سورة العصر جاءت في غاية الشمول والتكامل والترابط، لتوضيح سبب سعادة الإنسان أو شقائه، فيها بيان لأصول الدين وفروعه، وبيان لسبيل المؤمنين المؤدي للربح والفوز بالجنة والنجاة من النار، فهي عظيمة القدر، عميقة المضمون، كثيرة النفع لمن تدبَّرها وعمل بما فيها.

البيان المجمل للسورة ومقاصدها

سورة العصر مكية: في قول ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعليه الجمهور ، وعدادها في ترتيب النزول الثالثة عشرة ، نزلت بعد الانشراح ، وقبل سورة العاديات ، وهي ثلاث آيات1(1) انظر تفسير سورة العصر للدكتور عبد العزيز قارئ ص 13 وقد نقله عن الدر المنثور 6/390..

(وقد تضمنت هذه السورة القصيرة ذات الآيات الثلاث منهجا کاملا للحياة البشرية يرسم طريق النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة ، وأوجزت معالم هذا المنهج في أربعة أمور: الإيمان، والعمل الصالح، والدعوة إلى الدين الحق، والصبر والثبات عليه، وكل من أخطأ هذا المنهج أو غفل عنه فإنه هالك خاسر كما هو حال أغلب الناس على مر العصور)2(2) المصدر السابق ص 16(بتصرف يسير)..

(وأقسم الله تعالى ب ﴿وَالْعَصْرِ﴾ – وهو الدهر- لانطوائه على تعاجيب الأمور ، ولأنه يذكر بما فيه من النعم وأضدادها فينبه الإنسان على أنه مستعد للخسران والسعادة . ويدخل في العصر الليل والنهار وعمر الإنسان)3(3) محاسن التأويل القاسمي باختصار ..

والمقسم عليه هو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ وهو حقيقة هامة مخيفة: إن جنس الإنسان الغالب على حاله الخسران ؛ فهو في تجارة رأس ماله فيها عمره ، والغالب أنه يضيعه فيما يضره ولا ينفعه ؛ لذا تجد أكثر الناس هالكين بسبب انشغالهم بحب الدنيا واستغراقهم في طلبها ؛ يصرفون أعمارهم في مباغيهم التي لا ينتفعون بها ، فهم مشغولون بالفاني عن الباقي ، ومشتغلون بالضار ، ولاهون عن النافع ؛ ولهذا حق عليهم الخسار وأحاط بهم .

ولا يسلم من هذا الحكم العام على جنس الإنسان إلا القليل ؛ وهم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بجوارحهم وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ ، وهذا من أعمالهم الصالحة ، وهو أن يوصي بعضهم بعضا بالتمسك بالدين الحق الذي هو الإسلام ، وبدعوة الناس إليه ؛ فهم جماعة متعاونون متعاضدون على ذلك ويوصي بعضهم بعضا بالثبات على ذلك ، والصبر على الطاعة ، وعلى القيام بأمر الله، والدعوة إلى دينه وتحمل الأذى في سبيله، راضين ظاهرا وباطنا بما يقدره الله سبحانه وتعالى عليهم.

فأهل النجاة من الدمار والسلامة من الخسار إنما ظفروا بالفوز والفلاح وربحوا في تجارتهم بتحقيقهم ذلك على مرتبتين:

أولاهما: تكميلهم لأنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، والأخرى تكميلهم لغيرهم بالدعوة إلى الإسلام والثبات والصبر عليه4(4) انظر تفسير سورة العصر د. قارئ ص18-20..

وقفات وتأملات مع سورة العصر

– مناسبة السورة لما قبلها وما بعدها

ذكر الدكتور عبد العزيز قارئ حفظه الله شيئا من هذه المناسبة فقال: (أربع سور بينها تلاحم عجيب وحسن اتساق، ففي سورة القارعة بين الله تعالى أهوال يوم القيامة ، وانقسام الناس فيها إلى سعيد ينجو من العذاب ويحظى بالثواب ، فهو في حال طيبة ، وشقي ذهبت أعماله هباء منثورا فمصيره إلى النار، ثم في سورة التكاثر بين أن من أسباب تردي الأشقياء في نار جهنم اشتغالهم بدنياهم عن دينهم فملأوا موازينهم بالحطام وسودوا صحائفهم بالآثام، ونبه إلى أن الناس سيسألون عما يعملون وعن النعيم الذي يتمتعون به ؛ فالحساب آت والبعث قریب ، ثم في سورة العصر بین حال الإنسان – جنس الإنسان – وأنه غلبت عليه الخسارة ؛ فهو بطبعه ونقصانه يفني عمره فيما لا ينفعه إلا القليل ، وبينت السورة من هم هؤلاء القليل الذين نجوا من ذلك الخسران وسعدوا بالربح العظيم في تجارتهم .

