إن القلوب تصدأ وجلاؤها القرآن الكريم، والقرآن هو النبع الحقيقي الذي لا ينضب، وهو الدستور الذي يحق للأمة المسلمة أن تفاخر به في الوقت الذي تساق فيه الأمم والشعوب الأخرى سوقًا إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية.

القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لهذا الدين

وهو الكتاب الحكيم الذي أنزل على النبي الكريم، وإذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد أوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر في وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم، فإن الذي أُوْتيه محمد صلى الله عليه وسلم ظلَّ وسيظلّ معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين، ويراها المتأخرون كما رآها المتقدمون …. وتلك- وربِّي- معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين الذي أراد الله له أن يكون آخر الأديان، وتتناسب مع القرآن الذي أراد الله أن يكون آخر كتاب ينزل من السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كله: «ما من الأنبياء نبيٍ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»1(1) الحديث أخرجه مسلم ج 1/ 134..

لقد نزل القرآن في أمةٍ تتباهى بالفصاحة والبيان، وتفاخر بالبلاغة وجزل الكلام، تعقد لها الاجتماعات، ويجتمع في الأسواق والمناسبات فحول الشعراء، وأرباب الفصاحة للحوار والمفاخرة وإظهار التحدي .. فنزل القرآن ليتحداهم جميعًا، إنسهم، وجنهم (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء: 88] بل بلغ التحدي إظهار عجزهم عن تأليف سورة من مثله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [هود: 13].

القرآن الكريم يخترق قلوب من هم على الكفر والضلال

وفوق ذلك فقد استطاع القرآن الكريم أن يخترق قلوبهم وهم بعد على الكفر والضلال، وما زال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والإيمان، يقول جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة (وذلك في وفد أسارى بدر) فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) [الطور: 35-37] كاد قلبي يطير (كما روى ذلك الشيخان في صحيحيهما)2(2) (البخاري مع الفتح 8/ 603، ومسلم 1/ 338، والإصابة 2/ 65، 66)..

وفي رواية: (كان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي) وإن كان قد تأخر إسلامه إلى ما بين الحديبية والفتح)3(3) (الإصابة 2/ 66). وقبل جبير كانت قصة عتبة بن ربيعة، وهي مشهورة، وإسنادها حسن، وخلاصتها أن قريشًا بعد ما رأت انتشار الإسلام اختارت أحسن رجالاتها ليكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو وليد عتبة بن ربيعة، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا، وهو منصت له، فلما فرغ قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال أنصت فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت: 13] فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله، واحتبس عن قريش فترة، وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم، فقال بعضهم لبعض: نقسم، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك؟ قال ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر عليهم فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال هذا رأي فيه فاصنعوا ما بدا لكم 4(4) تفسير ابن كثير 7/ 151، 152..

القرآن وأثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى

قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) المائدة: 83].

شأن الجان مع القرآن وتأثرهم به

بل تأثر مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع، فقالوا: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً) (الجن: 1].

وأخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا- يعني الجن- على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قالوا أنصتوا، قالوا صه! وكانوا تسعة، أحدهم زوبعة، فأنزل الله عز وجل: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [الأحقاف: 29 – 32]5(5) (الصحيح المسند من دلائل النبوة/ 3)..

شأن الملائكة مع القرآن الكريم

وإذا كان هذا منطق الجن تجاه القرآن، فللملائكة كذلك شأن مع القرآن الكريم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال: بينما هو يقرأ القرآن من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكتت الفرس، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما اجتره- يعني ولده حتى لا تطأه الفرس- رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: اقرأ يا بن حضير اقرأ يا بن حضير، قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبًا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها، قال: وتدري ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم6(6) الفتح 9/ 61، مسلم 1/ 5548..

وفي صحح مسلم- أيضًا- عن البراء قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين (والشطن: الحبل الطويل المضطرب، وإنما ربطه بشطنين لقوته وشدته) فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن7(7) مسلم 1/ 547، 548..

القرآن يحول الفضيل بن عياض من قاطع طريق إلى عالم عابد

إخوة الإيمان، وكذلك يكون أثر القرآن حين يتلى، وليس بمستغرب أن يحيل القرآن قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء متميزين، وعباد صالحين، والفضيل بن عياض العالم العابد- عليه رحمة الله- نموذج واضح لما أقوله وقد حكى الذهبي في سير أعلام النبلاء قصة توبته وتأثره بالقرآن فقال: كان الفضيل ابن عياش شاطرًا، (يقطع الطريق) بين أبيورد وسرجس وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تاليًا يتلو: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ … الآية) [الحديد: 16] فلما سمعها قال: بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة (أي مسافرون)، فقال بعضهم نرحل، وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام8(8) السير 8/ 373. رحم الله الفضيل حجة زمانه، وعابد دهره، وأورع الناس من حوله .. وأكرم وأعظم بهذا الكتاب الذي أحيا أمة بعد أن كانت في عداد الموتى.

