الرضا: وإن كان الحديث عنه قليلاً، لكنه عمل قلبي عظيم، وهو الذي يندرج فيه شرطي القبول، والانقياد، وهما من شروط كلمة التوحيد، التي لابد لتحققها من شروط؛ لأنها لو كانت مجرد كلمة أو مجرد لفظ يقال باللسان، لكان كل من قالها في زمن رسول الله -حتى المنافقين الذين هم في الدرك الأسفل من النار- من أهل النجاة والفوز عند الله تبارك وتعالى، ولكن لها شروط عظام، وقيود ثقال، منها المحبة، واليقين، والإخلاص، والرضا الذي يجمع بين الانقياد، والقبول، أو الإذعان والتسليم، بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا كان الرضا بهذه المثابة، كان هو أساس الدين، وقاعدة الإيمان .

الرضا يشتمل على الأصول الثلاثة

1- معرفة الله.

2- معرفة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

3- معرفة دين الإسلام.

كلها تندرج تحت الرضا

قيمة الرضا وأهميته

يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه سلم رسولاً » وقال في الحديث الآخر: «من قال حين يسمع النداء -الأذان-: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً غُفرت له ذنوبه » وجاء في رواية أخرى، من قال حين يمسي أو يصبح: «رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، دخل الجنة».

فانظروا إلى قيمة الرضا، فقد اشتمل على الأصول الثلاثة جميعاً، وإذا كان المؤمن لا بد أن يرضى بهذه الأصول الثلاثة التي لا شيء من أمور الدين يخرج عنها -وهذا يدل على أهمية الرضا- فلابد أن يعلم حقيقة الرضا، ودرجات الرضا، وأن يتجنب ما هو ضد الرضا.

حقيقة الرضا وأقسامه

فإذا كان أصل الدين وأساسه، وقاعدته، هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي هي التوحيد بأنواعه الثلاثة “توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات” فإن الرضا يشمل هذه الأنواع الثلاثة، ويشتمل على الفروع والأحكام أيضاً.

أولا توحيد الربوبية

وسورة الأنعام هي سورة التوحيد العظمى، فهذه السورة من أولها إلى آخرها توحيد، حتى ما ذكر فيها من تشريع، فهو مرتبط أساساً بقضية التوحيد، وإفراد الله تبارك وتعالى بالطاعة والتشريع.

ومن ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام:164]. وهذا في آخرها، وهو دليل على توحيد الربوبية، لأنه قال (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً) [الأنعام:164] فلا بد للعبد أن يرضى بربوبية الله تبارك وتعالى معتقداً أن الله تبارك وتعالى هو الخالق، والرازق، والمحي، والمميت، والذي يدبر الأمر، ويصرِّف هذا الكون، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يملك أحداً غير الله تبارك وتعالى التصرف في مثقال ذرة في هذا الكون، إلا بإذن الله وقدره وتدبير منه تبارك وتعالى، فهذا هو الرضا بالله تعالى رباً.

وأما توحيد الألوهية

وهو الرضا بالله تبارك وتعالى إلهاً ومعبوداً، وولياً، فقد جاء في قوله تعالى: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام:14]، والولي: المقصود به الإله المعبود المحبوب، لأن أصل العبادة هي المحبة وهي التأله والوله وتعلق القلب، ومن تعلق قلبه بشيءٍ فقد عبده، والذي يستحق أن تتعلق به القلوب، وأن تعظمه، وأن تؤلهه، هو الله تبارك وتعالى.

والولاية المقصود بها هنا العبادة، والتأله والتقرب إلى الله تبارك وتعالى، والتي من لوازمها، الموالاة في الله، والمعاداة في الله، وهي أن يحب الإنسان المرء لا يحبه إلا لله، وأن يبغض المرء لا يبغضه إلا لله، فيكون قلبه ولاءً وعداءً وحباً وكرهاًَ في الله، ومن أجل الله تبارك وتعالى فهذا من لوازم الولاية.

