدمت الدراسات النفسية، والدراسات الاجتماعية، والدراسات القانونية لتحد من تفاقم الشر وانتشار الجريمة ولكنها باءت بالفشل، ففي طبيعة البشر أن يتمرد على البشر إنه يشعر إزاء سائر الناس أنه إنسان وأنهم أناس وأن هذا الاشتراك في البشرية يقتضي أن يكون الجميع سواء في الحقوق كلها، فعلام يدين بالولاء والطاعة لقانون من وضع البشر؟

أيدين له فرارا من جزاء مخالفة بحرمان دنيوي؟ أو عقوبة دنيوية؟ إذا فالخطب غير عسير، ففي استطاعته أن ينقض عرى هذا القانون عروة عروة، ويهدم بناءه لبنة لبنة في غفلة من حراسة القانون ورجال الأمن ولا يمتلك القانون عقوبة في الدار الآخرة، ولا يعلم أسرار الناس وبواطنهم.

أما التشريع السماوي فإنه يستمد سلطته من الله الذي خلق الخلق، وهو يعلم السر وأخفى (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19] وهذا يبعث في نفس المسلم مراقبة الله والحفاظ على شريعته في الغيب والشهادة، بل يغرس فيها الإخلاص الذي يرعى حرمات الله عن صدق، ظاهرا وباطنا، فطاعة التشريع السماوي من كتاب الله أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – لا يكفي في تحقيقها السلوك الظاهري في مرأى الناس، بل لا بد فيها من خشوع القلب، واطمئنان النفس، والانقياد لها بين حنايا الضلوع، والإفلات من عقوبة الدنيا بالتستر والمخاتلة لا يغني فتيلا عن عقوبة الحياة الآخرة، ولذا قرن الله في أحكام الشريعة الجزاء الأخروي بالجزاء الدنيوي، فإن أفلت المرء من هذا لم يفلت من ذاك. يقول تعالى في القتل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء:93] ويقول في المحاربة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:33].

وفي القذف: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور: 23].

وبهذا يتربى الضمير المؤمن الحي الذي يسهر على رعاية حرمات الله، فإن القضاء لا يحل حراما ولا يحرم حلالا.

سمع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خصومه بباب حجرته فخرج إليهم، فقال: «أيها الناس إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صدق فأقضي له بذلك فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها»1[1] صحيح البخاري المظالم والغصب [2458] ، صحيح مسلم الأقضية [1713] ، سنن النسائي آداب القضاة [5401] ، سنن أبو داود الأقضية [3583] ، سنن ابن ماجه الأحكام [2317] ، موطأ مالك الأقضية [1424] . صحيح البخاري المظالم والغصب [2458] ، صحيح مسلم الأقضية [1713] ، سنن النسائي آداب القضاة [5401] ، سنن أبو داود الأقضية [3583] ، سنن ابن ماجه الأحكام [2317] ، موطأ مالك الأقضية [1424] .

والأمة التي تحيد عن شريعة الله بعد أن أكرمها الله تعالى بها تستحق عقاب الله، وإذا كان الله قد أكرم هذه الأمة فلم يعاقبها عقوبة إبادة كما عاقب الأمم المكذبة السابقة، فإنه يعاقبها بكوارث الحياة، ونوازل الدهر، فيتخلى عن نصره لها، وتتوالى عليها أحداث الزمن، ويذيقها عدوها بأسه، فتطحنها نكبات الهزيمة، وتسام الذل والهوان، وينوء كاهلها بمصائب الخوف والفقر، ويومئذ لا تنفعها المعذرة حتى تفيء إلى شرع الله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) [النساء:61] (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) [النساء:62] (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل:112] ويقول تعالى في تهديد من تسول لهم نفوسهم الخروج على شريعة الله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة:49].