ثم في سورة الهمزة عاد يحذر الإنسان من الانشغال بجمع المال؛ فهو بطبيعته مجبول على حبه كما بين في سورة العاديات، وشرح هنا عواقب الاستسلام لهذا الميل الغريزي الذي قد ينتهي به إلى الحطمة التي هي نار الله الموقدة)5(5) تفسير سورة العصر د. قارئ ص 14، 15 ..

– ما نوع الخسران الذي يحل بالإنسان إذا لم يتصف بأسباب النجاة المذكورة كلها أو بعضها؟

والجواب على هذه المسألة فيه تفصيل: وذلك أن الخسران مراتب متفاوتة ، فمنه الخسارة التامة الأبدية ؛ وذلك لمن لم يأت بالإيمان أو جنس العمل6(6) كأن يكون معرضا متوليا عن طاعة الله عز وجل . حيث الخلود في النار عياذا بالله، ومنه الخسارة من وجه دون وجه ؛ وذلك في من حقق مطلق الإيمان لكنه أخل ببعض

العمل من ترك لبعض الواجبات أو فعل لبعض المحرمات غير المكفرة أو أخل ببعض الحق ، أو ضعف صبره على ذلك ، فمثل هذا قد عرض نفسه لمطلق الخسران ، وإن كان مآله الجنة بسبب ما معه من الإيمان والإذعان .

والحاصل: أن ما كان من هذه الصفات الأربع تركه ينقض الإيمان بالكلية ؛ فإن مرتكبه يقع في الخسران التام المؤبد والعياذ بالله عز وجل .

وما كان منها تركه لا يقدح في أصل الإيمان وإنما في كماله الواجب فإن مرتكبه معرض للخسران والعذاب بوجه من الوجوه حتى يتطهر ويكون في مصاف الرابحين الفائزين . .

وعلى هذا فإنه يمكننا تقسيم الناس في الربح والخسران إلى الأقسام التالية:

1- أهل الخسران المطلق ؛ وهم الكفار وكل من لم يتحقق فيه أصل الإيمان .

2- أهل مطلق الخسران ؛ وهم من تحقق فيه أصل الإيمان وأخل ببعض الواجبات أو فعل بعض المحرمات ولم يتب من ذلك ، فهذا معرض للخسران المؤقت وليس الخسران التام المؤبد.

3- الرابحون الناجون من مطلق الخسران؛ وهم المكملون لهذه الصفات الأربع المذكورة في هذه السورة الجليلة ، فمثل هؤلاء لا يتعرضون للخسران بوجه من الوجوه ، وإنما هم الفائزون الذين يدخلون الجنة بلا عذاب ؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: (والخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خسارا مطلقا، كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم واستحق الجحيم ، وقد يكون خسارا من بعض الوجوه دون بعض ، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات:

– الإيمان: بما أمر الله بالإيمان به ، ولا يكون الإيمان بدون العلم ، فهو فرع عنه لا يتم إلا به .

– العمل الصالح: وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة المتعلقة بحقوق الله ، وحقوق عباده الواجبة والمستحبة.

– والتواصي بالحق: الذي هو الإيمان والعمل الصالح ؛ أي يوصي بعضهم بعضا بذلك ، ويحثه عليه ويرغبه فيه .

– التواصي بالصبر: على طاعة الله ، وعن معصية الله ، وعلى أقدار الله المؤلمة .

فبالأمرين الأولين يكمل العبد نفسه ، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم)7(7) تفسير السعدي: تفسير سورة العصر ..

ويقول الطاهر بن عاشور في تفسير هذه السورة: (وهذا الخسر متفاوت: فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإيمان بوحدانية الله تعالى ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودون ذلك تكون مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها ، وما حدده الإسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم ؛ إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحش ؛ وهو ما فسر به قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (هود: 114])8(8) التحرير والتنوير 15/531-532..

وقال الألوسي: (واستدل المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لأنه لم يستثنى فيها إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وأجيب عنه بأنه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر ، وأما على كونه مخلدا في النار فلا ، كيف والخسر عام فهو إما بالخلود إن مات کافرا وإما بالدخول في النار إن مات عاصيا ولم يغفر له ، وإما بفوات الدرجات العاليات إن غفر له . وهو جواب حسن)9(9) روح المعاني 15/293..