وصدق الله، وهو أصدق القائلين (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].

المشركون يخافون على أبنائهم من التأثر بالقرآن

أيها المسلمون، ولأثر القرآن على النفوس خشي المشركون على أبنائهم أن يتأثروا به حين يسمعونه من المسلمين الخاشعين لتلاوته، وقصة أبي بكر رضي الله عنه مع ابن الدغنة تكشف عن هذا، وذلك حين خرج أبو بكر مع من خرج يريد الهجرة إلى الحبشة فلقيه (ابن الدغنة) فقال: مثلك لا يخرج يا أبا بكر، وأنا جار لك، ثم جاء ابن الدغنة إلى قريش في ناديها وأعلن جواره له، فلم تكذبه قريش لكن قالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا في ذلك ولا يستعين به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك لأبي بكر، فمكث فترة كذلك، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف (يجتمع) عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه- وكان أبو بكر رجلاً بكاءً لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة يشتكون أبا بكر إليه، ويقولون إنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهَهُ. إلخ القصة التي رواها البخاري في الصحيح9(9) الفتح 6/ 230، 231..

ما هو أثر القرآن علينا نحن المسلمين في هذه الأزمة

إذا كان هذا أثر القرآن وهو غيض من فيض وقليل من كثير فالسؤال هنا الذي يجب أن نسأله أنفسنا: ما هو أثر القرآن علينا نحن المسلمين في هذه الأزمة؟

وقبل هذا السؤال سؤال آخر: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن؟ وما حظنا من الخشوع والتدبر حين يتلى القرآن؟

إن واقع كثير من المسلمين اليوم واقع مر، يرثى له مع الأسف الشديد فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها، والهجر أصبح ديدن المسلمين إلا من رحم الله، البضاعة من كتاب الله مزجاة، ويرحم الله زمانًا كان الشيخ الكبير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أقرئني يا رسول الله؟ قال له: اقرأ ثلاثًا من ذات (ألر). فقال الرجل: كبرت سني واشتد قلبي وغلظ لساني، قال: فاقرأ من ذات (حم) فقال مثل مقالته الأولى، فقال اقرأ ثلاثًا من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه (إذا زلزلت الأرض) حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلح الرويجل، أفلح الرويجل10(10) الحديث رواه أحمد الحاكم وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح. (المسند 10/ 8 ح 6575)...

وإذا كان فضل سورة (الزلزلة) هذا، فما بال من تتوفر لهم الأداة لقراءة القرآن كله، ويتوفر لهم من النشاط والقوة ما يمكنهم من إعادة قراءة القرآن مرة تلو المرة؟ اللهم لا تحرمنا فضلك، ولا تصدنا بسبب ضعف نفوسنا وغلبة شهواتنا عن كتابك.

إخوة الإسلام، هل نسينا أن الحسنة بعشرة أمثالها وأن (ألم) فيها ثلاثة أحرف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف .. فكيف سيكون تعداد الحروف في الصفحة الواحدة، وكم سيكون عدد الحسنات فيها ألا إن فضل الله واسع .. ولكن هل من ساع إلى الخير جهده؟ .

الهوامش

(1) الحديث أخرجه مسلم ج 1/ 134.

(2) (البخاري مع الفتح 8/ 603، ومسلم 1/ 338، والإصابة 2/ 65، 66).

(3) (الإصابة 2/ 66).

(4) تفسير ابن كثير 7/ 151، 152.

(5) (الصحيح المسند من دلائل النبوة/ 3).

(6) الفتح 9/ 61، مسلم 1/ 5548.

(7) مسلم 1/ 547، 548.

(8) السير 8/ 373.

(9) الفتح 6/ 230، 231.

(10) الحديث رواه أحمد الحاكم وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح. (المسند 10/ 8 ح 6575).

المصدر

كتاب: “شعاع من المحراب” ، د. سليمان بن حمد العودة (2/197-205).

اقرأ أيضا

من مفاتيح التعامل مع القرآن (1)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (2)

من مفاتيح التعامل مع القرآن (3)

التعليقات غير متاحة