ويذكر الله تعالى أنه حيث كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أمته في حياته، أو كانت شريعته فيها بعد مماته، فإن الخروج عن طاعته وطاعة شريعته يورث الضعف والمشقة والهلاك، ولكن حب الإيمان وجمال معانيه في القلب وكراهة المخالفة – لكن هذا العاصم من الخروج عن الطاعة الذي فيه الكفر والفسوق والعصيان (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) [الحجرات:7] (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات:8]

ولقد استبدلت كثير من دول الإسلام بشريعة الله قوانين البشر ومذاهبهم ورفعت شعارات براقة، وأوهمت شعوبها بأن هذا هو سبيل رخائها وعزها فماذا كانت النهاية؟ كانت عار الهزيمة، وذل الخيانة، ومأساة التضليل، وانهيار الاقتصاد، وفساد المجتمع، وضياع الفضيلة، وإهدار القيم، ووأد الحريات، وتلك هي سنة الله في أمة أنزل الله في كتابها قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال:53] وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11]

جـ – وللحكم بغير ما أنزل الله آثاره السيئة في فساد الحياة كلها

لقد استخلف الله الإنسان على الأرض ليعمرها بهداية السماء، وسخر له ما في السماوات والأرض جميعا منه، ووفقه إلى الاستفادة من طاقات الكائنات وما أودعه الله فيها من قوى، واستطاع الإنسان في العصر الحديث أن يبتكر ويبدع، وأن يأتي بعجائب الحياة، ويستحوذ على طاقات هائلة في الكون، وحسن استخدام هذه الطاقات هو الذي يحقق للبشرية الرخاء والأمن، وسبيل ذلك هو الوقوف في استخدامها عند شرع الله بالحكمة والعدل وحماية الحق والذود عن حياضه، ورفع لوائه، وهذا يعني أن تكون تلك القوى بيد مؤمنة أمينة مهتدية، وإلا كانت وسائل هدم وخراب ودمار وفساد.

هذه حقيقة يدركها الناس اليوم، وهم يشاهدون التقدم العلمي الباهر في الاستفادة من طاقات الأرض والماء والهواء، وقد تحول إلى صراع دولي مدمر، يوشك أن يأتي على بنيان الحضارة الإنسانية من القواعد، ويحيل الحياة إلى جحيم لا يطاق، ولو اشتعلت حرب ذرية نووية لأصبح الهواء سموما قاتلة والعمران براكين ثائرة، والجو نارا متقدة.

فإذا أضفنا إلى ذلك كله ما تحمله المذاهب والقوانين البشرية من تدمير للأخلاق، وانهيار للمجتمع أدركنا كيف يكون فساد السماوات والأرض على يد الإنسان المتمرد على شريعة الله الذي يجعل الحق تبعا لهواه، وهذا هو ما ذكره الله تعالى في قوله (بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) [المؤمنون:70] (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:71]

إن الحق هو ناموس الله للوجود كله، وهو ثابت لا يتغير ولا تتخلف سنته، وأهواء الناس متعارضة متضاربة، ولو ساير الحق أهواءهم لفسدت أوضاع الحياة كلها، تفسد حياة المكلفين بفساد أهوائهم وأعمالهم، وتفسد سائر الكائنات لأنهم قائمون عليها بالتدبير تسخيرا من الله، فالكون كله لا يكون متناسق الأجزاء حتى يكون خاضعا لله شرعا وتسخيرا.

والأمة التي أشرقت فيها رسالة الإسلام هي أولى الأمم لاتباع هذه الرسالة لما في ذلك من مجد لها وشرف، وقد ظلت الأمة العربية لا ذكر لها في التاريخ حتى جاء الإسلام فارتفع شأنها، وذاع صيتها، وظل هذا الذكر يدوي في آذان الدنيا ما استمسكت به، وتضاءل بقدر تخليها عنه، ولن يعود لها ذكر مرة أخرى إلا به. فهل من مجيب؟

الهوامش

[1] صحيح البخاري المظالم والغصب [2458] ، صحيح مسلم الأقضية [1713] ، سنن النسائي آداب القضاة [5401] ، سنن أبو داود الأقضية [3583] ، سنن ابن ماجه الأحكام [2317] ، موطأ مالك الأقضية [1424] .

المصدر

مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول 1395هـ، ” وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في شئون الحياة كلها، مناع خليل القطان.

اقرأ أيضا

منزلة الحكم بما أنزل الله من الدين

القانون طاغوت العصر

جريمة إقصاء الشريعة

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (3) موجِبات حق التشريع

الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة

التعليقات غير متاحة