ذكر ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام:114] قال: وهذا هو النوع الثالث من أنواع الرضا.

وهو أن يرضى بالله وحده لا شريك له حكماً، فيتحاكم ويحاكم إليه، في كل شأن من شئونه، فتراه يحتكم إلى ما أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه، وإلى ما جاء به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا كانت درجات الرضا ومقاماته.

مراتب الرضا ودرجاته

وتقسيم مراتب الرضا، هو بحسب تحكيم العبد لما أنزل الله، ولما جاء عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصول الدين وفي فروعه، وفي معاملاته مع الناس وفي كل شأن من شئون حياته، سواء أكانت أُمةً، أم دولةً، أم أفراداً، فلا بد أن يكون التحاكم والرجوع هو إلى الله تبارك وتعالى وإلى ما أنزل، كما قال الله تبارك وتعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65].

ثم إن ضد الرضا هو: المنافاة، والمعارضة، والاعتراض، والمدافعة، والمنازعة، والممانعة، فلو تأملنا في هذه الآية الكريمة لوجدنا أنها تبين مراتب الرضا، ودرجاته التي بها ينتفي كل منازعة، ومعارضة، فهي تبدأ أولاً بالتحكيم، وتنتهي بالتسليم.

 المرتبة الأولى من مراتب الرضا: التحكيم

أما التحكيم فلا بد منه لصحة إيمان العبد، فلا يكون المسلم مؤمناً، ولا مسلماً إلا بأن يحكِّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وأصل التحكيم: الإقرار بأن ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحاكم على كل ما سواه، كما جاء في الحديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » قال العلماء: التقدير ”ليس حاكماً وقاضياً عليه أمرنا فهو رد” فأمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يقضي ويحكم على الأهواء، والرغبات، والشهوات والقوانين، والعادات، والأعراف، والأوضاع، وكل ما يخطر ببالك مما يعارض ما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يمكن أن يعارضه، فيجب أن يكون الحاكم عليه هو ما جاء به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يقدم على ذلك شيء مهما كان.

فهذا التحكيم من وقع ومن وقر في قلبه وأقر به فقد حقق درجة الإسلام، وحقق المرتبة الأولى من مراتب الرضا، وهي الرضا بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، لكن لا يزال في الدرجة الأولى، وحاله كحال الأعراب الذين قال الله تعالى فيهم : (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:14]، فمن كان هذا حاله فهو بحاجة إلى درجةٍ أعلى حتى يكون من أهل الإيمان، ولذلك بعد قوله: (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ، قال: (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) [النساء:65].

 المرتبة الثانية من مراتب الرضا: انتفاء الحرج

والحرج هو: التردد، والريبة، والشك فيكون في النفس منازعة، وممانعة -وإن كانت خفية- واعتراض -وإن كان غير معمول به- فهو قد تحاكم إلى شرع الله لكن يجب عليه أن ينفي الحرج الذي يقع في القلب، فكثير من القلوب عندما تسمع حكم رسول الله يقع فيها كثير من الأسئلة والشكوك.

فيقول: كيف أعمل بهذا؟! أيصح هذا؟! وإن كان هذا الحديث قد قاله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن هل فعلاً ينطبق على الواقع؟! هل فعلاً أن هذا علاج حقيقي لمرض من الأمراض الاجتماعية أو النفسية؟! فهذه الشكوك، والريب، والخواطر، التي ترد على القلوب لا بد أن تزول لكي ينال المرء درجة الإيمان، التي هي المرتبة الثانية من مراتب الدين.

ومن مراتب الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) [النساء:65].