– إذا كان الإيمان والعمل الصالح أصلي النجاة فما وجه ذكر التواصي بالحق وبالصبر بعدهما؟

والجواب من وجوه:

الوجه الأول: أن يقال بأن التواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من الأعمال الصالحة بل من أفضلها ؛ حيث يوصي بعضهم بعضا بالتمسك بالحق الذي هو دين الإسلام ، متبعين في ذلك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهم جماعة متعاونون يدعون إلى الله تعالى ، ويوصي بعضهم بعضا بالثبات على الحق والصبر عليه وتحمل الأذى في سبيله ، ولعل مجيء التواصي بالحق والصبر بعد العمل الصالح من باب ذکر الخاص بعد العام ، لإبراز کمال الاعتناء بهما ؛ لأن أهل النجاة من الخسران إنما يحصلون على ذلك بتكميل أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح ، وتكميل غيرهم بالدعوة إلى الحق والصبر عليه ، بل إن الإيمان والعمل الصالح لا يكملان عند العبد إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر .

الوجه الثاني: وهو فرع عن الأول؛ وذلك أن الإيمان والعمل الصالح مع كونهما الأصلين المهمين في النجاة إلا أنهما لا يقومان ولا يستقيم العبد عليهما ويثبت إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر ؛ فمن عدم عنده التواصي بالحق وعدم عنده الصبر فإن إيمانه وعمله الصالح لا يتماسكان بل يزولان ، فلابد للإيمان والعمل الصالح من حب للحق ودعوة إليه ، ولابد من صبر على تكاليف الإيمان والعمل الصالح ، حيث لابد من الصبر على فعل الواجبات وترك المحرمات وأقدار الله المؤلمة ، فمن عدم الصبر على ذلك كله فلا إيمان له ، فضلا عن أن يكون له عمل صالح ، كما أن في ذلك إشارة إلى أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثره في الحفاظ على الإيمان والأعمال الصالحة ، ومدافعة ما يضادهما ويفسدهما من الشرور والفساد .

الوجه الثالث: ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذه الآيات حيث يقول:(وتأمل حكمة القرآن لما قال: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، فإنه ضيق الاستثناء وخصصه فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ . ولما قال: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين﴾ [التين: 5] وسع الاستثناء وعممه ، فقال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [التين:6] ولم يقل ﴿وَتَوَاصَوْا﴾ ، فإن التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح ، وهو قدر زائد على مجرد فعله ، فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح فصار في خسر ، ولا يلزم أن يكون في أسفل سافلين فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره .

فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة ، وقد تكون فرض على الأعيان وقد تكون فرض على الكفاية ، وقد تكون مستحبة .

والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب والحق الذي يستحب، والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يستحب ؛ فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ، ولم يأمروا غيرهم به ، وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم ، فمطلق الخسار شيء والخسار المطلق شيء ، وهو سبحانه إنما قال: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ ومن ربح في سلعة وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنه خسر وأنه ذو خسر كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة)10(10) البخاري ك . الجنائز (1323)، (1324) ، ومسلم ك. الجنائز (945) . ، فهذا نوع تفريط وهو نوع خسر بالنسبة إلى من حصل ربح ذلك .

ولما قال في سورة التين: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين﴾ قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ فقسم الناس إلى هذين القسمين فقط . ولما كان الإنسان له قوتان: قوة العلم وقوة العمل ، وله حالتان: حالة يأتمر فيها بأمر غيره ، وحالة يأمر فيها غيره؛ استثنى سبحانه من كمل قوته العلمية بالإيمان ، وقوته العملية بالعمل الصالح وانقاد لأمر غيره له بذلك وأمر غيره به من الإنسان الذي هو في خسر ؛ فإن العبد له حالتان: حالة كمال في نفسه ، وحالة تكمیل لغيره ، وكماله وتكميله موقوف على أمرين: علم بالحق ، وصبر عليه؛ فتضمنت الآية جميع مراتب الكمال الإنساني من: العلم النافع ، والعمل الصالح، والإحسان إلى نفسه بذلك، وإلى أخيه به، وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك)11(11) بدائع التفاسير 5/329..

الهوامش

(1) انظر تفسير سورة العصر للدكتور عبد العزيز قارئ ص 13 وقد نقله عن الدر المنثور 6/390.

(2) المصدر السابق ص 16(بتصرف يسير).

(3) محاسن التأويل القاسمي باختصار .

(4) انظر تفسير سورة العصر د. قارئ ص18-20.

(5) تفسير سورة العصر د. قارئ ص 14، 15 .

(6) كأن يكون معرضا متوليا عن طاعة الله عز وجل .

(7) تفسير السعدي: تفسير سورة العصر .

(8) التحرير والتنوير 15/531-532.

(9) روح المعاني 15/293.

(10) البخاري ك . الجنائز (1323)، (1324) ، ومسلم ك. الجنائز (945) .

(11) بدائع التفاسير 5/329.

اقرأ أيضا

قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ…..دروس وعبر

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ….في رحاب آية

إن ربك حكيم عليم… لوازم ومقتضيات

قل هو من عند أنفسكم…المعنى والدلالة

 

التعليقات غير متاحة