فمهما كان الأمر، ومهما خالف العادات والتقاليد، ومهما رأيت الخلق أطبقوا على مخالفته، فعليك أن تعلم أن الحق، والخير والهدى، والصواب، فيما قضى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيما جاء به من أمور الدين أصولاً، أو فروعاً، في المعاملات، أو في الأحكام، أو في أي شيء مما جاء به، وكذلك أن يؤمن أن الأخبار كلها حق، وصدق، ولا يكون في نفس المؤمن أدنى حرج من أن هذا الخبر يحتمل أن يكون كذلك أو لا يحتمل!

فهذا هو حال أصحاب الدرجة الثانية من المؤمنين.

 المرتبة الثالثة من مراتب الرضا: التسليم

التسليم هو أفضل المراتب وأعلاها، التي يتنافس فيها المقربون، والصديقون، وأولياء الله تبارك وتعالى، وهي التي قال الله تعالى عنها: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65]، فهذه الدرجة هي درجة التسليم الكامل، والانقياد المطلق، بحيث لا توجد أدنى منازعة، ولا معارضة، بل بالعكس فهنا يكون الاندفاع، والرغبة، والتصديق المطلق، والمحبة لكل ما جاء به محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخبر عنه، كما يجب عليه أن يسمع قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل شيء ثم يصدق بذلك تصديقاً لا يداخله أدنى ريبة ولا شك، ولا يمكن أن يخطر بباله أدنى اعتراض، مهما قلَّ، فهذا هو مقام الإحسان.

الرضا بأحكام الله والصبر عليها من خلال ما سبق يمكن إجمال مراتب الدين كالتالي:

الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان وهو أعلاها مرتبة وأعظمها.

الرضا ذروة سنام الإيمان

ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: ”إن الرضا من أعمال القلوب، نظير الجهاد من أعمال الجوارح” فأفضل وأعلى وأشد أعمال الجوارح هو الجهاد، الذي يخرج فيه الإنسان بماله ونفسه في سبيل الله من أجل أن يقاتل أعداء الله تعالى، متعرضاً للموت، ولفقد الروح التي هي أغلى ما عند كل مخلوق، فهذا في عمل الجوارح.

وأما أعمال القلوب فهي درجات، فالعمل الذي يقابل الإحسان هو الرضا، لذلك يقول أبو الدرداء -رضي الله عنه- وهو من تعلمون حكمته، وعظيم منزلته في الدين، وبين أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم، والرضا بالقدر].

فكل ما حَكم الله تبارك وتعالى به أو شَرعه فلا بد أن تصبر عليه وأن تتعبد الله به، وأن تصبر وتصابر وتصطبر لكي تعبد الله كما أمر الله وشرع الله، فهذا هو الصبر للحكم، وأما الرضا بالقدر فهو نوع من أنواع الرضا حيث إن أكثر اعتراض العامة يكون على أقدار الله، فعامة الخلق أكثر ما يعترضون على أفعال الله، وأحكامه، وأقداره -والعياذ بالله – فالمثال جاء بالقدر؛ وإلا فالرضا بالدين، وبالشرع، وبالأمر أعظم من ذلك، وكلها لا بد منها، وهي مطلوبة، فجعل الرضا ذروة سنام الإيمان، وبذلك يتبين لنا أهمية هذا العمل القلبي العظيم، ونعلم أن الله تبارك وتعالى عندما خاطبنا، بين لنا إكمال الدين والإيمان، خاطبنا فيه أو ذكره لنا باسم الرضا كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً) [المائدة:3]، فإن هذا يستلزم في المقابل أن نرضى بما كتب وأنزل وشرع سبحانه وتعالى، وبما قضى به الله تبارك وتعالى إما في كتابه، أو على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

المصدر

المكتبة الشاملة: محاضرة مفرغة بعنوان “الرضا من أعمال القلوب” لفضيلة الشيخ د. سفر الحوالي، بتصرف يسير .

اقرأ أيضا

الإخلاص من معالم دعوة الأنبياء

التضرع إلى الله تعـــالى

الحث على الصبر وفضله في الكتاب والسنة

علاقة المحبة بالإيمان والعبادة

التعليقات غير متاحة